مع مرور أكثر من خمسمائة عام على خروج العرب من الأندلس ، يتوقف المرء عبر خضم الأحداث المتزاحمة التي رافقت هذا السقوط الملحمي الطابع ، الذي أشبه بالدراما التاريخية ، لنتامل المشهدين التاليين اللذين يحملان في طياتهما مضمونا شكسبيريا فائق التعبير وحافل بالعبر :
المشهد الأول : نرى فيه أبا عبد الله (آخر ملوك الأندلس)يغادر غرناطة للأبد ، وتصف الرواية المنظر المؤثر المحزن فتقول : أن أبا عبد الله حين رأى فرديناند ، هم بترك جواده ، ولكن فرديناند بادر بمنعه وعانقه بعطف ورعاية …ثم قدم له اليه أبوعبدالله مفاتيح الحمراء قائلا ” ان هذه المفاتيح هي الأثر الأخير لدولة العرب في اسبانيا ، وقد أصبحت أيها الملك سيد تراثنا وديارنا وأشخاصنا ، فهكذا قضى الله ، فكن في ظفرك رحيما عادلا ” ، ألا تعكس هذه التعابير عظمة الموقف والسمو الأخلاقي للاسلام ، كما تعكس بالحق التعامل الحضاري لكلا الزعيمين .
المشهد الثاني : فعندما سرح أبوعبد الله ببصره على منظر غرناطة الأخير ، انهمرت دموعه واجهش بالبكاء ، فصاحت به امه عائشة ” أجل فلتبك كالنساء ما لم تستطع ان تدافع عنه كالرجال ” . وتعرف الرواية الاسبانية تلك الأكمة التي كانت مسرحا لذلك المشهد الحزين باسم شاعري هو ” زفرة العربي الأخيرة ” !
لقد كان الوجود العربي في الأندلس قدرا تاريخيا ساهم في صنع لحظات باهرة امتدت لحوالي ثمانية قرون ، وكانت مصدر الهام واشعاع حضاري غمر البشرية بنوره ، لذا لم يكن غريبا ان ينبهر مفكر كبير بالاسلام ويتحول اليه مسميا نفسه ” رجاء” ، فالاسلام هو رجاء البشرية في الخلاص من آثامها وأحمالها وما يثقل ضميرها !
ففي كتابه “الاسلام في الغرب” يثبت غارودي أن دخول الاسلام في شبه الجزيرة الايبرية لم يكن غزوا عسكريا ، وانما خلاصا للسكان من أعباء الاضطهاد والتنكيل والتخلف “القروسطي” التي كانوا يرزحون تحتها ، وحيث يصف جارودي مسار “الاسلام الأندلسي” بأنه تجربة متقدمة للتفاعل الاممي بين الفكر الاسلامي
والمسيحي واليهودي ، هكذا يطرح الاسلام كدين عالمي النزعة ، منفتح على الديانات الاخرى ، ومتفاعلا معها . ويرى في الفتوحات الاسلامية في الشرق الأدنى نموذجا للتحرير الحضاري ، وهكذا فقد انتصر الاسلام في اسبانيا بواسطة التحولات الثقافية التي احدثها في الفكر السائد ، ويقول في كتابه :”منذ القرنين التاسع والعاشر ، توصل علماء الدين –المسلمون- الى تحليل دقيق لمشكلات العقيدة والاسلام ، وقد بلغت العلوم الدينية كمالا ثقنيا وتنظيميا منسقا لم يبلغه المسيحيون الا بعد اربعة عقود “!
لقد ترك الفكر الاسلامي العميق بصماته التي لا تمحى على الفكر الاوروبي – العالمي في القرون التي تلت :
* فالمفكر الاسلامي الأندلسي سبق بقرون مقولة ماركس في رأس المال :”ان العمل الانساني ، هو ذلك العمل الذي يسبقه وعي بغاياته واهدافه “.
* ومحور ابن طفيل الموضوع الرئيسي للفلسفة الاسلامية باستمرار التفكير في قدرة الانسان على اكتشاف الغايات النهائية للفعل .
* وتمجد فلسفة ابن رشد النقدية ، التفكير والعقل وتحرير الفقه من الانغلاق في الجزمية والحرفية .
* وألهمت رواية بن العربي المفصلة عن الاسراء والمعراج ، ألهمت دانتي لكتابة “الكوميديا الالهية” فيما بعد .
* ويستطرد غارودي : انها الحضارة الاسلامية العالمية السمة ، هي التي سمحت لفيلسوف يهودي “كالميموني” لأن يقدم مساهمته الخاصة اسوة بالمفكرين الاسلاميين مشتركا في الثقافة ذاتها ، مواجها المشكلات ذاتها ومغترفا من نفس المصادر .
* وكمثال على أنماط الحياة الفنية في الأندلس ، يتحدث عن وصول “زرياب” (الطائر الأسود) للاندلس وقد حمل معه اجواء بغداد الثقافية ، وحيث أصبحت محاكاة هذا النمط الثقافي-الفني المرهف افتتانا لا يقاوم ! ولم ينسى الموسيقى التي ازدهرت طبقا لمقولة الغزالي في كتابه الشهير احياء علوم الدين :”ان جمال الموسيقى هو آية على وجود الله” !
لقد امتلك جارودي بعقله الفذ وعمق تفكيره الفلسفي “ناصية الحقيقة” التي أنكرها الغرب وادمن على انكارها بمكابرة وعناد …وواجه بجرأة الكم الهائل من الترهات التي يسوقها الغرب والصهيونية واصفة الاسلام بالتخلف والجمود والتعصب ، وكلنا يتذكرجورج بوش الابن عندما وصف الاسلام بالفاشية ، معززا مقولة شمعون بيريز “بأن الاسلام يجب ان يكون العدو العالمي الجديد”، وربما تم التحضير لذلك بذكاء ودهاء بالغ بتأهيل فقهاء مزيفيين لعبوا بعقول العامة والدهماء والمتعصبين ، لتحضيرهم لحالة “جهادية-تكفيرية” تنقلب وبالا على المسلمين أنفسهم ، وتقتل العباد وتحز الرقاب وتدمر الأوطان ، ويغذيها التعصب الأعمى والتفسير الخاطىء للدين الحنيف ، ويلعب المال الوفير المسموم دورا باشعال الفتن الطائفية المرعبة ، التي لن تستثني احدا بنهاية المطاف الا اسرائيل التلمودية ومصالح امريكا والغرب في ديار العرب والمسلمين !
لقد هدى الله غارودي لبصيرة نافذة ، دفعته لاثبات فضل الحضارة الاسلامية في الأندلس على البشرية جمعاء ، وللاعتراف بوضوح خالي من الشوائب على ان الحضارة الاسلامية هي حضارة كونية شاملة ، وبالرغم من ذلك فلا يمكن التسليم بكافة المقولات والنتائج التي اوردها غارودي في كتابه ” الاسلام في الغرب ” ، فالكثير من الأفكار الواردة ” مثيرة للجدل ” ، وتتطلب جهدا عميقا وبحثا مستفيضا من المفكرين والناقدين بهدف التمحيص والمراجعة ، ولكن الواجب الاخلاقي ( وربما المصيري في ظرفنا الراهن ) يتطلب منا تشجيع ظاهرة “جارودي” في الفكر الغربي ، بدلا من محاربتها والاستهانة بها ، وخاصة مع تكالب الاعلام الغربي والصهيوني لمحاربة الاسلام وقيمه
ورموزه ، غير متناسين الدور القبيح المشوه الذي تلعبه نماذج بشعة في عالمنا العربي والاسلامي ، يتمثل في مظاهر التخلف والتعصب والاحتقان والفرقة والنزاعات الأخوية والطائفية ، واخرى غارقة في رائحة النفط والفساد والبذخ والعهر والسفالات والفضائح ، ولو كانت كل هذه الظواهر والممارسات السلبية الفاضحة لبست من الاسلام في شيء .
لعل في سقوط الأندلس عبرة لنا ، تدعونا للتمسك بروح الاسلام ، وربما اصاب غارودي لحد بعيد عندما عزى سقوط الأندلس لسببين :
* لأن الفقهاء كانوا يسجنون الاسلام في طقوسية قديمة وشكلية بلا روح .
* لأن الامراء برروا نزعاتهم الاستبدادية وخلافاتهم حسب مصالحهم مستغلين الدين ، وكما قال احدهم “ان السكوت على حكم حاكم جائر طيلة ستين عاما ، أفضل من ان يترك شعب بلا امام ولو لساعة واحدة ” !
Mmman98@hotmail .com