23 ديسمبر، 2024 4:37 م

عينا جواد سليم تحدّقان في عيون الجماهير المتظاهرة

عينا جواد سليم تحدّقان في عيون الجماهير المتظاهرة

يا لهذا النصب العظيم،

اي ألمعية كبرى حددت هذا الجمال،

اي تحليق كوني يضربه نصب جواد،

اي امتداد في فضاء المستقبل ابدعته أزاميل جواد سليم..؟

ليست هذه اسئلتي،  مستغرباً أو متعجباً،  بل هي اسئلة اعجاب الممثل المصري ، الصديق الراحل  يحيى شاهين ، الزائر للعراق عام 1975 حيث كنا ، أنا والفنان العراقي محسن العزاوي قد عززنا علاقتنا، به وبفنونه وبرؤاه وتجاربه ، خلال تلك الزيارة. 

عُقدتْ لهما ندوة مشتركة عن رحاب  المسرح وفتوة السينما في العالم العربي وعن سجل تجاربهما في مصر والعراق.  دامت الندوة ثلاث ساعات، كنتُ أنا عريفها ومديرها. عززتْ المقولات والمناقشات والايحاءات، في تلك الندوة، بعض الصور عن  نهوض المسرح العراقي في  ذلك الزمان. اصابت آراء المتحاورين  اسباب عدم تقدم دماء الفنانين العراقيين في شرايين السينما العراقية .

كان يحي شاهين في تلك الندوة الصباحية متلهفاً للسعي وراء معرفة آراء الفنان العراقي محسن العزاوي حول مغاليق الأبواب المرتجفة أمام مستقبل  السينما العراقية، التي كان السينمائيون العراقيون يعرفون أن خيوطها ضائعة  تحت سيطرة القطاع العام ، ذات الخشونة الدعائية المتسلطة.

في هذه الساعة، في هذه المقالة،  ليس هدفي مواصلة البحث في السينما  أو المسرح، إنما ذاكرتي تختزن لحظات وقوف فنان مصري بمقلتين يقظتين متطلعاً إلى ياقوتة فنان (نحّات) عراقي، اسمه جواد سليم، متفجراً في غمار الثورة والحرية.

طلب مني يحي شاهين في ظهيرة يومٍ تالٍ   زيارة نصب الحرية،  الذي سبق لي وان كتبت له عن بعض تفاصيله بإحدى رسائلي عام 1973. صحبته معي ،بسيارتي، من مقر اقامته بفندق بغداد لكي يرى، عن قرب، حساسية جواد سليم ونصب الحرية .  لكن المعجبين به من المواطنين العراقيين، المتجمعين حوله في ساحة التحرير، حالوا دون استيعابه محاور النصب كلها ، لكنه عبّر عن انتشائه ، في اليوم التالي، حين اهديته  مقالاً كتبه الناقد الفني ،جبرا إبراهيم جبرا، يحكي تفاصيل  صنيع ابداعي بهي ، لفنان  عراقي عظيم   .

تحدثتُ كثيراً عن نصب الحرية  إلى يحيى شاهين اثناء تناول وجبة غداء خاصة ، دعوته إليها في شارع أبي نواس (سمك مسكَوف)،  كما كنت أحطّ احاديثي على مسامعه اثناء سياقتي السيارة . حدثته عن زمانٍ عارٍ عن الحرية والديمقراطية 1921 – 1958 ستجده يا يحيى شاهين  على نجيل النصب في بدايته من جهة اليمين ، مثلما ستجد قصيدة  ثورة 14 تموز بديعة  في منتصف النصب ،حين يقوم الجسد الذهبي لجندي عراقي بكسر قيود الظلم والزمان الظالم، بيدين قويتين ، مبرعمتين حباً بالمستقبل الحر .

تحدثتُ إليه بكثير من التفصيل عن المزيد والمزيد من أحداث بغداد وعن البغداديين الذين يعشقونها ويعشقون حريتها ومنهم (جواد سليم) الذي خفقت روحه فوق العذاب الجم الطويل الزمن عن معاناة العراقيين ، نساءً ورجالاً، الساكنين على ضفاف دجلة والفرات وضفاف ابنهما البار (شط العرب) في مدينة البصرة ، مدينة مولدي وطفولتي المسفوحة على مرّ الزمان الطويل منذ العام الهجري، السادس عشر.

تحسّس الفنان، يحيى شاهين، انني، كمواطن عراقي،  احمل في داخلي اغنية اسمها (بغداد) ونشيداً اسمه (جواد سليم). كما انني احمل بفخرٍ ، نحيب الدم والسجون السياسية وعذابات الناس الفقراء  في كهوف ذاكرتي.  ما غاب عن هذا الفنان المصري فرحه وهو يصغي لحكاياتي بعد أن كان قد أعد نفسه لمواجهتها ،حتماً، حين وجدته يصغي الى احاديثي بالقاهرة خلال لقاءاتي معه عام 1973 إذ كانت عيناه  متوهجتين بالشجاعة والصدق والانفعال، أثناء حديثي عن (سجن نقرة السلمان) الصحراوي، المتميز بالوحشية والعتمة وهو يقيّد آلاف المناضلين.  

تعرّف من خلال أحاديثي في لقائنا ببغداد، خاصة في أثناء زيارتنا إلى آثار (سلمان باك) بناء على رغبته،  أنني كنت منذ زمان فتوتي لا استطيع ممانعة نفسي من الحضور الدائم إلى ساحة الباب الشرقي (ساحة التحرير / لاحقاً)  متطلعاً إلى كل شيء وكل مبنى وما حواليها ،وبما تعج فيه من كائنات فقيرة  للبحث عن لقمة الخبز ، أو  عن عجاج  كائنات رأسمالية  تطمح لجني أرباح (الضربة التجارية الواحدة) في الدكاكين والمخازن المنتشرة بين ساحة الباب الشرقي وساحة الجندي المجهول ( ساحة الفردوس/ حالياً) أو بين الباب الشرقي والباب المعظم عبر شارع الرشيد . كنتُ ،كلما ازور الساحة، صيفاً أو شتاء،  لا بد لي من الجلوس وحيداً أو برفقة مع آخر أو آخرين في مقهى (كيت كات) في أول شارع السعدون، حيث جلسنا معا – أنا ويحي شاهين – لتناول فنجان قهوة تحت نظر عيون عراقية مترعة بفرح ودهشة اللقاء بفنان مصري ينبض بالعطاء الدائم.

 لا اعتقد ان معدن (نصب الحرية)  لا يتألق في عين من يراه أو يتطلع إليه. انه مثل لحظة برق في ليل مظلم.  في نظري أن هذا النصب  نور دائم في الليل والنهار . فيه اجراس دائمة تدفعني اصواتها ، اليوم، الى محاولة  كتابة افكار سريعة عن الوظيفة الحالية لنصب الحرية ، بكونه وسيلة معرفية عن الحق والعدل والكفاح والثورة.  أريد ،بهذه المحاولة،  كشف العلاقة بين ا(لفنان الثوري)، جواد سليم، و(المتظاهرين العراقيين) المتجمعين تحت النصب في ايام الجمعة،  منذ أكثر من شهرين، حيث يتجمع  شباب بغداديون مناضلون، لتحويل مجتمعنا ودولتنا من مجتمع نصف عشائري، نصف زراعي، إلى (مجتمع مدني) لكي  يبني مستقبلاً مضيئاً  تقوده (دولة مدنية عصرية) متجردة من كل شكل من اشكال التخلف.

لا اعرف كيف توصل جواد سليم الى ابتداع وابتكار هذا النصب السردي، الرمزي،  المنفتح على المستقبل، من خلال الماضي العراقي وثورة الشعب في 14 تموز 1958 ،  ومن خلال عمق العلاقات في داخله المستند إلى الفنون والنقوش الاشورية والبابلية والسومرية،  لكنني اعرف جيداً أن (نصب الحرية) الحائز على شهرة عالمية كان نوعاً من عبقرية فنان عراقي شاب ، هو من اعظم زملائه في ذلك الزمن، موهبة ورؤية. 

كان الفن العراقي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية قد انطلق بسرعةٍ وهيبةٍ على أيدي عدد من رواد الفن العراقي الرسامين: فائق حسن ،اسماعيل الشيخلي ، شاكر حسن آل سعيد، جميل حمودي ،محمود صبري، لورنا سليم وجميل حمودي، وغيرهم. كما كان للنحاتيْن الشابيْن (محمد غني حكمت وخالد الرحال) دوراً نشيطاً متسارعاً في انطلاق الحركة النحتية ، إضافة الى دور الفن المعماري العميق، الذي فتح ابوابه   المهندسان (محمد مكية) و(رفعت الجادرجي) حيث فضضا في بغداد براعم من أصول فنون العمارة والنصب البابلية والاسلامية. هكذا انطلقت بغداد نحو الحرية والجمال برؤية هؤلاء الفنانين ، في مقدمتهم (جواد سليم) الذي لم يشاهد نصبه مرفوعاً ، في قلب العاصمة العراقية،  إذ رحل إلى الأبدية والخلود قبل اكتمال تشييد  النصب عام 1961. كما انه لم يتوقع – كما اظن –  أن تكون التخوم الواسعة من المتظاهرين البغداديين قد ترفع اصواتها  امام نصبه العالي المتألق دائما بأروع الرؤى والأصوات، كما حدث ويحدث منذ تلك الأيام حتى اللحظة الراهنة.

 اصبح هذا (النصب/النوع )  بعد 54 عاما من عمره مظلّة لدراما فنية عراقية عظيمة، بحيوية مدهشة،  يستظل بها المتظاهرون العراقيون حيث تمتلأ (ساحة التحرير)  بجموعهم  معبرين بأصوات عالية وبإمكانات جماهيرية لا نهائية،   ترنو الى (الحصان) الواثب في النصب.

(الحصان) كما هو معروف، في كل مكان وزمان،  هو (رمز) عربي أصيل يشير الى (النبل) و(القوة).  هكذا غدت ساحة المتظاهرين العراقيين رمزاً من رموز (النبل) والقوة). غدت ساحة جماهيرية  مختلفة تماماً عن الهايد بارك البريطاني، وعن ميدان التحرير المصري، والشانزليزيه الفرنسي، وشارع الحبيب بورقيبة التونسي. صارت ساحة التحرير جداراً جماهيرياً لصق جدارٍ فنيٍ، جداراً لليقظة الوطنية وجداراً للاستيقاظ الجماهيري.

في الساحة نرى (حصان جواد سليم) حصاناً عراقياً معذباً منذ عام 1921، لكنه  مفعم بالقوة والحيوية . حصان  واثب إلى أعلى ويجهد حوله عدد من الرجال يبدو عليهم التوتر والاضطراب النابضين بالحق والإصرار بينما راياتهم مرتفعة  في السماء.

صحيح أن الناس العراقيين أحبوا النصب منذ اول يوم تشييده.. أحبوه ،مثل الخبز والضياء، مالئين ألبوماتهم بملايين الصور الفوتوغرافية، سطعت بها عدسات الكاميرا تحت النصب أو أمامه . لكن نصب الحرية لم يسلم من (العداوة) بعد تربعه على رأس حديقة الأمة في الباب الشرقي، حتى تحسستْ أقلام رجعية معادية أصابعها لتنثر حوله مختلف الصفات الغاربة عن الحقيقة.

قام اكاديميون معادون للحرية بمهاجمته في الصحف الصفراء في ذلك الزمان. ليس في اقلامهم  أي نبض فني، بل حملت مقالاتهم   بذور معاداة النصب وصانعه، المنبثقين من التيار اليساري العراقي، تيار الفكر الحر والتقدم. تعلقتْ مقالاتهم  بأفكار مهشمة ،ليس فيها غير تراب الرجعية، موجهة سهاماً مسمومة لكل دعاة وبناة الحرية.   تلك الافكار طالبت خلال سنوات عديدة  بإزالة النصب وتهشيمه  على وفق ديباجات سيئة ومغلوطة وخبيثة . كاد الرئيس عبد السلام عارف، ومن  بعده اخيه الرئيس عبد الرحمن ، أن يقوما بتهديم النصب بحجة (أن تماثيل البشر مكروهة في الإسلام) . لكن  الرفض الشامل للفنانين العراقيين ودور الصحفيين والنقاد الفنيين  والرأي العام  كان ضاغطا جماهيرياً وفنياً ، بقدرة ووعي،  بوجه محاولات (الرئيسين العارفيين) خاصة بعد أن غدا نصب الحرية رائقا في عين الحضارة العالمية حين توافد عدد من الفنانين والنقاد الاوربيين ان يقبلوا بسعادة وزهو وفرح على زيارة النصب ودراسة مضامينه. اتذكر رأياً فنياً مؤنساً كتبته عن النصب، الصحفية الامريكية  (هيلينا كوبان)  ، في بداية  ثمانينات القرن الماضي ، بصحيفة (كريستيان ساينس مونيتور).. كما نثر الصحفي اليساري الايرلندي ،الصديق (شيمس ميلين) المحرر الاقتصادي في مجلة الايكونومست ،وميضه الباهر عن نصب الحرية الكاشف عن انفتاحه على الفن العالمي، حين كان يرنو إلى النصب ونخيل حديقة الأمة وساحة التحرير والشوارع المزدحمة، من مكتبي المقابل للنصب.

لم تكن (ساحة الباب الشرقي) غائبة عن ذاكرتي في أي يوم من أيام حياتي فقد احببتها بمقدار ما احببت (ساحة أم البروم) بمدينة العشار في محافظة البصرة وقد كنت قد شاركت بمظاهرة انطلقت في يوم من ايام صيف عام 1954 . كنا انا وحمدي ايوب العاني، قد جئنا من البصرة الى بغداد بمهمة خاصة تتعلق بالحزب الشيوعي العراقي. بالمصادفة كان الحزب في تلك الفترة يعدّ لمظاهرات صِدامية للتنديد بالحلف الاستعماري – التركي – الباكستاني، الذي سريعا ما تحوّل إلى حلف بغداد، المرادف لحلف شمالي الاطلسي. حضرنا في الساعة 5 مساء قبل موعد الانطلاق بنصف ساعة . كان الرصيف بين حديقة الامة وساحة الباب الشرقي مليئاً بالشبان ملتفين حول بعض عربات باعة السيكاير والباقلاء وسندويج (العمبة والصمون) والرقي والبطيخ وبعض انواع الشربت. كان حمدي العاني قد انشغل عني باحاديث وهمسات وتحركات مع احد الحاضرين المبكرين في الساحة ربما هو قائد المظاهرة . بعد دقائق اخبرني حمدي ان المظاهرة قد تأجلت  بسبب تطويق المكان بعدد غير متوقع لرجال الامن والشرطة، مما يشير الى انكشاف المظاهرة. بالفعل لاحظتُ أن عدداً من الشبان بدأ بمغادرة الساحة في لحظات ارتفاع صوت بائع الرقي وهو يرفع بيده (شيفاً) أحمر من الرقي  وهو يصيح : ( رقي أحمر .. أحمر .. أحمر.. تعالوا تذوقوا الحلو الاحمر). كان الرجل يمارس بصوته الدعاية لبضاعته ،لكن سرعان ما ارتفعت اللافتات في الساحة كأنما كانت بانتظار أي صوت ينطلق في هذه الساحة ، وبدأ الهتاف : يسقط الحلف التركي – الباكستاني .. تسقط الخطط الاستعمارية . ثم انتظم الحاضرون بصفوف متراصة في مظاهرة توجهت إلى شارع الوصي عبد الاله (شارع الكفاح/لاحقاً)  كما كان مقرراً في الخطة الاصلية. هكذا فرضت المظاهرة نفسها على المتظاهرين، الذين سرعان ما اصطدموا بقوات الشرطة بالقرب من (سينما غرناطة) وتفرقنا عنها . ترى هل يوجد سحر خاص في الباب الشرقي ليكون مكاناً لنصب الحرية ولتكون ساحته منطلقاً لنضال المتظاهرين في هذه الأيام..؟

كانت الساحة راعدة بحركة السيارات في أحيان كثيرة وكان النصب مرتطما بدويّ (هورناتها) بينما الحياة في العاصمة بغداد تمشي وئيدة، خائفة، تختلس النظر الى حصان جواد سليم . في بعض الأحيان  كانت الوجوه الشاحبة المتحركة بدفع من سلطة صدام حسين حيث  المسيرات الحكومية المؤيدة للدكتاتور تشعر  بعذابات نصب الحرية بعد اجتثاث  جذور الحرية  في وطننا  . 

كان مكتبي في الطابق الثالث من (عمارة فاطمة) بالباب الشرقي مطلاً على ساحة التحرير مقابلاً نصب الحرية، حتى انني وجدت كلاماً طيباً من الصديق المخرج السينمائي قيس الزبيدي حين زارني بمكتبي عام 1979 أو عام 1980 – لا اتذكر – ليجد  نصب الحرية متألقا بمنظرهِ، من شباك مكتبي، فأثنى على اختياري ضمن مساحة تسكنها عوالم جواد سليم العبقة . كان قيس الزبيدي ،يومذاك، حاملاً لحلم من احلام حياته متأهبا لعمل سينمائي لتوثيق نصب الحرية لكن تنقصه الوثائق والمصادر . في الحال وهبته جميع ما كنت قد جمعته من كتب ومجلات ومقالات ودراسات عن نصب جواد سليم عسى أن تكون مسرباً من مسارب الخضرة السينمائية المرتقبة، لكن اوضاع الحروب والقتل والسجون والمقابر الجماعية، التي حلقت في العراق وتساقطت على العراقيين حالت دون انجاز مشروع الفنان قيس الزبيدي . 

بعد عام 2003 اكتشف احد المثقفين العراقيين البارزين (مفيد الجزائري) حين كان وزيرا للثقافة أن عالم نصب الحرية تسكنه الاوساخ وتضرب رهبته بعض التصدعات فوجد نفسه مسئولاً بضرورة المبادرة السريعة للنهوض   بمهمة  اعادة رونق  النصب، بتنظيفه وتعميره واصلاح بعض جوانبه. قاد بنفسه  مجموعة متطوعة لإنجاز هذه المهمة. المجموعة ضمت مثقفين مقتنعين وموظفين بوزارته من الطيبين فارتجفت أرض ساحة التحرير بنشاط  جماعي دؤوب لكي يمتزج حب الشعب اكثر واكثر بنصب الحرية ، ليزداد حب الناس لصاحب هذا النصب (جواد سليم) باعتباره رائداً من رواد  فن النحت والرسم في العراق .

تُرى هل كانت قد برقت يومذاك في عيني مفيد الجزائري ومضة متوهجة أن يوماً قادماً سيكون مليئاً  بالجماهير  بصخب حركتها ورعد اصواتها وثقل اقدامها وهي تحث الحركة والخطاب والهتاف تحت نصب الحرية كمعجزة نضالية سلمية واسعة ..؟  نعم كان مفيد الجزائري ساعياً وراء هذه اللحظة وهو يشعر أن جواد سليم ونصبه يناديان الشعب كله إلى الاستعداد لخطوات نضالية لا يرحل اصيلها عن بغداد وساحة التحرير.

لأن نصب الحرية مصنوع من البرونز على بلاط مكسو بمقياس 50 مترا x  10 مترا مرتفعا عن الارض بستة امتار أي أنه يملأ مدى واسعاً يتناسب مع مدى التاريخ العراقي، فأن هذا الحجم اصبح صداه ممكنا ،أيضاً، في حجم المظاهرات الجماهيرية .عشرات الآلاف يتوهج لهبها الحي في يوم الجمعة منذ تسعة اسابيع. ترفع أياديها عالياً، ملوّحة لجواد سليم.  فقراء فلاحون قادمون من الريف.. طلاب وطالبات يدافعون عن أوسمة العلوم مطالبين بتطويرها.. عمال يواصلون الانتاج لكنهم ما زالوا حفاة.. أمهات يحدقن إلى السماء يسألن عن ابنائهن السجناء أو المعتقلين او المقتولين في سبايكر.. مثقفون واعون يحبون بغداد وما عادوا قادرين على رؤيتها محرومة من الثقافة والفنون والحرية لكنها مليئة بصفقات الفساد والفاسدين.

 في كل يوم جمعة تقف الديمقراطية العراقية بعيون حور تواصل النظر إلى حصان جواد سليم كي لا يحفه صمت مطبق في زمان تتقد حوله، في شماله وجنوبه، في شرقه وغربه، النار الضالة مع صرير التفجيرات والمفخخات والاغتيالات .

نصب الحرية  مصنوع تماما بعلاقة مباشرة مع الشعر العربي فقد ألفه جواد سليم من 14 قطعة برونزية تنظر إليها العيون ، كما في بيت قصيدة شعرية ، قال بيتا منها المتنبي، وآخر الجواهري، ومعروف الرصافي،  بلغة ثورية برونزية رسمت  الاحداث، التي مهدت لقيام ثورة 14 تموز، وصولاً الى الثورة ذاتها وحالة الوئام بعدها.

مثلما عشق جواد سليم مدينة بغداد فأن المتظاهرين عشقوا نصب الحرية. صارت ساحته تحمل اسم (ساحة التحرير). صارت الساحة فضاءً رحباً لعشاق الحرية والتحرير والنضال. عينا جواد سليم تحدقان في الجماهير . جواد سليم  يتأمل بغداد، يتأمل دجلة، يتأمل الناس القادمين من صباح بيوتهم الى العمل مثلما يتأمل الذاهبين إلى دورهم في الليل بعد انقضاء اعمالهم ، لكن زماننا الحالي جعل اقدام الجماهير مثل الأمواج المتحركة تحت النصب بشفاهٍ ناطقة بشعارات الحق والعدالة.
يظل جواد سليم تحت الشمس والهلال والبدر متربعاً على عرش نصبه البرونزي مناشداً الجماهير بصوتٍ مدوٍ : تحيا الحرية …دولة مدنية ..عدالة اجتماعية.