18 ديسمبر، 2024 9:17 م

غياب صمام أمان العراق

غياب صمام أمان العراق

لامه بعض جاهلينا حين إنشغل بمواجع العراق .. قالوا ” ما لنا والعراق ، يترك شعبه ويذهب الى بغداد ؟! لم يدر كثير منهم أن إستقرار العراق يعني استقرار كردستان ، وتلك كانت رؤية مام جلال ، الخبير بالسياسة ، العالم بدهاليزها ، العارف بجراحات العراق النازفة . ولذلك تحول من ثائر كردي في الجبال الى قائد ” شني ” يقود العراق الى بر الأمان ، فأصبح فعلا ” صمام أمان العراق ” ..

والـ ” شنية ” هذه ، مصطلح جديد ابتكره قائد العراق الجديد مام جلال طالباني حين سألوه ” هل أنت سني أم شيعي ” ؟. فأجاب ” أنا شني ” ! جامعا بين مذهبي الشيعة والسنة بقالب واحد ، وهو التعبير الأمثل للعراق الجديد الذي انتخبه شعبه لرئاسة دولة خارجة لتوها من عهد الدكتاتورية والاستبداد .

كان رمزا سياسيا كرديا وعراقيا يناطح كبار القادة والرموز السياسية والثورية في بلدان العالم .

خاض غمار الثورات والإنتفاضات لعشرات السنين ، صعد الجبال ونزل في الوديان سيرا على الأقدام ، لم ينهكه الجوع والتعب ولا حتى الحرمان من نور الشمس الذي تحجبه قمم جبال قنديل ، غاص في ثلوج الجبال وأوحالها ، عبر الأنهار بالحبال ، وكل ذلك من أجل قضية شعب آمن بعدالتها ومشروعيتها .

كان قائدا منذ نعومة أضفاره ، يخرج من بين صفوف تلامذة مدرسته الابتدائية ليلقي عليهم قصائد ثورية وأناشيد وطنية . ولما يكمل بعد الخامسة عشرة من عمره حتى أصبح عضوا عاملا في الحزب الديمقراطي الكردستاني ، ثم صعد في عشرينياته الى عضوية اللجنة القيادية للحزب ، ثم ترأس في الثلاثين من عمره وفدا للقاء زعيم الأمة العربية جمال عبدالناصر ..

هي اذن خبرة سياسية غنية تراكمت لأكثر من ستين عاما قادته أخيرا الى قصر السلام ببغداد ليجلس على كرسي صدام حسين الذي إستكثر في لحظة طيشه وغروره أن يشمله قرار العفو العام !. ويا للغرابة والعجب المثير للإستنكار ، أن يصدر صدام قرارا بالعفو عن اللصوص والقتلة والمرتشين ويستثني منه جلال طالباني صاحب القضية القومية المشروعة ، وتلك هي حماقة الدكتاتوريين في كل زمان ومكان .

كان منزله في بغداد خيمة يستظل بها كل أقطاب السياسة ، بمأدبة غداء أو عشاء يحل بينهم أكبر معضلات البلد ، وعلى مائدته تتصافى القلوب وتسكت أصوات المدافع والرشاشات ، ويكون كلامه هو الفيصل للنزاعات ، فيسترد الشعب أنفاسه كلما تدخل مام جلال في النزاعات بين الأطراف السياسية .

أما ذلك المشهد البديع وهو يفرد خارطة عثمانية على طاولة مجلس الحكم ليقنع رفاقه بأحقية مطالبة الكرد بمحافظة كركوك ، فإنه مشهد لا ينسى ولا يمحى أبدا من ذاكرة الكركوكيين ، ولا من ذاكرة شعب كردستان .

كم رئيسا وقائدا وزعيما جاء وحكم العراق ثم فشل في توحيد شعبه ، كم منهم جاء معتليا دبابة أمريكية أو راكبا بقطار بريطاني ، ثم سقطوا ومحيت ذكراهم من التاريخ ، الوحيد بينهم كان مام جلال الذي انتخبه الشعب وعاش في ظله بطمأنينة وسلام ، فلولا مام جلال لإنزلق العراق الى مستنقع صراع مذهبي لا تبقي ولا تذر ، خصوصا حين أطل الصراع الطائفي برأسه عام 2006 بين السنة والشيعة .

ولو لم تتحرك قوى الإرهاب الدولي والإقليمي للزج بتلك المجاميع الارهابية المسلحة من القاعدة والزرقاوي والبعثيين الى العراق ، لكان شكل البلد في عهد مام جلال غير هذا الواقع المرير الذي نعيشه كل يوم في ظل الفساد والصراع الطائفي وإسقاط هيبة الدولة من قبل الميليشيات .

كان مام جلال رمزا قوميا بتاريخ الحركة التحررية الكردية ، ورمزا وطنيا بتاريخ العراق الحديث ، ولذلك ترك برحيله فراغا لا يستطيع أحد أن يملئه ، لأنه مقارنة بكل القادة العراقيين قديمهم وحديثهم كان مام جلال هو :

آخر الرجال المحترمين ..