18 ديسمبر، 2024 7:48 م

غزّة : ماقيل وما يقال ، وما لا يقال / ٢

غزّة : ماقيل وما يقال ، وما لا يقال / ٢

لا يحتاج المرء لان يكون فيلسوفاً او عالماً او طبيباً او معالجاً نفسياً بان يدرك ان الجبان الرعديد الذي يستقوي بسلاحه وبالآخرين ، عندما يُصفع على وجهه وقفاه فانه يسرف في رد الفعل متجاوزاً قوانين الطبيعة التي تقول ان لكل فعل رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه .. وهذا هو الذي جرى فعلاً لنتن ياهو وفريقه الأمني والعسكري والمخابراتي والاستخباراتي ومن يعاونهم من ادوات عالمية تقنية وعسكرية جبارة تسيطر على كل شبر من العالم وتسمع حتى دبيب النمل كما يدّعون .. عندما اكتشفوا جميعاً انهم تلقوا ضربة معلم من مقاتلين محاصرين وبادوات بسيطة ولكن بتكتيك وذهنية وتنفيذ وبروحية المقاتل المقاوم والتي لا تخطر على بال .

وبغض النظر عن اتهام إسرائيل المضحك والمجافي للحقيقة بان ( الارهابيين الفلسطينيين ) هاجموا اراضي دولة مستقلة واناساً مدنيين ، وهي النظرية التي تسوقها جميع اجهزة الاعلام الصهيونية والغربية وقسم كبير من الاعلام العربي والخليجي للاسف .. متناسين عمداً ان كل فلسطين ارض عربية وانها اغتصبت منذ خمسة وسبعين عاماً متراً اثر اخر ، وبلدة تلو اخرى ومقاطعة بعد اخرى حتى انتهى الامر ان ٨٠ من المئة من ارض فلسطين تحت سيطرة اسرائيل وان العشرين من المائة الباقية اما محتل فعلياً او محاصر بشكل كامل.. بغض النظر عن كل هذا فان اسرائيل بمعونة امريكا والغرب طبعاً فرضت واقعاً مزيفاً جديداً ينافي المنطق والتاريخ والجغرافيا .. من دون ان تحسب هذه الجهات ان هذا الوضع لا يمكن ان يستمر ، ومثل ما قال الزعيم الصيني ماوتسي تونغ ذات يوم : انك عندما تقهر ثورة يوماً فانك لا تلغيها من الوجود بل انك تؤجلها فقط .. ولكن اوهام القوة والغطرسة وهي عنوان السياسيين الصهاينة وجهازهم الأمني والعسكري كانت تصور الامر بانه واقع لا يمكن تغييره وبخاصة بعد ان توهموا انهم بتوقيع اتفاقيات سلام ( رسمية ) مع مصر والاردن ، وبعدها مع الامارات والبحرين والمغرب والسودان ان الامر قد انتهى واستتب لهم الى حين .. لذلك كانت صولة السابع من اكتوبر تشرين الاول من هذا العام شيئاً جديداً ومختلفاً لم تتوقعه لا اسرائيل ولا امريكا والغرب ولا حتى المطبعون العرب ..

القضية الاخرى التي كانت تراهن عليها اسرائيل هو الانقسام الفكري والتنظيمي التام بين السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية .. وبين من يحكم قطاع غزة.. وقد أسهمت اسرائيل وغذت هذا الانقسام بكل السبل ، وبغباء تام من قبل المؤسسة الاستيطانية الاسرائيلية ذلك انها تعلم ان السلطة الفلسطينية ضعيفة للغاية وتحت امرتها ونظرها وسيطرتها المطلقة وهي التي تمولها ، اقول لو انها دعمتها لكانت قد أعطت الفلسطينيين انطباعاً إيجابياً يمكن ان يعزز موقفها ضد من سيطروا على قطاع غزة، ولكان مبرراً لسكان القطاع بان يتمسكوا بالسلطة ويدعموا موقفها .. ولكن اسرائيل وهذا ديدنها التاريخي لا تثق بأي فلسطيني ولا عربي ولا حتى مسلم الا بقدر مايكون منبطحاً طائعاً مطبعاً يقول لها نعم دائماً !

القضية الاخرى هي ان اسرائيل تؤمن إيمانا قاطعا ان الزمن بجانبها .. وأن السنوات الطويلة يمكن ان تضعف الحقائق وتساهم في اندثارها .. والدليل ان القرار ٢٤٢ للعام ١٩٦٧ اصبح من الماضي ولم يعد احد يذكره او يطالب به ، وهكذا بالنسبة لعشرات القرارات، وهكذا أيضاً بالنسبة للثوابت الفلسطينية واهمها العودة وحق تقرير المصير والقدس الشريف ، والتي حتى السلطة الفلسطينية في زمن ياسر عرفات كانت قد اسهمت في تناسيها عندما تفاوضت مع اسرائيل في اوسلو ١٩٩٣ وتركتها مرغمة الى بند : الحل النهائي .. وذهب عرفات ، ومضت ثلاثون عاما ولم يتحقق شيء على الارض.. والعكس صحيح..

على المستوى الدولي فقد حققت المقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين الاول اكتوبر مالم تحققه عشرات القرارات والمؤتمرات والاجراءات والفعاليات العربية والاسلامية والدولية .. فلاول مرة يرى العالم مأساة فلسطين على حقيقتها.. احتلال بشع وحصار خانق وآلة عسكرية غربية بايد صهيونية تفتك بالنساء والاطفال، والشيوخ وتدمر المساجد والبيوت والشوارع والميادين والمستشفيات كل هذا عبر الفضاء الاليكتروني والوسائل التي ابتكرها الغرب لهزيمتنا نفسياً وتخريب ثقافتنا وارثنا الحضاري والروحي والثقافي واذا بها ترتد اليه وتفتح عيون الناس في كل مكان.. ولاول مرة على الاطلاق تخرج الألاف من الناس في الدول الغربية للتنديد بتلك الحرب وهذه المجازر.. ولانني اعيش في الغرب فإنني اقول لكم ان الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي احدثت فرقا هائلاً وفتحت اعين الناس وبدلت مواقفهم وبنسب كبيرة ومؤثرة وهو مالم يحدث منذ نصف قرن حيث كان الاعلام الصهيوني والدعاية الاسرائيلية هي التي تتحكم بالمشهد وتعطي المواطن الغربي رؤياها وفلسفتها للصراع فقط .

النقطة الاخيرة لهذه الحلقة من هذه السلسلة هي ان هذه الجولة من الصراع كشفت للعالم ان الغرب وكما هو دائم في نفاق ودجل ومجافاة للحقيقة داب على ترسيخ مفهوم عدم توسيع نطاق هذه الحرب .. والتفسير العملي لذلك هو : دعوا اسرائيل تستفرد بالفلسطينيين وحدهم وتقتل وتدمر ماتشاء ولا دخل لكم .. مع إبلاغ الاطراف الاخرى وخصوصا : السلطة الفلسطينية ولبنان والعراق وايران وسوريا وايران بعدم التدخل في هذه المذبحة واذا فعلتم فان هناك مكافآت مجزية لكل منكم .. والجزاء من جنس العمل والدفع سيكون بعد تصفية حماس واعادة غزة الى بيت الطاعة الفلسطيني – الاسرائيلي .. وقد التزم بعض من هذه الجهات ولم يلتزم البعض الاخر .. ولكن المفاجأة الكبرى جاءت هذه المرة من اليمن ومن العراق نوعاً ما فتعاملت معها امريكا بروية تارة وبتجاهل تارة اخرى وبالرد الخجول تارة ثالثة .. اقول هذا واكرره مئات المرات ان الغرب وإسرائيل وبعض العرب المطبعين يرسخون فكرة ان جماعة فلسطينية بعينها هي التي قامت بعملية السابع من اكتوبر منفردة ، بل ان محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية قد قال صراحة انه يدين العنف واختطاف الرهائن، وان حركة حماس لا تمثل الشعب الفلسطيني.. وهو تصريح اثلج صدور الغرب والامريكان والاوساط الاسرائيلية ، وسوقوه الى العالم وسوغوه دليلاً على ان ( العالم المتحضر ) والعرب المعتدلون يدينون ما حصل في السآبع من اكتوبر .. وهو نفسه محمود عباس الذي قال قبل عام او اكثر ان : اسرائيل تريد خرافاً تهز راسها بالموافقة ومسلمين لا يعترضون على اجراءاتها ضد الشعب الفلسطيني.

في الحلقة القادمة ان شاء الله سنتحدث عمن ركب الموجة ، ومواقف الدول العربية والاسلامية ، وعن كيفية تعامل الاعلام العربي والغربي مع ماحدث في السابع من تشرين الاول أكتوبر.