“لقد وجدت في التاريخ مدناً بلا حصون، وأخرى بلا قصور، وأخرى بلا مدارس، ولكني لم أجد أبداً مدناً بلا معابد”، يقول أحد المؤرّخين. يولد الإنسان، أي إنسان، غير مدرك لما حوله، حتى إذا اشتد عوده ألفيته يحاول تلمس طريقه في خضم زحمة الاضداد بحثاً عمن ينتمي إليه، إذ أن ثمة حاجةً متجذرةً في الخارطة النفسية لهذا المخلوق لا تنفك عن الإلحاح في طلب الانتماء.وسرعانما يأخذ هذا الانتماء أشكالاً وأبعاداً مختلفة، على أن الميل الفطري لصاحب العلاقة ليس وحده المحدد لتلك الأشكال والأبعاد، فالموروث الطبائعي والثقافي والعقائدي للبيئة المحيطة وغير ذلك من
العوامل، جميعها تلعب دوراً غايةً في الأهمية لجهة بلورة الشخصية الإنسانية من الناحية الفكرية. ما من شك في أن لكل فرد في هذا العالم سماته الشخصية والاجتماعي والعقدية التي ينفرد بها عمن سواه، بدءاً بالحلقة الضيقة للأسرة وطباعه مروراً بالحي وعاداته، فالمدينة ومناسباتها، والبلد وتقاليده، وليس انتهاءاً بالديانة التي يعتنقها وما ينسحب عليها من طقوس تعبدية. وعلى ذلك فإنه من غير المعيب، وبحسب دستور السلوك الإنساني الصحيح، أن ننظ بعين الاحترام لتلكم التصانيف والمصنفين في خاناتها، وكذا الحال مع طقوس هؤلاء وتقاليدهم التي يرونها مقدسة، كونها تمثل عصباً حساساً لديهم، لا بل إن فعل الاستغراب الشديد ليقع على تصرف كل من شذ عن سياق إجماع العقلاء، ذلك أن المعتقد للإنسان كالوتد للخيمة. بعد هذه المقدمة، أصبحت ألاحظ في الآونة الأخيرة، أن ثمة فرساناً من أصفار المثقفين اعتلوا ظهور لوحات المفاتيح وصوبوا وجوههم شطر شاشات الحواسيب، ليأخذوا بذلك على عاتقهم خوض حرب بالنيابة عن كل من فاتته فرصة توجيه سهام (الانتقاد) تجاه كل ما يتصل بالإسلام وشعائره من قريب أو بعيد. على أن ما يؤسف له بحق أن جل هؤلاء متحدرين من خلفيات إسلامية لا ريب فيها.
لمناسبة كوني علماني، فإنني أود أن أعلل لبعض أولئك الذين لا يحسنون انتقاء ألفاظهم يوم يتوجهون بالنقد صوب الشرائع السماوية، لماذا دأب المسلمون على نحر الأضاحي؟ ببساطة شديدة، إنها مناسبة يقوم فيها المسلم الميسور الحال بتوزيع اللحم على الأقارب والفقراء، ولست أرى في ذلك الطقس من مثلبة تذكر، كما ولست لألتمس لمنتقديه عذراً، إلا لكون أدمغتهم قد
أفرغت من محتواها قبل أن تستبدل بصفائح قمامة. لمّا قدر لهذه العجالة أن ترى النور في الثلث الأول من تشرين الأول، يطيب لي أن أسأل: لماذا لم نسمع أمريكياً واحداً، مسيحياً، يهودياً أو حتى لا دينياً، يبكي على ملايين الدجاج والديوك الرومية التي تذبح سنوياً لمناسبة عيد الشكر، كما يفعل فرسان العالم الافتراضي من أصفار المثقفين هذه الأيام، علماً أن الولايات المتحدة الأمريكية تنشط فيها جمعيات الرفق بالحيوان أكثر من جمعيات حقوق الإنسان!!!
وهنا ربما يقول قائل ممن يعرفني شخصياً: ألست علمانياً؟ ما شأنك أنت والإسلام، أخيرٌ أريد به أم شر؟ فأجيب: نعم أنا علماني، لكني مسلم في المقام الأول، مسلم يحترم جميع الأديان بكل ما اشتملت عليه من تعددية مذهبية. فرق ما هنالك، أنني أعتقد بالعلمانية القاضية بضرورة فصل الدين عن السياسة، لا بتلك التي يعتقد بها بعض المتشدقين بالفكر العلماني، ممن
انخفضت درجة الرؤية لديهم حد اللا تمييز بين العلمانية والإلحاد، والتي تقضي بفصل الدين عن الحياة، فهؤلاء ليسوا بأقل خطراً على الإنسانية من متطرفي الديانات مجتمعةً، وبضمنها الإسلام قطعاً.
في الختام، لست لأختلف معكم لجهة كونكم علمانيين، وإنما لكونكم متطرفين، من أجل ذلك أجدني أتوجه لكم بدعوة صادقة، مادمتم ترون في دين محمد ديناً مليئاً بالخرافات والأفكار الرجعية والعيوب والثغرات، فلماذا لا تمتلكون شجاعة العدول عنه، وتذهبون إلى حيث اطمأنت قلوبكم، بدل أن تجهدوا أنفسكم في البحث والتنقيب عن سند ركيك هنا وآخر أرك هناك بغية التسقيط، فلقد
“كان غيركم أشطر” على رأي المصريين. سألتكم بمن تعبدون وبمن لا تعبدون أن لا تجشمونا عناء الخوض في وحل تنظيراتكم الفجة وتصويباتكم المجة؟ فما دخلنا العالم الافتراضي إلا لنلقي عن كاهلنا بعض عبئ عالم الواقع الثقيل الدم، فارحمونا ترحمكم مارلين مونرو، ارحمونا ترحمكم بريتني سبيرز، ارحمونا ترحمكم هيفاء وهبي!!!