النموذج الليبي- الحلقة الثالثة
كنا طرحنا في الحلقة الثانية مجموعة اسئلة بحاجة الى جواب مقنع. محاول لفهم ما جرى ويجري في ليبيا. وبطرح هذه المجموعة من الاسئلة والاجابة عليها بشكل موضوعي وتجرد نحاول تشكيل صورة واضحة لفهم مبني عى اساس علمي سليم لمعضلة عاقبة الربيع العربي الوخيمة ان كان في ليبيا او حتى لكل مسلسل تساقط انظمة الحكم الفردي العربية التي عصفت بها احداث القرن الواحد والعشرين.
سؤالنا الاول الذي نحاول الاجابة عليه في هذه الحلقة: لماذا تفعل المعارضة التي ناضلت وقاومت النظام السابق ببلدها هكذا بعد تمكنها من السلطة؟
اولا علينا ان نعترف بان هذه المعارضة كانت معارضة موجودة قبل سقوط النظام وليست معارضة مصطنعة، بل هي معارضة وطنية حقيقية ونعني بالوطنية انها عملت اصلا داخل الوطن واضطرت للهجرة خارجا لان قسوة النظام لا تسمح باي نوع من ممارسة العمل السياسي حتى لو كان سلميا وعلى مجرد مستوى طرح الآراء لا غير .فكيف بمعارضة تتبنى استراتيجية الاطاحة بالنظام نفسه وتسعى لتنظيم الاحتجاجات وربما بعضها لجأ الى العمل المسلح بغض النظر عما اذا كان اندفاع هذا الجزء منها للعمل المسلح كان بعد استنفاد محاولة التغيير السلمي او قبله. اذ ان استخدام السلاح في التغيير لا يمكن ان تبررها قسوة النظام ولا تصلح ان تكون المعارضة المسلحة عملا اضطراريا تلجأ اليه احزاب سلمية . بل هي الخطة باء لدى احزاب مؤمنة اصلا بالتغيير المسلح وهي بالعادة ليست احزابا ديمقراطية فكل تغيير مسلح للسلطة لم ينجب الا حكما غير ديمقراطي اذا لم نقل استبداديا؟ لا يمكن لنا ان ننكر ان ليبيا دولة الغى النظام الحاكم فيها كل انواع العمل السياسي والحزبي ورفع شعار من تحزب خان وفسر ذلك واتباعه: بأن الحزب حالة كينونية يقوم بها مجموعة افراد يحملون افكار شخصية او مصلحية او متطرفة ، لا يهمهم سواء آرائهم ومصالحهم العقائدية او الاقتصادية او السياسية او الاجتماعية ، ولا يكترثون للفئات الأخرى من المجتمع ،ولا لمصلحة المجتمع ولا لحاجاته او رغباته وفسر ذلك بشكل نظري في كتابه الاخضر بتعريفه الحزب بانه الدكتاتورية العصرية وهو أداة الحكم الدكتاتورية الحديثة إذ إن الحزب هو حكم جزء للكل وهو آخر الأدوات الدكتاتورية. وبما أن الحزب ليس فرداً، فهو يضفي ديمقراطية مظهرية بما يقيمه من مجالس ولجان ودعاية بواسطة أعضائه. فالحزب ليس أداة ديمقراطية على الإطلاق، لأنه يتكون إما من ذوي المصالح الواحدة أو الرؤية الواحدة أو الثقافة الواحدة أو المكان الواحد أو العقيدة الواحدة. هؤلاء يكونون الحزب لتحقيق مصالحهم أو فرض رؤيتهم أو بسط سلطان عقيدتهم على المجتمع ككل، وهدفهم السلطة باسم تنفيذ برنامجهم.
بهذا التنظير من قمة هرم السلطة لم يعد لأي صوت معارض او معترض من فرصة للبقاء فكانت الهجرة القسرية واستثمار مساحة الحرية المتوفرة او الممنوحة لهم من دول تعيش صراعا مع حكم القذافي وهذه الدول اصلا تماثل نظام القذافي في حجب الحريات عن شعبها. ولكن تبرز هنا حقيقة مهمة وهي تنوع التوجهات والافكار لهذه المعارضة فهي ليست اسلامية او ليبرالية او يسارية او حتى ملكية بل هي تجمع كل هذه الفئات وغيرها. ولا يعقل ان يكون جميع اصحاب هذه التوجهات عملاء لدول اجنبية، ولو افترضنا هذه بأن كل هذه المعارضة انما هي صنيعة خارجية فيبرز سؤال اكثر صعوبة واشد استعصاءً على الحل والتفسير، فبتسليم هذه الفرضية فالسؤال اين اذن هي المعارضة الوطنية ؟ واذا كان الجواب بانه لا توجد معارضة وطنية، فأذن اين هو دور الشعب في صناعة معارضته الوطنية؟ ولو قلنا ان الشعب مغلوب على امره فإذن هل يصح ان ندافع عن شعب غير قادر حتى على صناعة معارض واحد ومستسلم كليا لأي يحكمه؟ أليس هذا شعب يسوقه الكل كيفما كانوا؟ وعليه ان يستسلم لقدره ومصيره الذي يحدده اما حكام دكتاتوريين مزاجيون بالغو القسوة او عملاء اجانب فهو في الحالتين لا قيمة له ليس استخفافا به بل لانه فاشل حتى في ابداء الرأي المخلص؟ بل ان اي اعتراض على الوضع الفاسد الذي تعيشه ليبيا ليس له اي قيمة واعتبار، لان معارضة عريضة ومن طيف واسع شمل مناصرو الحكم الملكي السنوسي الذي اطاح به القذافي والقوميين العرب واليساريون والاسلاميون والليبراليون كل هذا الطيف فشل في تقديم نموذج واحد من معارضة شريفة ، فهل يعقل ان معارضة جديدة تخرج من فوضى الصراع الانية على المناصب والثروات وتحتكم للمال والسلاح ولا تجد في سفك الدماء من غضاضة في تصفية حساباتها فهل يعقل سيخرج من هؤلاء معارضة شريفة؟ اذا كان الامر ممن سبق صعبا فلان اصبح بحكم المنطق مستحيلا.
واذا كان الشعب العاجز سابقا وحاضرا ولاحقا بحكم هذا التحليل غير مسؤول عن المعارضة في زمن النظام السابق وانها معارضة ليست وطنية بل تنتمي لأجندات خارجية وانها لم تكن تعارض النظام لأجل مبادئ وافكار او لحقوق الشعب بل على السلطة فقط، فإذن هل يكون للسؤال لماذا تفعل المعارضة التي ناضلت وقاومت النظام السابق ببلدها هكذا بعد تمكنها من السلطة؟ طبعا لا معنى له لأنها وبكل بساطة لا تنتمي للبلد ونحن افترضنا في السؤال انها تنتمي للوطن حينما قلنا ببلدها. ومن لا ينتم للوطن لا يلام على فعله، لأنه يفعل ما فيه مصلحته الخاصة ومصلحة من يعمل لحسابه.
اذن خلاصة الجواب انه لا عجب فيما يحصل ما لم يغير الشعب من استسلامه للقدر ويعيش كما الشعوب الحية يختار مصيره بنفسه لا ما يقرره الغرباء، ويفرز معارضة وطنية وان لم يفعل فعليه ان يعرف ان لا احد لا في الارض ولا السماء سيلتفت الى بكائه ونحيبه وعويله وتذمره واطنان السباب الذي يقذف بها الحاكمين سرا او علنا. وان لا معنى للعجب مما يحصل فانه صراع بين غرباء في ارض على عشب ميت يسمى مجاملة شعبا.