10 أبريل، 2024 5:38 م
Search
Close this search box.

غسق أبيض : محنة الفراشة

Facebook
Twitter
LinkedIn

مقداد مسعود: يحاور الشاعر مجيد الموسوي
كلما حدّقت ُ بوجعنا العراقي الدؤوب، تساءلت ُ : لماذا هذا الوجع لايتعرف إلى نفسه إلاّ فينا؟ ومتى تتوفر له إمكانية المكوث في اكتماله؟ لنتحرر منه .ومن باب السؤال وإطلاقه نحو الذات الميتافيزيقية، هل تصغي هذه الذات لسؤال الآخر؟ أم هي تكتفي بتمويله الذاتي للأسئلة ولا تصغي لغير سؤلاتها هي..؟! وهذه الأسئلة وشقيقاتها، لن أبحث لها عن أجوبة في أروقتها الفلسفية، فالسؤال الفلسفي يدور حول نفسه، مفسرا ومفككا تفسيره ..ونحن في مسيس العطش نحبث عن مياه تليق بتصحر أجسادنا الظمأى .من هنا لا مفاتيح خارج الشعر المسكون بالدهش أعني الشعر المصاب بلوثة الشعر..ولم أجد مرشحا للتحاور سوى الأستاذ والصديق الحميم مجيد الموسوي ..
(*)
آواخر القرن العشرين، صحيفة محلية تصدر في البصرة حاورتُ الشاعر الموسوي على مدى صفحة كاملة ومنذ 2015 وكلانا يبحث عن ذلك العدد الذي يبدو توارى في مكتبتينا .
(*)
في أوائل 2016 أتفقنا على صياغة أخرى ..أنا أسأله وهو ينتقي – وهذا مقترحي الذي لم يرفضه – أجوبة ً من قصائده ..وجعلنا السؤال والجواب على شكل جلسات أسبوعية، فهو يزورني في ضحى كل جمعة ونمضي وقتا من التاسعة حتى الواحدة والنصف في غرفة المكتبة..نتحدث فيما بيننا نتبادل الكتب ونقرأ نصوصنا ونخصص وقتاً لسؤال أو أكثر.. ثم نتركه فترة، لنخلّص المحاورة من مالانراه ضروريا..في اليوم الأول من رحيله، أنفردت ليلا مع مشروعنا البسيط وقررت إتمامه فتلك غدت مسؤوليتي أنا فقط للأسف ..
(*)
* أيها الوديع المسالم يا صاحبي ونديمى ودليلي إلى المنتأى أيها الموسوي الفراشة
أريدُ أنّ أدخل غرفتك من توصيفك لها ، وليس مِن خلال ماأراه أنا، فهل ذلك في حيز الإمكان..؟
– هنا يصمتُ مجيد الموسوي يتأملني باسماً، يلتقط كتابا من الرف الثالث من مكتبتي،يتصفحه، يجلس على القنفة، يلتقط أستكانة الشاي لومي بصرة، يرتشف منها يغمض عينيه، ويحلق هناك في صومعته يتأمل الأشياء وينقلها لي :
كتبٌ وقراطيس مصفوفة
وتصاوير:
صورة طفل يمدّ لد ميته يده
وعصافير صفراء،غابية تتخاطف في الدغل
وامرأة شبه عارية يتقاسمها الضوء والظل
نصفين
مشتعلين، وأشرعة تتجمد في أفق ٍ غائم ٍ
وخيول تحمحمم عارية ً
وهي ترعى بمنفسح
السهل…
………
ثمة مكتبة
بحذاء السرير الوحيد
ونافذة نصف مفتوحة ٍ
تتقطر فيها سحائب وهمية
وقصائد مبثوثة
في الهواء
………..
ثمة الشاعر المتوحد
يصغي لنبض خفي تسرّبه ُ الأرض
من جهة ما،ندى، وروح تهوّم في الصمت
تغشاه هادئة
كسراج مضاء!

*والآن من أين نبدأ خطوة أولى، فأنت خاطبت العشب ..أولا.. ثم وصلت إلى (يقظة متأخرة ) وبعد خطوات ثرة لملمت (دموع الأرض) وحين حثثت الخطى صحتُ بك إلى أين ..؟ لمن تركتني يانديمى.. نأيت َ قليلا ً لتقتربت مني وهمستني..(لتأخذني أقدامي حيث تشاء) .. وها أنا ياموسويّ الحميم أسألُك ثانية : إلى أين ؟!
– هاهو الموسوي يتوغل في بياض ٍ الوحشة وهو يرتل :
سأبدأ من الزمن الذي لا زمن له
وأعرف أني سأنتهي إلى منطقة مجهولة
سأدخل غابة الأسئلة المحيّرة
وليس في الفؤاد جواب !
هكذا يبحر ربان الشعر
مشرّعا قلبه وروحه لموج المجهول
واضطراب الأنواء
وتقلبات الفصول ..
أدخل وحدي..أحراش المعاني
وأجمات الكلام، مؤملا ً بزهرة
تبرق في العتمات، فتحدثني عن البداية
لهب الدهشة الأولى
وخفقة الخلق…
*يتعانق الشاعر المجيد الموسوى مع وردة البياض، تتقوس الوردة فوقه وهو يجثو ويتدفق صوته كشفق في ضحى بعيد :
– أبكي
بين يديك أيها المتعالي الجميل
فأنا عصفورتك المهيضة الجناح
أرفرف في فضاء قبتك الشاسعة
وأكتشف حريتي الوحيدة !
من النافذة : صباحا ً
وبروح الناسك النقية الأولى
أرقب الغيمة المرفرفة وهي تُمطر ُ
بغزارة كائناتها البيض :
بلشونات ٍ
ونوارس َ
ولقالق
لتحملها الريح العابرة
من مكان إلى آخر
ذاهبة ً آيبة ..
والبحر السماوي الأزرق
يطوّق العالم الشاسع كلّه..
………..
وأنا أتقلّب على جنبيّ
كما لو كنت ُ
أولد ُ
للتوّ !
*ياصاحبي من خلال المشترك المتجدد بيننا منذ (48) عاما من الود والكتب واليوتوبيا والتواصل الحميم بين عائلتينا .. أراك منشغلا بالذي لايراه سواك ..أعن ِ على تقريب صورة ما لايراه سواك…؟ ومتى تكون رؤياك إليه ؟
– يضع منديلا ورقيا، في الصفحة التي كان يقرأها من كتاب( وصايا لابن عربي)، أختطف الكتاب من بين أصابعه، وأفتح الصفحة المعلّمة بالمنديل الورقي واقرأ السطر التالي
(أحذر أن تنقطع عنه فتكون َ مخدوعا،لأن المخدوع َ مَن ينظر إلى عطاياه فينقطع عن النظر إليه بالنظرإلى عطاياه..تعلق َ الناس ُ بالأسباب، وتعلق الصدّيقون بولي الأسباب ../ 189)
نتبادل النظرات ثم نقتسم البسمة ..ثم ترفرف فراشة صوت الموسوي :
– في كل ليلة ٍ
من عالم مجهول ْ
يقترب ُ الوجه الطفوليّ
إلى نافذتي مغترباً وخائفاً..
يريد أن يقول شيئاً
ماالذي يريد
أن يقول ْ..؟
يدنو إليّ لاهثاً منكسرا ً
كأنما يريد أن يبوح شيئا غائما ً
لكنه يرتد ُّ كالمذعور
دامعاً ويختفي
في
عتمة
الحقول !

*أيها الموسوي يامستشاري في المعرفة والحياة، ماقرأته للتو يعيدني إلى قصيدة قصيرة لك عنوانها(قمر آب) هذا نصها البديع :
قمرٌ هادىٌ
يتدلى قليلا ً
قليلا ً
ويغمرني بشذاه
قمرٌ يتدحرج
في الغيم، أخضر
منكشفاً
ناعماً
كالمياه
…………
أتراه
قمر الروح
أم قمراً آخراً لا نراه !
* أعرف الكثير من سجاياك : التمعن في المهمل، الأشتغال على نبرة هادئة، زهدك فيما يتنافس عليه أذكياء الثقافة ، تماهيك في ذرة رمل ٍ.. صفوك حين تبترد من الهجير بذلك الظل ..
فهل نسجت من كل هذه الخيوط : خرقة ً للصوفي وماء ً للجرة..؟!
– يتأملني ثم يمسك بكلتا كفيه كفيّ، ويحدّق في اللامكان ويتهجد :
أكتفي بالقليل القليل
كوز ماءٍ
وكسرة خبز ٍ
وسجادة للتأمل
أفرشها آن َ يقترب الليل
والنجم يبرق مختلجا ً
في سكون المجرّة
وحدي
ترقرق عيني من الحزن والخوف
أدعو الهي
أجرني
أجرني
فمازلت أطمع ُ أن أتوسّد بين يديك
تراباً نقيا ً
وفيض بكاء ٍ
وقلبا ً ذليل ْ!
*أيها المجيد الموسوي..لقد ورطنا كافافيس بلوثة أيثاكا، وتحدثنا حول ذلك كثيرا : العابر الإستثنائي شيخنا محمود عبد الوهاب وأنت وأنا ..هنا في هذه الحديقة ..في هذا البيت في ضحى تلك الجمعة السعيدة من آواخر آذار 2007 وكأننا نستأنف ما تحدثنا عنه قبل سنوات في مكتبة معهد المعلمين حيث كنت َ تدرّس اللغة العربية…هل تخليت الآن عن تلك المدينة النائية، بعد أن أعلنت في قصيدة لك (بيت بأقصى المدينة) وطبعا تقصد بذلك بيتك في منطقة القبلة
– يعقف الشاعر أصابعه ويرقصّها كأنه يعزف على بيانو..يصمت ثم :
تركت البيت َ والكتب الثمينة والثياب
وعشب الحديقة
ومضيت ُ – وحدي – في متاهات الوحوش
بلا أنيس ٍ يدفع الضجر َ المميت َ
ولا دليل ٍ يكشف الليل الموارب َ
ليس لي إلا القميص الرث َ
أغسله ُ، وألبسه ُ
وأفرشه ُ
– عِشاء ً آن َ يرهقني الطريق ُ –
وبلغة ً من خبز أمي !
*والآن ..الآن ياعبد المجيد بن سلمان الموسوي ..الآن أين وصلت َ..؟
*كم مشيت ُ – هناك – !
أعواما ً وأعواما ً..
وأعواما ً سألت ُ، إلى أن بت ُّ شيخا ً
طاعنا ً
حرضا
ولمّا أبلغن ّ
مدينتي
الأخرى !

*حدّثتكُ مرارا أن للمراثي في شعرك حصة كبيرة، وتناولت ذلك في مقالة لي عن شعرك
هل ترثي نفسك من خلال التراسل المرآوي بينكما : أنت وهم..؟! أم حالة سيكلوجية تكابدها بعمق كسؤال وجودي تترصده ويباغتك بغسقه الأبيض الصلد ..؟ ووجودية هذا السؤال جماعية
وشاهدي في كلامي مجموعتك الشعرية الأولى(مخاطبات العشب) الصادرة عن دار الشؤون الثقافية في سنة 200وقصائد المخاطبات مكتوبة بين خريفيّ(1986-1996) فأنت عنوّنت الفصل الأول (موت موّقت ) و..الثاني (بياض أخير) و.. الثالث (وردة الشوكران )أعني ماهو سر إنشغالك بمهميمنة الموت التي سترافقك في كتبك الشعرية كلها ..؟ وأنت من خلال صداقتنا التي قاربت نصف قرن : إنسان ممراح، وديع مسالم، كما أصفك دائما. محب للجميع متصوف مع الأشياء بجمالية باذخة ..!!
– هنا يلقي نظرة على رفوف الشعر من مكتبتي، ويلتقط أحد دواوينه ويقرأ منه ُ :
أستيقظ أحيانا ً
منتصف الليل
لأبكي أيامي، مرتعبا ً
تسّاقط فوقي شهب ونيازك
من جهة ٍ مجهولة ْ
أستيقظ ُ
مأخوذا ً
بهواجس لا أعرف مصدرها
تأتيني منتصف الليل :
ترى كيف ألملم
روحي المرتعبة ْ ؟
ونداءات المجهول الوحشي
وكيف أهيء روحي
لنداءات الخطوات
المقتربة ْ…!
وبدوري أنهضُ وأسحبُ (مخاطبات العشب)، وأفتح الصفحة المعلّمة بمنديل ورقي أبيض مطوي على شكل مثلث، يتناول الموسوي الكتابَ ويقرأ قصيدة( سؤال قديم) :
حين نموت
هل سنغدو في التراب هادئين
ساكنين مثل ريح سكنت
وتسكن الاحلام
والافكار
والغناء؟
حين نموت
هل سنفنى في التراب
أم نقوم ُ في وريقة
أو برعم ٍ
أو نجمة ٍ
تخضرُ في حديقة السماء؟
*نقرة..نقرتان على باب غرفة: تعني مهيار يحمل صينية فيها فنجانين من القهوة الحلوة وقنينتين
من الماء المعدني وقطع من البسكت والجكليت ..يتبادلان التحية الثانية هو والموسوي الذي يحبه جدا ..أغمزه بعيني اليمنى فيجلس ليشاركنا الإصغاء..بعد القهوة يستأذن مهيار فقد حان وقت مسلسل (توم وجيري) وهو مسلسلي المفضل أيضا.. هنا أتوجه بالسؤال التالي للموسوي
: صداقتنا عميقة واضحة قاربت الخمسين عاما ..لكن عذراً : مَن أنت أيها الموسوي ؟ منذ سنوات ..أعتقد تجاوزت العشرين عاما سميتّك : الوديع المسالم ..لكنني أحتاج التوغل في ينابيع الأولى ..لذا أكرر: من أنت ياصاحبي ودليلي ..؟
*ينهض الموسوي يلتقط ديوانا آخر من دواوينه..يتصفحه .. يعود للجلوس على مسند القنفة ويقرأ:
سأرسم ُ صورتي بيدي
أنا رجل ٌ أحب الناس والدنيا
وأعشق خضرة الكلمات صافية ً
ورقرقة الظلال ِ
أنا رجل ٌ
أفكرُ لا يجوز لنا اغتيال الماءْ
ولا قتل البريء
ولا التوغل في الخيانة ….
…………..
إنني يا أيها الأحفاد ُ
أشهد ُ أنني رجل ٌ
أحب العالم َ
الأرضي ّ
والدنيا
ومخلوقات الإله
بلا أخطاء !

* يا أبا فراس ياصاحبي ونديمي في (مخاطبات العشب) كثيرا من الإهداءات لمن تحبهم .. وبشيء من النرجسية سأفتح صفحة 121، وأتمنى أن أسمعها بصوتك وهكذا يكون مسك حوارنا هذا..أتمنى أن أجعله، ضمن مخطوطة كتابي عنك ..
*يأخذ أبو فراس الأستاذ مجيد الموسوي الكتاب ويقرأ القصيدة واقفا، فأقف قبالته :
(إلى : مقداد مسعود)
(ممتلكات)
حين أغادر
الى العالم الآخر
سأحمل كلّ أشيائي معي
كل مقتنياتي الثمينة
وتلك التي لا تقدّر بثمن !
ابتداء ً بالطنافس
وانتهاء بربطة العنق السوداء
وأنا أعرف
مَن يتربص بي عند بوابة الابدية
لينتزعها مني
ويجردني
من كل شيء
حتى
من سراويلي .
*الحوار منشور في (طريق الشعب) 14/ 2/ 2018

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب