نحن أمّة أخلاق .. نعتزّ بأخلاقنا كثيراً وبأعرافنا الّتي هي الرافد الرئيسي لوصايا الإسلام .. لنا مواصفات أخلاقيّة اجتماعيّة لا مثيل لها لكن .. كشفت الأحداث بدرجات عنفها المختلفة على مدى قرون أنّ هذا المكوّن الخلقي العظيم لا يمتلك جدار حماية يحافظ على ذاته العزيز لأنّ أبوابه مشرّعة أمام الغرباء , فاقد للمناعة .. فقد تناوب المستعمرون على دخول بلادنا أو بلداننا طيلة قرون ومنذ سقوط الدولة العبّاسيّة .. من السهل عليهم اقتحام مضاربنا ودواويننا وسلفنا وحاراتنا وبيوتنا عكس الّذين ادّاركوا حالتهم قبل الإسلام أن لا يكون عزيز ما يملكون مشرّعة أبوابه على القوّتين العظميين آنذاك فهاجروا إلى بطن الصحراء هرباً نحو المَنَعَة الّتي يحسنون إدارتها هناك بتحصّن مكوّنهم العُرفي الّتي تتنافر مكوّناته وبيئة المدنيّة الظالمة آنذاك .. ولكي نثبت “عداوة” الحالة للواقع نسأل أنفسنا لنقيس عمق هواننا على الاخرين : هل بإمكاننا بالمقابل أو قادرين على اقتحام مكوّن الغرب الاجتماعي واقتحام مدنهم وإهانة شيوخهم متى نشاء مثل ما فعلوا ولا زالوا يفعلون هم بنا ومتى شاءوا ؟ .. لنكن أكثر صراحة ولو “شطح في الجرأة” .. هل بإمكان أيّ من رؤساءنا أو كبار قومنا , ولنخفّف المشهد ونقول “في مشهد سريالي” , هل بإمكان عليّة القوم عندنا ردّ صفعة جندي أميركي يوجّهها بيده لأحد قادتنا أو أحد وجهاءنا دون أن يلقى حتفه إن تجرّأ وردّها أو يختفي من بلاده ومن دياره إلى ملاذ آمن وإلى الأبد ويترك أقاربه “للانتقام البديل” ؟ .. أخلاقا وأعرافنا “ومبادئنا” عالية وعالية جدّاً أعلى من أبراج دبي وأكثر رحمةً من تيسيرات هذه المدينة الذكيّة لكن , بحاجة لمن يحميها من أطماع المحيطين لأنّها لا تمتلك قوةّ الردع في عالم الكبار في الردع إلاّ إن هربت “المدينة” لبطن الصحراء .. الجميع معرّضون “للصفع” في أيّة لحظة رغم ما نملك أعلى الأخلاق , وسجلّنا حافل بالصفعات منذ العثمانيّين إلى البويهيين إلى الصفويين إلى البريطانيين إلى الأميركيين إلى إلى .. وحوادث الإهانات بأنواعها لو سُجّلت من مداهمات القوّات الأميركيّة لوحدها في العراق لبيوت الناس ومضاربهم لا تُعدّ .. فكم نسمع بمحكمات لجنود أميركيين داخل بلادهم عقاباً ما فعلوه بالعراقيين .. والله أعلم كم هي أنواع وأشكال تلك الاعتداءات و رغم ما افتضح جزء يسير منها , لكنّ البعض منّا يتبجّح اليوم وكأنّه سوف لن يتعرّض للصفع لكنّه يصفع بهدوء فيعرف حجمه ويتنحّى , لكنّ عينه “صلفة” لم يعد يحسّ بالإهانة وكأنّنا لا نعرف “ماذا حدث بالضبط” ..
بتقديري الشخصي , وقد أكون مخطئاً لكنّ المهم يجب أن نلتفت قليلاً لعجرفة قد تأخذنا بعيداً عن الواقع الأليم ؛ هو درس بليغ باعتقادي قدّمته الراحلة صباح رحمها الله لنا جميعاً لنرى أنفسنا على حقيقتها “وأن لا نلومها” .. فهي جريئة وتفكّر خارج ما نفكّر وثابتة عليه وهي في الرمق الأخير لم تخف أو تهاب .. هي لم تفكّر أن تكون يوماً ذاتها العزيزة ليست أكثر من “نفخة خاوية” سرعان ما “تفشّ” بنظرة لامحة لما حولها .. هي تقدّم البلاغة ولم تتنحّ عنها يوماً وثبتت على ما اعتاد مستمعو ستينيّات وسبعينيّات القرن الماضي أن يتلقّون منها ما كانوا صعب عليهم هضمه .. وجدنا اليوم مستهجنون “لوصيّة” صباح لا يُعدّون انهالوا بالتجريح على مواقع التواصل الاجتماعي , إلاّ النزر اليسير من تجرّأ وتماهى مع جرأتها وصراحتها ولو بالتعبير عن إعجاب بسيط على الأقل احتراماً “لمبدأها” الّّي نفتقد الثبات عليه .. فهي لم تعترض على مرجعيّة لدين تنتمي إليه , لكن رأته مقبرة للواقع , فنفرت حين أيقنت أنّ دينها الصراحة لا “النفاق” وإن عبّرت بما تمتلك من “أداة” .. اوصت أنّها تحبّ الله ولا تخاف الموت طالما لم تؤذ أحداً بلّ حبّت كلّ الناس .. هي اقتنعت أنّ الناس احبّوها وأنّ “عملها” لا غبار عليه .. هي أرادت التعاطي طيلة حياتها بينها وبين الناس فرح لا غدر فيه .. تقدّم بصوتها الجبليّ العميق الصافي الحنين أشجى الأنغام .. هي لم تزني .. لامها من لامها على كثرة زيجاتها .. لم يجدوا منفذاً لاختراق صراحتها سوى هذه الحجّة الوبيلة عليهم .. تزوّجت 10 مرّات .. أليس أفضل أن لا تبقى عازبة وهي تمتلك المال والجمال والصوت العذب أن تفعل ما تشاء ويطمع بها جميع أثرياء العرب وأمرائهم .. وملوكهم .. لكنّها احترمت ذاتها , لا الدين , لأنّها تعلم ما الدين , فهذا ليس دين كالّذي آمن به أجدادها الأوائل .. هي تعرف عن الإسلام الكثير لأنّ ازواجها كانوا جلّهم “مسلمون” .. أكثرت من الزواجات لكنّها لم تزني .. لم تجعل حبّها لدينها شهوات غريزيّة كما يفعل الكثير بل رباط مقدّس تفهمه أكثر ممّا يفهمه الآخرون أو يدّعونه .. صباح بادرت صراحتها جمهورها عندما لبّت دعوة للغناء في “إسرائيل” بعد “النكسة” .. لم يفهما الجميع ما كانت تقصد حين غنّت هناك لقد دخلت قائمة “الممنوعات” هذه الممنوعات الّتي باتت اليوم يجاهر بإعجابهم بها الجميع ! .. صباح تمتلك مشاعر وأحاسيس لم تجعلها يوماً أهواء ظرفيّة وتزول تمتلك عمق في فهم لما كلن يدور من صراع .. وصيّتها أثبتت عمق ثقافي نستهزئ بها نحن المفتوحة أبواب أعرافهم وأخلاقهم العالية على الجميع .. من الجائز يكون إحدى “عيوب” صباح تك الزيارة لكن أليس عيباً أعرضنا عن زيارة القدس بعد النكسة “زعلنا” ! على بيت المقدس فمنحنا الفرصة , لقلّة خبرتنا ولغباوة من تمدّن حديثاً , للاسرائيليين الانفراد بالفلسطينيين وببيت المقدس .. فكم “صباح” طبّع مع الكيان الصهيوني وانكشف ما يخفي إيمانه أو عمامته بعد أن كان يفعل ذلك في الخفاء قبل أن تصارح به صباح جهراً “وتحذّر” منذ نشأة هذا الكيان بل وهو أحد أسباب نشوء هذا الكيان وجدوا في صراحة صباح تلك التغطية على ما كانوا يخفون ..