22 نوفمبر، 2024 10:57 م
Search
Close this search box.

غوغول بين روسيا واوكرانيا

غوغول بين روسيا واوكرانيا

لم يكن هذا الموضوع مطروحا في مسيرة الادب الروسي , ولم يتحدث أحد عنه بتاتا آنذاك في الستينيات فصاعدا في الاتحاد السوفيتي او خارجه , لكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 , ظهرت وبرزت مواضيع جديدة وغريبة جدا ترتبط بمسيرة روسيا في مختلف المجالات , بما فيها طبعا في تاريخ الادب الروسي ايضا , و لم تكن هذه المواضيع متوقعة ابدا , ومنها هذا الموضوع عن الكاتب الكبير غوغول , الذي نتوقف عنده في مقالتنا هذه , اذ يتناول الباحثون هذا الموضوع في السنوات الاخيرة , ويحالوا ان يحددوا , هل ان غوغول كاتب روسي ام كاتب اوكراني , وكل يدلو بدلوه كما يقولون , وما أغرب هذا الكلام وهذا الخيار بالنسبة لمؤلف تلك النتاجات الادبية الروسية العملاقة مثل قصص المعطف والانف وغيرها , او مسرحية المفتش ( التي يسمونها المفتش العام ) او رواية الارواح الميّتة ( التي يسمونها الانفس الميتة) , تلك النتاجات التي يعرفها العالم باكمله , وهي طبعا جزء لا يتجزأ من الادب الروسي .
ظهر غوغول كما هو معروف في العقد الثاني من القرن التاسع عشر في الامبراطورية الروسية , وساهم جنبا لجنب مع بوشكين وادباء تلك الحقبة في مسيرة الادب الروسي وتوسيعها وتعميقها , واصبح – في الثلث الاول من ذلك القرن – اسما كبيرا ولامعا وعالميا في هذا الادب , رغم انه ( اي غوغول ) ولد في اوكرانيا من اب وام اوكرانيين , وان لغته الام كانت اللغة الاوكرانية طبعا ( وهي لغة شقيقة للغة الروسية , اذ انهما لغات سلافية , الا انها – مع ذلك – لغة اخرى ) , اي ان غوغول اوكراني اصيل , او ( ابّا عن جد ) كما نقول بلهجتنا العراقية الجميلة, ولكن اوكرانيا آنذاك كانت جزءا لا يتجزأ من الامبراطورية الروسية ( واللغة الرسمية والسائدة في تلك الامبراطورية الواسعة هي اللغة الروسية ), ولم تكن اوكرانيا يوما من الايام دولة مستقلة عنها , وكانت تسمى بكلمة روسية واحدة هي – ( مالو راسّيا ) , اي روسيا الصغرى , وهي جزء حيوي جدا من تلك الامبراطورية بكل معنى الكلمة , بل ان الدولة الروسية نفسها , في بدايتها في القرن العاشر , تأسست باسم يرتبط بمدينة كييف الاوكرانية , اذ كانت تلك الدولة نفسها تسمى – ( كييفسكايا رووس ) , و لم تستقر الترجمة العربية لهذه التسمية لحد الان , فالترجمة الحرفية لها هي – ( روسيا الكييفيّة ) , واجتهادات المترجمين العرب كثيرة حول تلك التسمية, وليس ذلك موضوعنا الان.
عندما وصلنا الى موسكو في بداية ستينيات القرن العشرين, وعشنا مع الطلبة الروس في الاقسام الداخلية للطلبة في الجامعات السوفيتية, لم نكن نميّز بين الروس والاوكرانيين بتاتا, اذ كانوا جميعا – بنين وبنات – بالنسبة لنا طلبة روس من حيث (الشكل والمضمون) ان صح التعبير , فكلهم يتكلمون بلغة واحدة هي الروسية, واشكالهم وعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم واعيادهم …الخ واحدة تماما , وحتى الاسماء نفسها , فذاك ايفان ( ودلعه فانيا ) وتلك نتاليا ( ودلعها نتاشا ), و لم نكن آنذاك نعرف – ونحن نعيش بينهم ونتقاسم معهم كل شئ – من هو الروسي منهم ومن هو الاوكراني . كنّا طبعا نميّز بينهم القوقازيين مثلا , من اذربيجانين او جورجيين او أرمن , اذ كانت اشكالهم وتصرفاتهم تختلف عن الروس , والاسماء ايضا تختلف طبعا , وبالتدريج , وبمرور الوقت فهمنا , ان لاريسا من اوكرانيا وساشا من روسيا , الا اننا شعرنا انهم شعب واحد تقريبا, وانهم يتميزون , كما يتميّز ( المصلاوي ) عن ( البصراوي ) كما كنّا نتحدّث بيننا ونحن نضحك ونلهو . وقد تذكرت كل هذا وانا اقرأ ما كتبه أحد الباحثين الروس عن غوغول , اذ كتب يقول , ان الكاتب الروسي العظيم غوغول , هو الابن العظيم للشعب الاوكراني , وان هذا ( العبث ) كما أسماه , في اننا يجب ان نحدد الان هل هو كاتب روسي او اوكراني يجسّد ذلك الانفصال التراجيدي الاليم , الذي حدث بين الشعبين الروسي والاوكراني عام 1991 , وهو انفصال غير طبيعي بالمرّة , اذ لا يمكن ان يكون انفصال بين الكاتب غوغول والانسان غوغول .
ان انفصال روسيا واوكرانيا عن بعضهما بعد كل هذه المسيرة التاريخية المشتركة الطويلة منذ القرن العاشر ولحد الان يعني , كما يقول باحث روسي آخر , اننا يجب ان نفصل بين بوشكين وغوغول , ويستمر بالقول , ان تمثال بوشكين وتمثال غوغول يقفان معا وجنبا الى جنب ابدا في النصب الذي أقامه القيصر الروسي الكساندر الثاني وافتتحه في مدينة نوفغورود بمناسبة الذكرى الالفية لتأسيس الدولة الروسية , و الذي يقف شامخا منذ القرن التاسع عشر و لحد الان , ويختتم هذا الباحث كلامه قائلا , لا يمكن ان نهدم هذا النصب الخالد في تاريخ روسيا .
غوغول الاوكراني وابداعه الروسي هو رمز للتقارب الروحي والتعايش الفكري المتبادل بين روسيا واوكرانيا , رمز التلاحم بين الثقافتين الشقيقتين , رمز لظاهرة خالدة وارتباط عضوي لا ينفصم , ولا يمكن له ان ينفصم ….

أحدث المقالات