خلص المقال في الجزء الاول الى ان نهج غاندي المغرق بالمثالية، ربما يعود الى شدة ايمانه الديني وتعلقه بحضارة وثقافة الهند القديمة، وسنبدأ الجزء الثاني بالمرور في محطات من سيرة حياته كانت قد تركت بصمات واضحة على نمط تفكيره ونزوعه المثالي، ثم نشير الى المواقف المتناقضة والناشئة عن تقاطع مثاليته مع الواقع بالغ التعقيد.
نشأ غاندي في عائلة متدينة، وقد تزوج في سن الثالثة عشر من عمره، وبينما كان يضاجع زوجته، طرق أحدهم باب غرفته ليخبره بوفاة ابيه الذي كان طريح الفراش. كان لتلك الحادثة وقعاً صادماً على الفتى، فلم يكن ما حدث بالنسبة له عقوبة الرب لتركه والده من أجل رغبة جسدية فحسب، بل رسالة تثقيفية واضحة من الرب تشير الى متاهة الروح المأسورة في سجن الغواية الجسديه، وفي هذا السياق يمكن فهم رؤية غاندي لجدلية العلاقة بين الروح والجسد، ويمكن ايضاً فهم قوله “علاقة بريطانيا بالهند كعلاقة الجسد بالروح”، أي ان الهند أسيرة بريطاينا كما هي الروح أسيرة الجسد، وان بريطانيا تحقق رغباتها وأطماعها على حساب الهند مثلما يحقق الجسد نزواته على حساب نقاء الروح، وفي هذا السياق يمكننا فهم تجربته الغريبة في اختبار قدرته الشخصية على مقاومة نزواته، فكان يرقد على نفس الفراش مع فتيات جميلات عاريات دون لمس أجسادهن٠
أبحر غاندي الى بريطانيا فتمت مقاطعته وعائلته من قبل طائفته التي تحرّم على تابعيها ركوب البحر، فوصل الى لندن مثقلاً بهاجس غضب الرب وبراءة الطائفة، وزد على ذلك وصية والدته وتهديدها بالتبرؤ منه لو تذوق الطعام البريطاني لاحتواءه على اللحم المحرم، وكان هذا أمراً في غاية الصعوبة آنذاك، إلا انه وجد في الانتماء الى جمعية لندن للنباتيين ملاذا.ً
من الجدير بالذكر ان غاندي الفتى كان يعيش صراعاً داخلياً في تلك الفترة ولم يكن يعرف الكثير عن الهندوسية، وكان قد اهتز إيمانه بها تحت تأثير المبشرين المسيحيين الذين ما فتئوا يسخرون من الهندوسية بوصفها دين الخرافات، وفي لحظة ما أراد غاندي حسم صراعه الداخلي بالتحول الى الدين المسيحي، إلا انه عزف عن ذلك عقب لقاءه بهيلينا بلافاتسكي رئيسة رابطة الثيوصوفية، واطلاعه على كتبها التي تبحث في ثراء التراث الروحي في الديانات القديمة وخاصة الهندوسية والبوذية، ومن هنا بدأ اهتمام غاندي بقراءة البهافادغيتا (كتاب الهندوسية) والتعمق في التراث الديني والعرفاني في ثقافة الهند القديمة. وفي هذه الفترة ايضاً عكف على قراءة فلسفة تولستوي وفكره الانسانوي السلمي الذي لخصه في كتابه “مملكة الله بين يديك” وتجربته في انشاء مزرعة تعاونية في روسيا، وممن تأثر بهم غاندي ايضاً المفكر الامريكي هنري ديفيد ثورو ونظريته في العصيان المدني.
باتساع معارفه بات بمقدور غاندي الشاب أن يثبت للرب الذي حرمه أباه فجأة، وللطائفة التي تبرأت منه، و يثبت أيضاً لعائلته التي احتملت المقاطعة بسببه، بأنه هو الجدير بقيادة حركة بعث وإحياء الموروث العرفاني وهو من سيظهر للعالم ان الهندوسية ليست بديانة خرافات بل هي ديانة الاخوة الانسانية
الان لنسأل هل صمدت الساتياغراها الغاندية في مواجهة تعقيدات الواقع السياسي والاجتماعي، وهل بقي غاندي منسجماً في مواقفه عبر سيرته النضالية؟.
من المعروف ان غاندي قد بدأ حركته في الدفاع عن الحقوق المدنية للهنود في جنوب افريقيا بعد حادثة القطار حين أجبر على ترك مقعده في الدرجة الاولى والتي لم يكن مسموحاً للملونين بالسفر فيها. وفيما يلي سنمر على بعض التقاطعات التي تخللت حركته بين النهج والتطبيق.
– أعلن الحاكم البريطاني في جنوب افريقيا أن على المواطنين من أصل هندي التسجيل لدى السلطات وفق النظام المتبع لمراقبة المجرمين، فنظم غاندي حركة عصيان استمرت طويلاً دون أن تنثني السلطات البريطانية عن قرارها، ومع ذلك صرح غاندي ان حملته قد نجحت، وبادر لانهاء العصيان فكان أول من سجل نفسه لدى السلطات، مما عرضه الى هجوم بالضرب العنيف من قبل أتباعه الذين شعروا بخذلانهم من قبله، ويبدو أن فشل الحملة يعود الى رفض أصدقاءه من رجال الاعمال والمال توظيف نفوذهم الاقتصادي لدعم العصيان، فقد قال له صديقه التاجر الكبير محمد مولانا ( نعم هناك تمييز كريه إلا أنهم يدعون أعمالنا التجارية ومصالحنا تمضي بنجاح). عقب فشل الحملة كتب غاندي رسالة الى الحاكم البريطاني هي أغرب من أن يكون كاتبها هو ذاته رجل الحب والسلام ومؤلف كتاب” كل البشر أخوه”، قال فيها: نحن لا نختلف معكم في تراتبية الاعراق ولكن نرفض أن نعامل نحن الهنود كما يعامل الافارقة السود.
– حين انطلقت الحرب بين البور(أحفاد المستوطنين الهولنديين) والجيش البريطاني في جنوب افريقيا بادر غاندي وأتباعه للتطوع مع البريطانيين فسخر منه الجنرال البريطاني قائلاً (ستكونون عبئاً علينا لانكم ضعاف لا تأكون اللحم ولا تصلحون للحرب)، وبعد إلحاح غاندي اشترك الهنود للمساعدة في أعمال نقل المؤن والعتاد ومساعدة الجرحى، ولم يوضح غاندي كيف ينسجم هذا مع نهجه السلمي.
– في الحرب العالمية الأولى جال غاندي قرى الهند بهدف جمع 50 متطوعاً من كل قرية للاشتراك بالحرب الى جانب الجيش البريطاني و لكنه قوبل بالحجارة من قبل الفلاحين مما اضطره الى تطويع فريق خدمات طبية يرافق الجيش، وقد برر ذلك بقوله: ألسنا عبيداً لهم، وعلى العبد أن يرضي سيده لينال منه حريته؟.
– في موقفه من الحرب العالمية الثانية أعلن تأييده الكامل للحلفاء على اعتبار انها معركة الانظمة الديمقراطية ضد الفاشية والنازية، وفي تصريح آخر يقول أنه لا يرى فرقاً بين النازية والتشرتشلية.
– أمضى حياته مدافعاً عن حقوق الفقراء من الفلاحين والعمال إلا أنه لا يرى ضيراً من استحواذ الاقطاعيين على الاراضي الشاسعة وتستفزه تعابير مثل الصراع الطبقي أو الاشتراكية، وكل ما يقترحه لانهاء الفقر المدقع هو النضال السلمي لايقاظ ضمائر الاقطاعيين والرأسماليين ليثوبوا الى رشدهم ويدركوا ضرورة ان يوظفوا ثرواتهم لخدمة المجتمع لا لمصالحهم الأنانية الضيقة.
رغم ما شاب مسيرة غاندي من تناقضات لم نذكر الا بعضاً منها فانه يبقى في ذاكرة الشعوب رمزاً تأريخياً متميزاً و معلّماً نستوحي من موروثه مباديء السلام والاخوة الانسانية و نستلهم من تجاربه دروس الكفاح السلمي.
المراجع:
1- What Gandhi Says, Norman G. Finkelstein, 2015
2- Gandhi and Churchill by Arthur Herman. Published by Bantam 2008
3- قصة تجاربي مع الحقيقة, موهاندس غاندي, دار الملايين 1978
4 -سلامة الروح وراحة الجسد, موهانداس غاندي. ترجمة عبد الرزاق مليح, دار الفرات لبنان