تسيدات ضمير المتكلم : (بابنوس) رواية سميحة خريس
إلى روح الشاعر السوداني جيلي عبد الرحمن.. وإلى قصيدته ( أطفال حارة زهرة الربيع)
في (بابنوس) رواية سميحة خريس، توقفتُ عميقا، لدى ما يجذبني ويبهجني
(*)
حين تخبرني الفتاة بابنوس عن متغيرٍ يضيف ضجيجا يكسح الهدأة ولذائذ الإصغاء لتفاصيل مؤتلفة يوميا : المتغير متواضع : عربة بئيسة من عجلتين اشتراها أحد التلاميذ، فوفرت لهم (الوقت والمسافة)
(*)
هؤلاء التلاميذ الفقراء كابدوا من مشقة الذهاب والإياب. المدرسة البدائية بعيدة جدا فكانت المعلمة تصرفهم قبل نهاية الدوام، خشية من ظلمة الليل ..
(*)
كل ذلك جيد لكن بابنوس فقدت ما تحبه هي أو بالأحرى ما يستلذه رهفها، فهي قبل العربة وبشهادتها (كنت أمشي بأرتخاء وألتقط الأصوات المرهفة: صفير الهواء،عواء كلب بعيد خارج البلدة، طقطقة الحديدة في قفل شنطة ود الشفيع، حين تخبط لحم فخذه المكتنز، تك تك تك، زنوبة،، مريم الكبيرة وهي تلتصق بقعر قدمها ثم تنفلت وتلتصق وتنفلت، لات لات لات ..)
(*)
الرسالة الحكّامة : رضعّت الصغار حكاياتها وقصائدها واغنياتها،وهكذا أوثقت صلاتهم مع حياة ٍ ترتعش على أوراق الشجر، وتهمس في الريح، وتتجلى في خيوط الشمس، وهكذا تقدموا الصغار، نحو رفقة الكون الكبير من حيزهم الرملي المخضوضر والعميق كالحفرة التي يتم فيها تركيم مياه الأمطار، وهكذا صاروا يتقنون الإصغاء للكون في هديله وهسيسه، قبل ضجيجه .. لكن الأم الكبيرة أخت الرجال : الرسالة / الحكّامة عرفت أن في سردها التأثيلي لليوتوبيا لا يخلو من فجوات، صادمة لا تتراجع، فمؤثرية الزمن التقني لا تخاف ولا تستحي وليس الحل في البعد والكفاية والأمان، فهذا الاقنوم ليس بإمكانه التصدي وهذا الانتباذ الاجتماعي سيجعل الجيل الجديد هشا في مدن تتنامى وتتشابك فيها المصائر، وتستضيء بكل مكونات الحياة : جامعات. مدارس. مستشفيات . صيدليات .كهرباء أنابيب ماء،ثلاجات .أفران غازية: هذه وسواها من سرديات المدنية المغوية
(*)
ثمة اتصاليات تواشج بين الروايتين : بابنوس / فستق عبيد : كلتاهما تقتسمان السودان فضاءً روائيا : سودان الجوع والثورة، ومن خلال قراءتي وكتابتي* عن (فستق عبيد) شعرتُ نصيا وليس من ناحية النشر، أن فستق عبيد هي الأولى والتالية (بابنوس)..وهناك اتصالية : سيادة المرأة وبسبب توفرها في اغلب روايتها فتكاد تتنمط هذه السيادة النسوية. وهنا يتنزل سؤال في هندسة الفعل الروائي : هل رواية بابنوس : تمرين سردي أول؟ عتبة روائية ؟ منصة إنطلاق إلى مديات أوسع وأعمق تجسدها الروائية سميحة خريس في رائعتها (فستق عبيد) ؟
(*)
أعني المرأة كمثال أعلى. والمرأة في رواية (بابنوس) اسمها يكتنز بدلالات غزيرة : اسم المرأة : الرسالة: ويسمّونها الحكّامة ولها منزلة ومقام بين الناس، امرأة تشعر انها خارج النظام الكوني الشامل، وهي تعيش ضمن تفردها الأشكالي هي امرأة جنسانيا لكنها غير مؤنثة،هي أخت الرجال،هي الحكّامة (مخلوق مغاير فوق البشري،أعلى من المرأة قليلاً، تصطف قريباً من موقع الذكورة ولكنها تتجاوزه، وهي بعد ذلك ليست ملاكا، ولا خنثى../2) والرسالة / الحكّامة : لم تكن هي في مراحل النماء البشري (لم أكن المرأة نفسها في شبابي ولا في طفولتي،أعرف أن كل امرأة كنتها انطوت في أعماقي مثل جنين يفسح الزمان والمكان لآخر ينسل منه../ 15 ) من استبق معها وسبقها؟ ألوعي النصي المقدس وهي تسمعه وتحفظه وتختمه؟ أم فيها تجسد الإنسان قبل إنشطاره الأثني : مذّكر / مؤنث ؟ وربما بسبب هذه الما قبل،صارت لها قدرات (تحل الإشكالات العالقة بحسم الرجل وحكمة الأنثى، من دون سلطة غاشمة أو ثراء خادع..) امرأة تفاخر الجميع انها من نسل المساليت العظام : قبيلة إفريقية عربية تسد جموعها عين الشمس، قبيلة روضت الجوع والقيظ والهبوب، قبيلة بِلا ضرع وزرع، هذه القبيلة جزء من الشعب السوداني، لكن مفردة شعب خلية موقوته تتشظى إلى شعوب داخل الشعب الواحد، لهذا كانت القبيلة في مهب شتات مشروط بدخولهم المدينة، لذا بادرت الرسالة وهي طفلة بتخليق سردا كتلوياً لقبيلتها (نلقى حتة تلمنا كلنا، لو تفرقنا نهون /6 ) وهكذا أثلت الطفلة التي اسمها الرسالة وطنا لقبيلتها منتبذا عن المدينة : واحة خفيضة فيها سدرتين وثلاثة لا لوبات وتبلدية واحدة ضخمة وشجيرات شوكية : هنا ينهض سردٌ جديد للتجمع البشري المهاجر: بقعة بلا اسم سيطلقون عليها اسم : (الخربقة) بقعة منتبذة بينها وبين أي مدينة فراغ يعفيهم من اتباع الحكام في المدن والعسكر في الأرياف، ثم سرعان ما يكتشف سكان الجربقة : قريبة من حاضرة (نيالا) وسيرون خطوط السكك الحديد التي تنتهي عند نيالا وكهرباء نيالا، لكن الخربقة خارج تغطية المسؤولين الحكوميين والتطوير والتغيير، لذا كانوا في منجاة من جوابيّ البراري بحثاً عن الصمغ والبترول، وفي منجاة من تجار الجلود ومهربي العاج والأبنوس وريش النعام، وهكذا تحصنت يوتوبيا الخربقة
لا تتخاصم على ملكية، فقرهم خصيمهم يشغلهم ويشاغلهم ويغنيهم عن التخاصم فيما بينهم..لكن سرد نص يوتوبيا الخربقة، ستهشمه ماورائيات النص
(*)
في تراتبيات مجتمع الجوع والتصوف والعنف المسلّح والوعي الثوري وتغافل الحكومة عن بشرٍ تحت خط الصفر.. أين تتموضع الشخصية الرئيسة : حكّامة؟
لا تتموضع في منزلة بين منزلتين، بل في منزلة بين المنازل. وتخبرنا هي عن تموضعها مجتمعيا : (ترسيمي حكّامة تقع بين الولية والمغنية والهداية وضاربة الدلوكة، أهم وأبقى عندهم من أسطورة الولي/14 ) .. ربما قوة هذه المرأة تتجسد في قنصها لروح المعنى وليس المعنى وحده وهي تتماهي حد التذاوب في شعرية حروفية تتجلى لها ثم تقوم الحكّامة ببث تجليات الحروف فيمن حولها وهكذا حكمتهم حرفيا بِلا سطوة أخرى (قلت القصيد لأوافقهم على منصبي الذي حددوه، وتلذذت بنسج الكلام .. بت أستمتع بعذب الحروف حين تتجلى من أنحناءاتها روح المعنى في جمل بديعية، الشعر وحده قادر على إيقاظ روحي الشفافة وربطها بروح العالم، شعرت كما لو أن داخلي صوتا حريريا يتسلق الحروف ويكشف جمالها للعيون، وأن ناظري صار أقدر على رؤية ومضات الحياة ../ 16) لهذه المرأة المتسيّدة في مجتمعها طوعاً لا كرها، المرأة المانحة للجميع سعادات ٍ ملونات وهي ذات الشحنات الموجبة الكبرى التي بإمكانها أن تصير نغماً خالصا.. هذه المرأة للأسف هي امرأة للخارج وللكل ..(لكن المرأة في داخلي عصية / 17)!! ولا تجد علاجا لها خارج الروح الجمعية التي تمتلكها فهي ترمم أوجاع روحها بتعاطفها الميداني مع الكل، لكنها لها شعورها الخاص بها (هؤلاء عائلتي ولكني وحيدة في أعماقي)
رغم ثقلها المجتمعي وحنوها على المسقّطات من النساء وأحتواءها لهن مع صغارهن غير الشرعيين، لكن الحكّامة تشعر بغربتها (ليس لدي أقارب من لحمي ودمي، ولا أحفاد من صلبي،فصلبي لم يعرف ماء الرجل..)
(*)
لهذه المرأة وظيفة أخرى خارج مجتمعها/ داخل السرد فهي التي تسرد لنا عن شخصية : تركية ومنها نعرف أن تركية هي أم ،،ست النفر،، وتركية جدة بابنوس. ( في شبابي وصل،، ديقو،، صياد النمور إلى الديرة يحمل على ناقته بنتاً مغبرة نحيلة ببطن بارز،كانت البنت بيضاء كأنها من الخواجات/18- رواية بابنوس) ما بين القوسين يجعلنا مع بداية رواية سميحة خريس ( فستق عبيد ) ومن الحكّامة نصل إلى سرد مقفل لا مفتاح له إلاّ عند تركيّة والدة ست النفر وحين تموت تركيّة تسلم مفتاح السرد لأبنتها ولا تخبرنا الحكّامة بغير هذا الوجيز (رحلت،، تركية،، بأسرارها التي لم تسلمها لنا ولا باحت بها بعدها ابنتها ).. ومثلما يوجد سرد مقفل،يوجد سرد ٌ موؤد في دخيلة
(حوّا) : حوّا التي دناءة العمدة والتي لم تسمح لرجل بالاقتراب منها (ولا أجابت عن الاستفسارات الدقيقة، ولا شفت فضول أي من أهل الخربقة ) هذا ما تسرده لنا الحكّامة عن حوّا وتضيف (قدرتُ أنها أغتصبت، ولم أفه بكلمة، ولكنني ضممتها إلى حوش بيتي / 23) لكن سرها / سردها سيفضحه: آدمو: وليدها الأسود بزرقة عينيه..
وهناك السرد السريع الوامض حين تخبرنا الحكّامة عن زواج الرجل اليماني باسالم من اليتيمة ثومة السودانية المسيلتية:
*صار صاحب دكان
*ووالد الابناء الذين يساعدون والدهم، قبل أن يكبروا ويلتحقوا بالمدارس
وقد جعلوا باسالم جدا لأحفاد كثر تسهى عني أسمائهم./ 23
وهناك المقايضة السردية التي ترفضها الحكّامة (هل تستحق تلك المكاسب التي توفرها المدينة أن نخضع للتنظيمات الإدارية التي تصادر أرواحنا الحرة؟)
الحكّامة تجاهد في التصدي لسرديات الحكومة والجيش والتمرد، الحكّامة تريد صيانه عذرية يوتوبيا الخربقة :(قناعتي أننا أهل الخربقة: نعيش لعبة الدنيا على هوانا،نغير نظامها، ونسوسها حتى لو حملتنا بمجاعاتها وفقرها على درب الموت. إنها خربقة التنعم بالاستقلال، أن تكون عاريا يعني أن القماش لا يشتريك،إننا قوم الصبر على الجوع، وهدهدة المحبة والوفاق، خربقتنا هي اعتكاف الحمائم في أوكار بعيدة عن الصقور، إنها ما تبقى من أرواح المساليت فينا ).. انغلاق الحكّامة يقابل أنفتاحها على العلم خارج الخربقة للجيل الجديد وهو انفتاح يشوبه التردد والخوف (على الصغار بشق طريق لهم للالتحاق بمدارس المدينة،مشوار طويل يقطعونه للتزود بعلوم الدنيا..)
(*)
تفعّل رواية (بابنوس) ديمقراطية السرد بضمير المتكلم، لا سارد مطلق يتحكم بمسار الإخبار والإجراء النصي . في بابنوس كل شخصية تحدثّنا عن نفسها وعن غيرها :
*الرسالة / الحكّامة
*بابنوس : لا تشبه سواها ولا تتماهي إلاّ في شجرة البانوس ولا تسمح بتدوير سرد حياتها إلاّ للحكّامة وبشهادة بابنوس (كل مداخلي مشرعة للحّكامة، إنها أم روحي وعقلي،لها وحدها أتيح الدخول بلا قيد أو شرط ولها وحدها أسمح بتشكيلي وتغييري..
(*)
حين انتهيتُ من قراءتي الأخيرة، التقطتُ خيطاً .. لظمت ُ هذه المفردات السودانية.. جعلتها قلادة ً وعلقت القلادة في بيتنا :
*قطيتي
*الهداي
*ثمرة العرديب
*كداري
*حبل الربط
*الدندارية
*البنابر
*لا لوبات
*القطاطي
*الدلوكة
*شمبلا
*مند قرات
*الجنجيود
*أهل التكل
* فكي
* البرغال
* عنزة عتوت
*لعبة دنقري
*حبات المديكة
*ملاح أم ظمتا
*يمكن العودة إلى مقالتي (حريات الفقر/ رفاهية العبودية) عن رواية (فستق عبيد) للروائية سميحة خريس