غائب طعمة فرمان مهندس الرواية البغدادية

غائب طعمة فرمان مهندس الرواية البغدادية

“يكاد يكون غائب طعمة فرمان الكاتب العراقي

الوحيد الذي يركّب أشخاصه وأحداثه ورواياته تركيباً حقيقياً”.

جبرا إبراهيم جبرا

مدخل

إذا كانت الرواية الروسية قد خرجت من معطف غوغول، فإن الرواية العراقية الحديثة خرجت من إحدى حارات بغداد ومحلاتها القديمة. ويمكن اعتبار رواية “النخلة والجيران” لغائب طعمة فرمان في العام 1966، الإعلان الأبرز عن ذلك، وقد كان لفرقة المسرح الفني الحديث دوراً كبيراً في انتشار الرواية، خصوصاً بعد إخراجها كمسرحية، الأمر الذي وسّع من نطاق الجمهور الذي تأثّر بها، لاسيّما بالعدد الكبير الذي شارك فيها من كبار الممثلين، إضافة إلى مخرجها الفنان المبدع قاسم محمد.

وقد عكست رواية “النخلة والجيران” الحياة البغدادية بكل تفاصيلها وتناقضاتها، قاعها وسقفها خلال فترة الحرب العالمية الثانية، حيث أطلّ غائب طعمة فرمان من خلالها على هموم الناس ومعاناتهم والمشكلات الاجتماعية والاقتصادية، إضافة إلى هواجسهم ومخاوفهم. وحسب زهير شليبه في كتابه عن غائب طعمة فرمان الصادر في العام 1996 وهو دراسة أكاديمية لنيل الدكتوراه، فإن النخلة والجيران هي “أول رواية عراقية فنية تتوافر فيها مقوّمات النوع الروائي بمواصفاته الأوروبية الحديثة”.

ثلاث روافد

نهل غائب طعمة فرمان من ثلاثة منابع أساسية،  حسب ما تحدث به عن تجربته، ويمكن استخلاصها مما يأتي؛

الأول – التراث العربي وخصوصاً الشعر، وهو ديوان العرب كما يُقال، فقد قرأ عيون الشعر القديم والحديث وحاول أن يصبح شاعراً، لكن القصة والرواية استهوته، فترك ذلك، وكان قد تأثّر بكتب النثر الشهيرة منها: أدب الكاتب والكامل والبيان والتبيين وكتاب النوادر؛

الثاني – الأدب المعاصر والحديث من خلال الترجمات التي كانت تصل إلى العراق خلال فترة الحرب العالمية الثانية، سواء من مصر أو سوريا أو لبنان، وقد قرأ الكثير من الأدب الفرنسي والإنكليزي والروسي؛

الثالث – الثقافة والحياة المصرية، حيث كان قد ذهب إلى مصر بعد إصابته بالتدرّن الرئوي لغرض العلاج، ولإكمال دراسته في كلية الآداب، وقد أتاح له ذلك، وهو في بدايات تكوّنه وتبلور شخصيته الإبداعية، الاحتكاك واللّقاء المباشر بجو القاهرة الثقافي المزدهر آنذاك، إضافة إلى تردّده على مجالس الأدباء المصريين الكبار مثل: سلامة موسى ونجيب محفوظ وطه حسين وغيرهم.

وإذا كانت تلك المنابع تشكّل المصادر الأولى لثقافته، فإن عمله في الصحافة الأدبية في منتصف الخمسينيات وعيشه في سوريا ولبنان والقاهرة وبكين وموسكو، واختلاطه بحياة أمم وشعوب صديقة وشقيقة، أكسبه أفقاً واسعاً وشذّب من جملته وأضفى عليها جمالية خاصة، وقد امتاز أسلوبه بالواقعية النقدية.

وإذا كانت بغداد بأزقتها ونسائها وحاناتها وجوامعها وكنائسها وتجاذباتها السياسية والفكرية حاضرة في “النخلة والجيران” وفي رواياته الأخرى منذ مجموعته القصصية الأولى “حصاد الرحى” المنشورة في العام 1954، فإن رواية “المركب” وهي آخر رواية له، وصدرت في العام 1989، شكّلت خروجاً على هذا المألوف، حين تناولت “المنفى والحنين إلى الوطن”، لكنه استلهم ذلك بسرديته الذاتية، ومن استعادة مخزونه الكبير الذي يتمثّل في بغداد وحياتها وديناميكيتها، وتناقضاتها. وقد ظلّت بغداد القديمة المكان الأثير الذي ينهل منه حتى آخر قطرة من حياته، لاسيّما وقد عاش في الغربة نحو ثلاثة عقود من الزمان.

حاول في رواية “المرتجى والمؤجل”، التي تناولت شؤون الاغتراب، الابتعاد قليلاً، لكن جذوره الأصلية ظلّت لصيقة بالمكان والزمان الذي عاش فيه، فغائب طعمه فرمان مثل نخلة عراقية باسقة ضربت جذورها عميقاً في الأرض العراقية، وهي لا تستطيع العيش في غير تربتها، فتراه دائم العودة والحضور لبغداده التي يستعيدها كسرديات لرواياته التي ظلّت تسبح في دجلة وتحلّق في سماء بغداد.

الأدب الروسي

كان لاطلاع فرمان على الأدب العالمي وفيما بعد على الثقافة والأدب الروسي وامتلاكه ناصية اللغة الأجنبية للترجمة إلى العربية، أثر كبير في تقنياته الجديدة، ولاسيّما في روايته “خمسة أصوات” التي صدرت في العام 1967، ناهيك عن تأثّره بالأسلوبية الحديثة، سواء من خلال قراءته وترجماته لدستوفسكي أو غوركي أو ليف تولستوي أو تورغنيف أو غوغول أو بوشكين أو شولوخوف أو ألكسي تولستوي أو أتماتوف أو غيرهم.

وقد ترجم فرمان نحو 50 كتاباً من روائع الأدب الروسي حسب الناقد د. علي إبراهيم في أطروحته المعنونة، “الزمان والمكان في روايات غائب طعمة فرمان”، المنشورة في العام 2002، لكن عبدالله حبه في كلمته بمناسبة الذكرى الـ 20 لرحيله يقول: إن عدد مؤلفاته المترجمة يتجاوز 84 كتاباً.

لعلّ هذا الاتّساع والاطلاع هو ما أضفى على مخيلته السردية تنوّعاً وأفقاً وظّفه على نحو مثير، بعودته لأصوله الأولى وموطن الصبا والحارة البغدادية الأربعينية والخمسينية، ليستخرج لنا هذه الروائع البغدادية ذات الأجواء العبقة، وحسب الروائي عبد الرحمن منيف، فإن من يريد أن يبحث في تاريخ العراق في تلك الفترة فعليه قراءة روايات فرمان. وكان مكسيم غوركي هو من قال: التاريخ لا يكتبه المؤرخون، بل الفنانون هم الذين يكتبون التاريخ الحقيقي للإنسان.

وإذا كانت رواية “جلال خالد” لمحمود أحمد السيد تُعتبر الرواية الأولى (1928) وأعقبها روايات لعبد الملك نوري وذو نون أيوب وجعفر الخليلي وغيرهم، فإن رواية النخلة والجيران استكملت بنائها الفني وحبكتها الدرامية ولغتها السردية، بحيث يمكن اعتبارها الرواية التأسيسية الحقيقية للرواية العراقية الحديثة.

وعلى هذا الرأي ربما يتفق الكثير من النقاد ومتذوقي أدب فرمان من المثقّفين، خصوصاً وأن بغداد وحاراتها القديمة ومناطقها الفقيرة شكّلت الدلالة الرمزية المعبّرة، ببعدها الاجتماعي، والسسيوثقافي، من خلال سرديته النقدية، تلك التي استخدمها ذاتياً من خلال رواية “خمسة أصوات” و”المخاض” و”ظلال تحت النافذة”، وذلك بتقديم مشاهد سريعة وتركيزه أحياناً على شخصيات معينة، ثم تغيب ويعود إليها، ولا فرق لديه في الشخصيات الرئيسية أو الثانوية، حيث تتم عملية السرد ذاتياً أو من خلال الراوي.

عاش غائب طعمة فرمان في موسكو نحو 30 عاماً، وتزوّج فيها وأنجب ولداً أسماه سمير، وارتبط بموسكو بوشائج كثيرة، ولعلّ حبّه لها واندماجه في حياتها وانخراطه في ترجمة أعمال أدبية لخيرة أدبائها وتقديمهم إلى القرّاء العرب عبر دار نشر سوفييتية، كان قد وضعه في صف المترجمين المهمّين على الصعيد العربي، الذين قدّموا لنا روائع الأدب الروسي والسوفييتي في تلك الحقبة: قصةً وروايةً وشعراً، فضلاً عن مكانته الإبداعية كرائد للرواية العراقية الحديثة.

سيماء شخصي

كان غائب طعمة فرمان مثالاً للبساطة والشعبية والتواضع والصّدق والتّسامح، وقد تعرّفت عليه في العام 1973 في لندن، التي كنت أزورها للإشراف على جمعية الطلبة العراقيين، ولحضور مهرجان توركي على الساحل البريطاني، حيث ترافقنا ومعنا جلال الماشطة في السفر، وكان فرمان والماشطة قد قدِما من موسكو، وكنّا بضيافة د. سعيد اسطيفان. وقد ذهب الكاتب مع فرمان لزيارة بعض المتاحف، وخصوصاً متحف مدام تيسو والمتحف البريطاني ومتحف التاريخ الطبيعي، كما تسكّع معه في الهايدبارك وبيكاديللي سكوير والطرف الأغر سكوير وحي سوهو وغيرها. وكان ذلك أوّل تعارف ولقاء مباشر بيننا، ثم التقيت معه في دمشق وموسكو بعد ذلك.

إن روايات فرمان تعيد إلى ذاكرتنا الحياة البغدادية التي عرفناها في مقاهيها وحاناتها ومتناقضاتها وأمكنتها ذات الدّلالة الرمزية.. كثير منّا يعرفون مقهى ياسين ومقهى البرلمان وبالطبع مقاهي البلدية وعارف آغا والزهاوي والشابندر والبرازيلية، كما يستدلّون على بار كاردينيا وحانة النصر وغيرها، تلك التي كانت تشكّل مرتعاً لحكايات فرمان.

غائب طعمة فرمان و أبو كَاطع

ولد غائب طعمة فرمان في محلة المربعة ببغداد (1927) لعائلة فقيرة، وكان والده يعمل سائقًا، وتوفي في موسكو بتاريخ 18 آب (أغسطس) 1990، أي بعد نحو 9 سنوات من وفاة الروائي أبو كَاطع “شمران الياسري”، وإذا كان أبو كَاطع روائي الريف بحق، كتب عنه ومنه وإليه ومن خلاله إلى العالم، فإن غائب طعمة فرمان هو روائي المدينة بامتياز، لاسيّما بغداد، وكان شاهداً على تحوّلات مفصلية حدثت فيها منذ الحرب العالمية الثانية وما أعقبها من تغييرات دراماتيكية لم يكن غائب طعمه فرمان، غائباً عنها، بل شكّلت الخزين الذي نسج منه حكاياته وقصصه ورواياته، واستطاع من خلاله بناء شخصياته على نحو محكم ووثيق، مثلما حاول أبو كَاطع أن يستمد إلهامه من حياة الريف وتناقضاته وأوهامه، بفلاحيه وسراكيله وإقطاعيه، إضافة إلى حكايات عشق وتمّرد.

وكان الكاتب قد سأل أبو كَاطع عن غائب طعمة فرمان، فقال بعد أن استعدل في جلسته: كنت أسعى لبناء شخصياتي على نحو شديد التماسك مثلما كان فرمان يفعل، بل يعرف كل شخصية ماذا تريد؟ وكيف بدأت؟ وإلى أين ستنتهي؟ ويتعامل معها كلّها بحنو ورعاية.

يقول أبو كَاطع: قرأت رواية النخلة والجيران أكثر من ثلاث مرّات، مثلما فعلت مع رواية خمسة أصوات، ولكنني في كل مرّة كنت أعود لأكتشف شيئاً جديداً في حبكته الدرامية وفي ملمح جديد لإحدى شخصياته غاب عني.

أما فرمان فقد قال عن أبو كَاطع: “إنه إنسان ثابت في أرضه، يعرف كل شبر منها، عاليها وسافلها، حلوها ومرّها، مذاقها وثمارها وملوحة عرق الكدح فيها… لقد وجدت نفسي أمام وضع دقيق لجوانب حيّة وشخصيات سمعت بحّة صوتها في أذني. كنت أمام ما يشبه موسوعة الريف، ولكن كاتبها أديب جعل كل شيء يدبّ حيّاً”، وهو ما جئت عليه في كتابي الموسوم “أبو كاطع – على ضفاف السخرية الحزينة، دار الكتاب العربي، ط1، لندن، 1998، ودار الفارابي، ط2، بيروت، 2017 .

تتلخّص أعماله القصصية والروائية بمجموعة مهمة هي: حصاد الرحى (مجموعة قصص) 1954، ومولود آخر 1959 (مجموعة قصص)، وروايات هي النخلة والجيران 1966، وخمسة أصوات 1967، والمخاض 1973، والقربان 1975، وظلال على النافذة 1979، وآلام سيد معروف 1980، والمرتجى والمؤجل 1986، والمركب 1989.

أما أهمّ ترجماته فهي ترجمة أعمال تورغييف (خمسة مجلّدات)، والقوزاق لتولستوي، ومجموعة قصص لدستوفسكي ومجموعة قصص لغوركي، والمعلم الأول لاتماتوف، ومجموعة أعمال الشاعر بوشكين، ولاشين عملاق الثقافة الصينية وغيرها.

حين حدث انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963 كان غائب طعمة فرمان موسكو، وقد ساهم مع عدد من المثقفين والسياسيين العراقيين اليساريين في تأسيس لجنة الدفاع عن الشعب العراقي، التي ترأسها الجواهري ضدّ الانقلاب، وقد أقدمت الحكومة العراقية على سحب الجنسية عن 12 شخصية من الشخصيات البارزة المشاركة في اللجنة، ومن بينهم غائب طعمة فرمان، وذلك برسالة موجّهة من وزارة الداخلية إلى مديرية الأمن العامة، والمؤرّخة في 26 تشرين الأول (أكتوبر) 1963.