23 ديسمبر، 2024 5:51 ص

التقطُ هذا المصطلح العريق من اروقة التأريخ الحديث واضعه أمام شعاع ضوءٍ شديد التركيز , لنرى ما فيه من مداخلاتٍ وتناقضاتٍ وحتى تضليلٍ لغويٍ متقن .!

مبدئياً وعموماً ” ومن الناحية التعريفية النظرية على الأقل ” فمصطلح ” غسيل الدماغ ” يقصد به تحويل الفرد عن اتجاهاته وقيمه وانماطه السلوكية وقناعاته , وكذلك تبنيه لقيمٍ اخرى جديدة مفروضة عليه من قبل جهةٍ اخرى سواءً كانت دولة او مؤسسة او افراد , كما يندرج هذا المصلح من زاويةٍ ثانويةٍ تحت مسمياتٍ مختلفة مثل ” اعادة تقويم , بناء واعادة بناء الأفكار , والأقناع الخفي وتغيير الأتجاهات ” . لكن واقع الوقائع اكبر من ذلك بكثير

واشدّ جسامةً وخطورة .

بأختزالٍ مختصر ومكثّف المعنى , فغسيل الدماغ يعني تحويل الفرد او الأفراد بالضد او الى اعداءٍ لوطنهم او حكومتهم او شعبهم وبالتالي بتضادٍّ حادّ مع دولتهم .!

المصطلح المشهور هذا يسمى في الأنكليزية Brain washing ويدعى في اللغة الفرنسية Laver le cerveau , كما يسمى في الألمانيةGehirnwashe .

نشيرهنا او نعيد الأشارة الى مسألة الجنود الأمريكيين الذين وقعوا بأسر الجيش الفيتنامي لسنواتٍ طويلة اثناء الحرب الأمريكية – الفيتنامية , وتعرضوا الى عمليات غسيل دماغ مدروسة وممنهجة بأتجاه الأيديولوجية الشيوعية وافكارها الأممية , واعتناقهم الذاتي لتلك الأفكار مّما جعلهم يرفضون العودة الى امريكا بعد انتهاء الحرب وآثروا البقاء في فيتنام والزواج من فتياتٍ فيتنامياتٍ جميلات , ونلحظ هنا أنّ طول فترة الأحتجاز او الأسر هو الذي أدى الى استقبال الجنود الأمريكان للأفكار المضادة لبلادهم وفق أسسٍ سيكولوجيةٍ ممنهجة , بينما لم يحدث مثل ذلك في كلّ الحروب العربية – الأسرائيلية < 1948, 1956, 1967, و 1973 > بسبب قُصر فترة المعارك واصرار الجانب الأسرائيلي على البدء بتبادل الأسرى قبل الشروع في مفاوضات وتفاصيل ما بعد وقف اطلاق النار , ولسنا بصددِ التحدث عن حروبٍ اخرى .!

اُقرّ واعترف بأنّ مصطلح ” غسيل الدماغ ” كان يشكّل صراعاً نفسياً وفكرياً في دواخلي منذ سنواتٍ طوال لعدم قناعتي بتوصيفه اللغوي والموضوعي , وكنت ابتكر ” او ما شابه ذلك ” تعابيراً وتوصيفاتٍ بديلةٍ اخرى , ثمّ اترك الموضوع حتى يفاجأني بمصادفةٍ وغير مصادفة , ويعود ويتكررّ وكأنّ لا مصطلح سواه !

وكنتُ وما فتئتُ ولا ازال ارى أنّ مصطلح ” غسيل الدماغ ” ينبغي ويتوجب أن يكون : ” تلويث الدماغ ” , فالفرد او الجنود حين يقعون اسرى الحروب بقبضة الجيش المعادي لبلدهم تكون ادمغتهم نقيّة ومخلصة تجاه بلادهم , لكنما حين تجري عمليات تغيير رؤاهم وافكارهم بالضد من دولهم , فهذا بدون ادنى شكّ هو عملية ” تلويث للأدمغة وتوسيخها ” .!

جرّاء هذا الصراع اللغوي بين المصطلحين والذي يعشعش في دواخلي , شاءت الصدفة أن التقيت في احدى المرات وعلى طاولة عشاء بصديق قديم < الصحفي البريطاني الشهير ” روبرت فيسك ” وزوجته الأمريكية التي تعمل كمراسلة لإحدى الصحف الأسكتلدنية > وطرأ على بالي في حينها التعرّف على رأيه حول توصيفي للمصطلح من الزاوية اللغوية – الأنكليزية , ولثوانٍ تأمّل فيسك ذلك وقال : < You are definitely & absolutely right – قطعاً وحتماً أنّ توصيفك صائب > إنما المصطلح قد تجذّر عالمياً على هذا الخطأ بمرور السنين , وبالرغم من أنّ تأييد زميلي الصحفي البريطاني لرؤيتي هذه قد رفعَ من نسبة تفاعلي اللغوي وغير اللغوي بين كلا التعبيرين , فآمل كثيراً أن تقوم الجهات الأكاديمية والأعلامية وسواها كذلك في الغاء الإصطلاح السابق وتعميم ” تلويث الدماغ “