غوغول أصغر من بوشكين بعشر سنوات , اذ انه ولد عام 1809 بينما ولد بوشكين عام 1799,وتوفي بوشكين عام 1837 وكان عمره 38 سنة, اما غوغول فقد عاش بعده 15 سنة, وتوفي عام 1852 وكان عمره 43 سنة,وبقي بوشكين طوال حياته بمثابة استاذ لغوغول, وبقي غوغول طوال حياته محتفظا بشعور التلميذ تجاه استاذه بوشكين,وقد لعب بوشكين دورا كبيرا في حياة غوغول , بينما لم يلعب غوغول اي دور في حياة بوشكين , وكلاهما ابدعا في عدة مجالات فكرية, وكتبا اجناسا ادبية متنوعة, ولكن بوشكين اصبح نجما ساطعا في دنيا الشعر الروسي واطلقوا عليه بحق تسمية –( شمس الشعر الروسي ), اما غوغول فانه لم يقترب من الشعر , بل ابدع في النثر – قصة ومسرحية ورواية واصبح نجما ساطعا ايضا ولكن في النثر الروسي, على الرغم من ان لديه مقاطع نثرية لا يزال الروس يلقونها في حفلاتهم وكأنها مقطوعات شعرية وموسيقية , وكلاهما ( بوشكين وغوغول) اصبحا رائدين كبيرين في مسيرة الادب الروسي والادب العالمي ايضا رغم ان كل واحد منهما تميٌز عن الآخر بشكل واضح في ا لمضمون والشكل والاسلوب الفني للكتابة. ولنبدأ الحديث عن علاقات غوغول وبوشكين ولنتوقف قليلاعند قصة تعارفهما.
في شهر كانون الاول / ديسمبر من عام 1828 وصل الشاب الاوكرايني اليافع نيقولاي فاسيليفيتش غوغول الى مدينة بطرسبورغ , وكان عمره 19 سنة ليس الا, وكان يحلم بالكثير , ولكنه اصطدم بواقع المدينة الكبيرة العملاقة, ولم يستطع التغلب على صعوبات الحياة فيها, وفشل في ان يصبح ممثلا على خشبات مسارحها وحصل على وظائف بائسة تسد بالكاد رمقه, ولكنه وصل الى تحديد هدفه بالحياة – وكان هذا الهدف يكمن باختياره طريق الابداع الادبي وتكريس حياته له, وقد ساعده على ذلك اقترابه من ادباء كبار وعلى رأسهم بوشكين , والذي تم تعارفهما في مايس/مايو عام 1831.كان بوشكين في تلك الفترة اديب روسيا الاول, اما غوغول فلم يكن غير اديب بدأ لتوه في مسيرته الابداعية . شخصية بوشكين اثارت انطباعا هائلا واندهاشا لدى غوغول , ويمكن القول ان هذا الانطباع والاحترام العميق لبوشكين بقي عند غوغول مدى الحياة , وانعكس على الكتابات اللاحقة التي كتبها حول بوشكين , اما بوشكين نفسه فقد اكتشف عبقرية غوغول المتميزة والمليئة بالروح الغرائبية والمرحة , والتي احدثت انطباعا قويا لديه, وهكذا بدأ بوشكين بنشر نتاجات غوغول في مجلته, بل انه اعطاه موضوعين اثنين كتب غوغول على اساسهما مسرحيته الشهيرة – (المفتش ) وتترجم بالعربية ب ( المفتش العام) بتأثير من الترجمة الانكليزية, وروايته الكبرى الخالدة – ( الارواح الميتة ), والتي تترجم بالعربية ايضا ب– ( النفوس الميتة/ الانفس الميتة / ), وقد استمع بوشكين الى غوغول وهو يقرأ له مقاطع منهما بكل سرور وانتباه وقال كلمات حولهما اصبحت جزءا من تقييمات ابداع غوغول في النقد الادبي الروسي بشكل عام ولا زالت مهمة وسائدة لحد الآن.ومن نافل القول ان نشير الى ان بوشكين عندما اعطى لغوغول الفكرتين حول المفتش والارواح الميتة كان يمكن له ان يكتبهما هو نفسه, ومن المؤكد انه كان سيكتبهما بشكل مغاير تماما, اما غوغول فقد استطاع ان يحققهما باسلوبه الغرائبي الفنتازي المدهش, وغالبا ما يستخدم نقاد الادب هذا المثل للتأكيد على ان مضمون اي نتاج ادبي لا يقرر القيمة الحقيقية لذلك النتاج وانما المهم هو النسيج الفني لذلك المضمون.ومن الطريف ان نذكر هنا الى ان غوغول قد أدخل شخصية بوشكين في مسرحيته الكوميدية – ( المفتش), اذ جعل بطل المسرحية خليستيكوف يتحدث عنه اثناء استرساله بالادعاءات امام مستمعيه من الموظفين وعوائلهم في تلك المدينة التي استقبلته واعتبرته مفتشا, وذلك ليبين لهم انه شخصية كبيرة في مدينة بطرسبورغ لدرجة انه صديق شخص كبير وعظيم مثل بوشكين .
النقد الادبي الروسي يجمع باكمله على ان العلاقات بين بوشكين وغوغول كانت متميزة وايجابية تماما, الا ان المخرج السينمائي السوفيتي الكبير ايزنشتين له رأي آخر بشأن تلك العلاقات, اذ انه يرى ان غوغول كان في اعماقه يغار من بوشكين, وانه حاول ان يحاكي نتاجاته ويكتب شيئا مضادا لها, وقد جاء هذا الرأي في مقالة ترجمتها انا عن الروسية ونشرتها بعنوان –(بوشكين وغوغول في وصية المخرج ايزنشتاين) , وهو رأي غريب جدا ولم يتكرر عند الاخرين, ولا اميل شخصيا الى تاييده , وقد سألت بعض اساتذتي الروس حول ذلك ولم يؤيدوه ايضا , ولكني – مع ذلك – ترجمت ذلك الرأي وقدمته للقراء العرب احتراما للمخرج السوفيتي الكبير صاحب فلم المدرعة بوتمكين الشهير, واقرارا بطرافة ذلك الرأي ليس الا.
ورغم كل ما اشرنا اليه اعلاه, يجب التوقف – بلا شك – عند نقطة مهمة جدا في تاريخ الادب الروسي , جاءت بالاساس في ثنايا النقد الادبي الروسي في القرن التاسع عشر واستمرت في الفترة السوفيتية الستالينية وخفتت بعد ( ذوبان الجليد) في ستينيات القرن العشرين ويمكن القول انها تلاشت بعد ذلك, وهي محاولة تقديم غوغول باعتباره مضادا لبوشكين في مسيرة الادب الروسي , وان غوغول بالذات هو الذي أرسى دعائم الواقعية النقدية او الانتقادية كما يسمونها بعض الاحيان , والتي ادٌت الى تعبيد الطريق نحو الواقعية الاشتراكية فيما بعد, ويتحدثون بتفصيل عن المدرسة الطبيعية في الادب الروسي وانها ترتبط باسم غوغول حصرا وبمعزل تماما عن بوشكين , ويؤكدون ان النبرة الواقعية الاجتماعية البحتة في الادب الروسي انطلقت فقط من غوغول بالذات …الخ هذه الافكار, ويشيرون بالاساس الى (الارواح الميتة) و ( المفتش) متناسين ان بوشكين هو الذي اعطى الفكرتين لغوغول , وان شخصية ( الرجل الصغير او الضئيل) في الادب الروسي بدأها بوشكين في ( ناظر المحطة) واضفى عليها غوغول سماته في ( المعطف) و ( مذكرات مجنون), ومتناسين بالطبع ان غوغول هو مؤلف نتاجات اخرى مليئة بالفنتازيا والروح الغرائبية المدهشة الخيال, لدرجة جعلت الفيلسوف الروسي الكبير بيرديايف يقول , ان تكعيبية بيكاسو خرجت من ابداع غوغول, بل وان هناك رأي يشير حتى الى ان غوغول هو الذي اوحى الى ارساء تيار الرعب في السينما فيما بعد.
بوشكين وغوغول – اديبان كبيران وعظيمان في تاريخ الادب الروسي والعالمي , وبالتالي فاننا نجد عند كليهما كل سمات التيارات والاتجاهات الادبية,وان كل واحد منهما يجسد مدرسة متكاملة في الادب ,و مدرسة بوشكين ومدرسة غوغول لا تتناقضان, بل انهما تتناغمان وتنسجمان في اطار الجمال والابداع و ضرورة الفن.