18 ديسمبر، 2024 7:42 م

غوغول وسلفادور دالي

غوغول وسلفادور دالي

كنت أتجول بين لوحات سلفادور دالي الغريبة والعجيبة والجميلة وأتأملها باندهاش واعجاب شديدين , فاقترب مني الفنان التشكيلي الغريب الاطوار دالي وسألني متعجبا – ما الذي جاء بك الى معرضي؟ فأجبته بسؤال ايضا – ولماذا هذا التعجب ؟ فقال ضاحكا – لانك تتنفس هواء الادب الروسي فقط , ولا يوجد هذا الهواء هنا , وأخشى عايك ان تختنق بين لوحاتي , فقلت له وانا اضحك ايضا – نعم , أنا أتنفس هواء الادب الروسي , هذا صحيح , ولهذا أنا هنا , اذ ان بعض الاجواء والملامح في لوحاتك تذكرني بنتاجات غوغول الادبية , فصمت دالي قليلا و برم شاربيه المعقوفتين , ثم قال لي – ادعوك لشرب القهوة والدردشة عن هذا الموضوع الطريف جدا بالنسبة لي , فهل تتقبّل دعوتي ؟ قلت له – نعم وبكل سرور. وهكذا بدأنا بهذا الحديث الممتع ونحن نشرب القهوة معا , واظن ان هذا الحديث ربما سيكون ممتعا للقراء ايضا , ولهذا اقدم خلاصته لهم …
سألني دالي في البداية – اين رأيت أجواء و ملامح نتاجات غوغول الادبية في لوحاتي ؟ فقلت له – في كل لوحاتك , اذ ان عوالكما الفنية , انت وغوغول, مشتركة ومتشابهة بشكل واضح , اذ انكما تستخدمان الخيال الجامح والجميل , الخيال الغريب جدا ولكنه مفهوم للمتلقي , بل وان المتلقي هذا يندهش امام هذا الجمال غير الاعتيادي في اطار هذا الخيال غير الاعتيادي , فقال دالي – لقد سمعت مثل هذه الآراء الغريبة جدا عندما تحدثت مرة مع بعض اللاجئين الروس في باريس , وحتى قال لي أحدهم – ان دالي هو غوغول في الفن التشكيلي , ولكن هذه اول مرة اسمع تلك الآراء من عراقي , ولهذا دعوتك لشرب القهوة والدردشة معك حول ذلك , لانني أعرف , ان العراقيين عموما ينظرون الى غوغول بعيون بيلينسكية بحتة . ضحكت أنا , وقلت له , هذه اول مرة ايضا اسمع بكلمة ( بيلينسكية!) هذه , فما قصتها ؟ ضحك دالي وقال – لقد رسم بيلينسكي صورة غوغول في النصف الاول من القرن التاسع عشر , وعكس بيلينسكي في صورته تلك خصائص ذلك العصر ومشاكله باخلاص , واراد ان يؤكد على صحة آرائه الشخصية البحتة في كل شؤون الحياة ( بما فيها الآراء السياسية) عبر نتاجات غوغول , ولازالت هذه الصورة ذات الصفات النموذجية لذلك الزمان (ملصوقة!) في رؤوس وعقول الكثيرين من الروس طوال قرنين من الزمان تقريبا, اذ ان الاحداث الهائلة في ذلك البلد تسارعت , ولم تسمح لهم ان يتأملوا تلك الصورة القديمة لغوغول او تطويرها , او حتى تشذيبها في الاقل وجعلها تتناسق وتتناغم مع خصائص الازمنة اللاحقة المتنوعة جدا , التي تلتها , و العراقيون يكررون هذه الصورة القديمة ليس الا, الصورة التي (استنسخوها!) طبق الاصل في اواسط القرن العشرين بروسيا السوفيتية , عندما تعرفّوا على الواقع الروسي آنذاك . صمتنا كلانا , دالي وأنا , بعد هذه الاستطرادات الفكرية الحاسمة التي قالها دالي , ثم اضطررت أن اقطع هذا الصمت , وقلت له , انت لا تعرف الظروف الرهيبة , التي مرّت بنا في العراق , والتي جعلت المثقف العراقي ( يستنسخ !) الصور والافكار , ولكن المثقف العراقي وبالتدريج بدأ يتطور , وهو اليوم يختلف عن هؤلاء , الذين ( استنسخوا الصور طبق الاصل في ذلك الزمان!) كما قلت انت . ابتسم دالي وقال لي , انه لا يتابع دقائق احداث العراق ابدا , ولا اي بلد من هذه البلدان المشابهة له , ولكن الصدفة فقط هي التي أتاحت له ان يستمع الآن الى أقوال عراقي , وقال – (المهم بالنسبة لي , هو اني اريد ان اعرف اين وجدت العناصر المشتركة بيني وبين غوغول ) . انتعشت أنا , وقلت له – ان لوحتك الغريبة والرائعة ( اصرار الذاكرة) , حيث الساعات المائعة ذكرتني بغوغول , اذ انك اردت هناك ان توقف الزمن , واوقفته فعلا , لكن الاجواء المحيطة بهذا الفعل الفلسفي الجبار قد ماتت , اي انك اوقفت الزمن لكنك فشلت في ايقاف الحياة وديمومتها , وهذا ما فعله غوغول قبلك بالضبط في الثلث الاول من القرن التاسع عشر, اذ انه انهى مسرحيته المشهورة ( المفتش ) بمشهد صامت رهيب, حيث تجمّد فيه كل ابطال المسرحية , اي انه اوقف الزمن ايضا , ولكنه فشل بايقاف الحياة . انت كررت نفس الفكرة الفلسفية (التي يحلم بها الانسان دائما ) , ولكن بشكل فني جديد و مدهش وجميل وخاص بك وحدك ويرتبط بخيالك الجامح , هذا مثل واحد ليس الا , مثل وجدت به أنفاس غوغول في لوحاتك , واريد ان اتحدث لك عن مثل آخر , اذ انك عرضت في احدى افلامك كيف ان بطلك ( أضاع فمه ) , الا يذكرك هذا الشئ ببطل غوغول الذي ( أضاع أنفه ) في روايته القصيرة – الانف ؟ ضحك دالي , وقال , هذه ملاحظات دقيقة جدا , وربما انعكست في نتاجاتي عبر اللاوعي ليس الا , وهي تحتاج الى تأمّل عميق وهادئ , واراد ان يضيف شيئا , الا ان جرس المنبّه اللعين ايقظني من نومي …