18 ديسمبر، 2024 1:56 م

قصة قصيرة
( عودة )
قطع حبال غربته وعاد للوطن لكنه لم يجد فرقا كبيرا إذ لم يتذكره من كان يعيش معهم ويشاركهم الوطن والألم فقرر دفن ذكرياته والتعامل مع الوطن كغربة من نوع مختلف يشق فيها طريق جديد لحياته على أن لا يكون في هذا الطريق من عرفوه أمس وانكروه اليوم فاتخذ له أسما مستعارا ولقبا لا يدل على أنه من سكنة هذا المكان رغم أن ملامحه ولكنته تكاد تفضحه احيانا ومارس أكثر من عمل حتى استقر في عمله الأخير وعرف بالتزامه وانضباطه وحسن معاملته .
. في احد الصباحات لم يكن هناك زخم من المراجعين للدائرة وكان مذياعه الصغير يشدو بأغنية تتحدث عن الغياب والنسيان ومرور السنين الطويلة على ذلك فاخذ يدندن مع الاغنية مستذكرا تلك المرأة التي أحبها بكل صدق وإخلاص لكن تهمة ( معاداة الثورة ) حالت بينه وبين الاقتران بها ودفعته تلك التهمة للهروب تحت جنح الليل الى المنافي القصية حتى سرقت تلك المنافي ومدن الغربة اجمل سنوات عمره من دون أن يتفقده أحد أو يعرف هو شيئا عن امه وأخته المعاقة بدنيا فانحدرت دمعة حرى على خده من دون أن يعترضها أو يمنعها من الانحدار على صفحة خده الذي سالت عليه قبلها آلاف الدموع من دون أن يحلم بمن يربت على كتفه ويكفكف دموعه .
. بعد انتهاء الاغنية طلب لنفسه شايا وأشعل سيجارته وسرح بأفكاره بعيدا مع المجهول الذي لا يعرف ماذا يخفي له ثم ألقى نظرة على السجلات التي امامه وبدأ بترتيبها فحملت اليه مسامعه سلام بصوت أنثى مرتجف فرفع راسه للاعلى ورد السلام مردفا معه بكلمة .. نعم
فأخبرته ان لها هنا معاملة وأوراق راتب تقاعدي تخص زوجها المتوفي بحادث إرهابي وأنها تروم اكمالها وتطلب مساعدته في ذلك فسالها عن تاريخ التسليم واسم الشهيد ثم طلب منها الجلوس على الكرسي القريب منه .
. فتح الملف وقرأ اسم المتوفي وبقية أعضاء الأسرة لكن اسم الزوجة كان أشبه بقنبلة موقوتة تنفجر في راسه اعاده مرتين وثلاثة بينه وبين نفسه ثم سألها عن علاقتها بالمتوفي فأخبرته انها زوجته فسالها عن اسمها فكان مطابقا لما موجود في الأوراق الرسمية فوضع الأوراق جانبا وتفرس في وجهها لكنه لم يصل إلى تلك الصورة المحفورة في خياله .
. طلب شايا له ولها واستماحها عذرا بأنه سيدردش معها قليلا بعيدا عن المرحوم وأوراقه التقاعدية فانتفضت في وجهه ووبخته وقالت بصوت مسموع ..
كلكم هكذا تعرقلون سير معاملات رواتب الأيتام وتشغلون انفسكم بمساومة الأرامل على اجسادهن فإذا كنتم لا تعرفون الحياء ولا تخشوا ان يحصل لنساءكم مثل ما حصل لنا فخافوا الله الواحد القهار فرد عليها بصوت خفيض محرج .. اتقي الله انا لست منهم لكن بيني وبينك حساب طويلا ان كنت فعلا فلانة التي فارقتها منذ ربع قرن .
سالته ..
انت من ؟ وما هو نوع حسابك معي مع اني أجزم اني لم ارك في حياتي
. ان كنت فعلا فلانة فأنا فلان الذي احبك بإخلاص ودافع عن حبه لك من دون جدوى وبعد زواجك ترك البلد ولم تنسه اياك كل سنين الغربة ومدنها.
. ايعقل انت فلان ؟ ولا يوجد فيك شيئا من الماضي يدل عليك .. اين الوسامة وبريق العينين والامل والإصرار؟
. لا تنسي انك أيضا أخذت منك الحياة الكثير وغيرت ملامحك حتى لم استدل عليك ولولا الاسم الموجود في الأوراق لما راودني ولو شك بسيط انك فلانة .
طيب تعال نستذكر الايام علنا نتأكد كل من صحة كلام الآخر
. نعم لكن بعد أن اكمل ما يتعلق بي بخصوص معاملتك
. جاست كل ذكرياتها من أيام المدرسة حتى يوم رفضه أهلها فلم تجد في الحاضر أمامها من الماضي غير ثقته بنفسه ومع أنه لم يكمل النصف الأول من اربعينات عمره الا انه يبدو كم قفز فوق الستين لكنها اخيرا اقتنعت انه هو من رقص له قلبها يوم كان فتيا وربما تحتاج إلى جلسة طويلة معه .
. اكمل اوراقها في القسم الذي يعمل فيه واعادها لها وتمنى عليها ان تتفرغ يوما لانها الوحيدة التي يمكن أن لا تتنكر له وتشترك مع بذكريات جميلة .
. اكملت معاملتها واستلمت الراتب التقاعدي وشكرت له وقفته معها فابتسم وأخبرها انها لن تكون ماضي مهما طال العمر .
. التقيا أكثر من مرة في أماكن عامة وزارها في بيتها وزارته ولما وجد أن الوضع مناسب عرض عليها الزواج فوافقت مبدئيا لكنها طلبت منه مهلة لترتيب وضعها ودام التواصل بينهما حتى أخبرته باكتمال الأمور من أجل زواجهما وتم ذلك سريعا مشترطة ان لا يسجل الزواج رسميا في دوائر الحكومة لكي تحتفظ بالراتب التقاعدي وفي ليلة الزواج اخبرها وهو بفرح ظاهر انه اليوم أنهى غربته وعاد إلى وطنه .
راضي المترفي