تحتفل الناصرة بمناسبة هامة في تاريخها، عيد بشارة العذراء مريم وهو عيد الناصرة الأهم عبر كل تاريخها، هو العيد الذي كان يوحد ابناء الناصرة بكل طوائفهم*يعتبر إعلان علي سلام رئيس بلدية الناصرة، في السنة الماضية عن اعتبار عيد البشارة عيدا نصراويا لفتة إنسانية هامة جدا، يعيد فيها للناصرة أحد أهم أعيادها ، بذكرياته التي لا يمكن ان تمحى من تاريخ مدينتنا وتقاليدها وتعاضد اهلها وذاكرتها الشعبية.
الموضوع يتجاوز الجانب الديني ( ولا اقلل من اهميته) الى تقليد نصراوي اجتماعي، له مكانته في تاريخ مدينتنا، وفي الذاكرة الشعبية… وهو ما اود تسجيله بهذه المناسبة حتى لا ننسى تاريخنا!!
وللذكرى: حضرت قبل سنوات مناسبة بالجامع الأبيض شارك فيها المطران اللاتيني ماركوتسو الذي يتحدث العربية كأحد ابنائها، رحب فيه السيد عاطف الفاهوم القيم على الجامع البيض معتبرا المطران ماركوتسو إماما للجامع الأبيض، وكن رد ماركوتسو على الترحيب باعتبار عاطف الفاهوم مطرانا لكنيسة البشارة. هذا هو ابرز ما يميز التلاحم والتآخي النصراوي.
*****
من ذكرياتي عن عيد البشارة:
يا عدرا يا ام المسيح ارفعي عنا التصاريح
الناصرة مدينة المسيح كما تعرف، لها عيد خاص هو عيد البشارة، “عيد الناصرة” كما يسمى… حين بشّر الملاك جبرائيل العذراء مريم انها ستلد ابن الله يسوع المسيح.
لهذا العيد قيمة خاصة في الناصرة.. كانت تجري الاحتفالات في كنائس الناصرة بمشاركة جماهيرية واسعة تشمل كل طوائف المدينة وكل حاراتها.
بسبب التقويمان الغربي والشرقي كانت تجري احتفالات الناصرة بعيد البشارة مرتين، مرة حسب التقويم الغربي وأخرى حسب التقويم الشرقي، الذي نأمل ان ينتهي وتتوحد أعيادنا. أما من الناحية الشعبية فكانت مشاركة اهالي الناصرة تشمل كل الطوائف بالمناسبتين المختلفتين للإحتفال الديني، لكن ابرز ما في الاحتفال جانبة الشعبي الجماهيري.
صحيح اني بجيلي الصغير نسبيا أتذكر أكثر الاحتفال في ساحة كنيسة البشارة للروم الأرثوذكس، حيث كان يحضر البطريرك الأورتوذوكسي من القدس، واهم ما في الاحتفال ليس طابعه الديني اطلاقا، انما طابعه الشعبي الفولوكلوري، اذا صح هذا التعبير.. وهو ما تشرش في ذاكرتي.
عادة بعد الصلوات الرسمية يقام احتفال في ساحة الكنيسة الرحبة يحضره كل مواطني الناصرة من كل الطوائف، هذه هي أبرز قيم ذلك العيد وأعياد الناصرة التي لم تعرف التفرقة بين مسيحي ومسلم. أصلا من كان ينتبه الى كون ذلك الشخص مسيحيا او مسلما؟ لاتينيا او كاثوليكيا او اورتوذكسيا؟ كنا ابناء وطن واحد منكوب، أعيادنا واحدة، فرحنا واحد وألمنا واحد..
كانت تعقد دبكة في ساحة كنيسة البشارة ، نفس الأمر كان يجري في كنيسة اللاتين، يشارك بها المئات من كل الطوائف وكيف لا والناصرة بلد التفاهم والمحبة. كان الاحتفال يتميز بشعبيته، تقوم حلقات الدبكة، والمميز الأكبر كان مشاركة سيافان من عائلة مزاوي النصراوية يرقصان بشكل فني بالسيوف لتصبح السحجة حولهما حلقة واسعة يشارك فيها اهل الناصرة كتفا الى كتف.. وكانت تتوارد قناني العرق من أهل حارة الروم وخاصة من طيب الذكر اسحق كردوش.
تفتح القناني ويخلط بعضها بالماء لتدور على الجميع، الجميع يشرب، وأعني المسلمين والمسيحيين… والسحجة تصبح اكثر حماسية، السيافان يبدعان بـ”القتال” الراقص.. والعرق يتدفق من كل النواحي.. ثم تبدا المسيرة من ساحة الكنيسة الى دير المطران (كنيسة القلاية) يتقدّمها كشّاف الروم الذي يضم شبابا مسيحيين ومسلمين يسيرون امام موكب المطران وضيفه البطريرك الي دير الروم في مدخل سوق الروم، ووراءَهم المئات او الآلاف في سحجة اولها وصل قرب دير الروم وآخرها ما زال قرب كنيسة البشارة.
المسيرة (السحجة) التي بدأت كاحتفال ديني تتحول بدون مقدمات الى تظاهرة سياسية يطرح فيها المحتفلين هموم حياتهم ويعبرون عن غضبهم من الظلم والتمييز العنصري بأبشع صوره في تلك الأيام، خاصة نظام الحكم العسكري الذي يضيق الخناق على عمال الناصرة (والعرب في اسرائيل بشكل عام) بقانون التصاريح التي تقيّد حركتهم وتستعمل أحيانا كجهاز للانتقام من “السلبيين” الذين لم ترهبهم الاعتقالات والتضييق على الأرزاق.. وواصلوا نضالهم ضد تعسّف السلطات العنصرية رغم الثمن القاسي الذي دفعوه هم وأبناء عائلاتهم.
كان عيد البشارة مناسبة للتعبير عن واقعنا الصعب ايضا.. وتمجيدا للمسيح في مدينته التي أعطيت فيها البشارة بميلاده.
بدون مقدمات تنطلق الهتافات المحبوسة بالصدور ضد الحكم العسكري وتعسُّفه وتصاريحه.. وتنطلق الأهازيج الوطنية والزغاريد وتتحول الدبكة التي يصطف فيها الرجال والنساء جنبا الى جنب الى تظاهرة عفوية… كانت صفوف السحجة تمتد من ساحة كنيسة البشارة حتى مدخل دير المطران.. أكثر من 3 كيلومتر.. ويرقص المحتفلون بعيد البشارة ويطلقون إغاثة للعذراء مريم سيدة البشارة:
يا عدرا يا أم المسيح ارفعي عنا التصاريح
ستي يا عدرا نجينا من الحكم العسكري خلصينا
يا عدرا احمينا احمينا احنا الك التجينا (أي التجأنا)
يا عدرا يا أم القدرة زتي العسكر لبرا
هذه بعض الأبيات التي أتذكرها. سألت كبار السن لعلّهم يتذكرون المزيد، للأسف ضاعت بقية الأبيات وليت من يحفظ بعضها يرسلها لي على ايميلي!!
بعد ان تفرغ قناني العرق، التي لا تخلو منها السحجة والتي لها حصتها في الغزل مثل:
“اللذة مش من اول كاس اللذة بقاع القنينة”
وغيرها من أغاني الغزل بالعرق يبقى الهم الوطني…
ما بقي ان أذكره ان الشرطة لا بد ان تعتقل مساء بعض المتظاهرين الذين بحت اصواتهم وهم يهتفون ضد الحكم العسكري ويناشدون ام المسيح ان ترفع عنهم التصاريح!
مثل هذا العيد هو عودة الى أجمل ما في تقاليد الناصرة… ويستحق علي سلام ان نشكره لإقراره عيد البشارة عيدا رسميا.
[email protected]