18 ديسمبر، 2024 11:16 م

عودة الى النقد الادبي

عودة الى النقد الادبي

..(في الشعر السياسي الهادف)، من وحي الانتفاضة!
في خضم هذه الوثبة التي بدأت باحتجاجات واسقطت حكومة وستسقط الفساد والتبعية ،،لم نجد لأرواحنا العطشى الى الشعر وعذوبته والمثقلة بجفاف السياسة ومرارة الاحداث الدائرة ،، لم نجد لها منفذا للولوج ولو سرا الى هذا العالم البهيج (عالم الشعر) الذي لا اجد لنفسي متنفسا الا من خلاله ولا اراني اجد لها بدا منه ولست ارى نفسي ايجابية فيما اكتب الا حوله واليه ..
ولاننا لاقبل لنا بالتغاضي عن خطورة واهمية مايدور في ساحة السياسة والمجتمع للهروب الى الشعر فقد اصطدم بنا هو هذه المرة وجرنا جرا اليه ..فاصطادنا وقد اعتدنا ان نصطاده .
ابيات ثلاثة تامة القصد مكتملة المعنى تعوض عن قصيدة، وترقى لأن تكون متكاملة الاطراف بلاغة وجرسا
إلى الناطقين الرسميين…

اراك مشوشا تخفي وتعزو ….وقد صار الوضوح لديك لغزُ
ُ
تغرد مثل ناعقة بسرب ٍ…..وقولك مبهمٌ والفعل عجز ُ

فتصمتُ ثم يفضحك المحيّا….اتخدعنا و (تحت الابط عنزُ)

ولا ارى غضاضة في اختصار الشاعر للقصيدة بتلك الابيات المعبرة ،،فاطالة الشعر انما تكون لوصول المرمى وقد وصل الشاعر مرماه دون اطالة وهذا من طرف ، حَسنٌ في القصيد اذا كان موجها وذا هدف سام . وقد افلح الشاعر في هذا الشأن بل وأرخ لجزءوجانب من هذه المرحلة السياسية المحزنة والغريبة ..الابيات كما لايصعب على المتذوق المتتبع الفطن تتحدث عن الناطق الرسمي للحكومة ومن على شاكلة وظيفته ..هؤلاء الذين واجهوا موجة جماهيرية من الغضب والسخرية لما يصرحون به من تناقضات واوهام لايصلح ان تُصدَّق او تُعقل !
ولما نجدالشاعر يدخل غرضه مباشرة ودون مقدمات (وهذا مايناسب هذا النوع من الشعر) نفهم كيف استطاع ان يعالج الامر كله بابيات ثلاثة ، سيما وقد أحاط بكل الجوانب لما اراد حتى ان المتلقي لن ينكر عليه زيادة ولن يعتب عليه نقصان ،،
انظر نداء المخاطب :(اراك مشوشا تخفي وتعزو) فكل كلمة بمعنى مطلوب وفي محله تماما ..(اراك) رؤيا وملاحظة وتثبيت، (مشوشا) حائرا ومضطرب البال لما أمرت ان تقوله وانت ومن حاك معك القول الكذب تعلمون انه ليس الحق ولذا فانت مشوش ، (تخفي) مااضمرت واضمروا مخوليك بالحديث من سوء ومن وقائع خطرة وتظهرون غير الحق ،(وتعزو) وتعزون ذلك الى فاعل اخر هو الضحية نفسها.
(وقد صار الوضوح لديك لغز) جملة شعرية كاملة تعبر بوسيلة (التضاد) اللفظي بين الوضوح واللغز عن الحيرة والتشويش والاخفاء الذي سبق سرده .
والبيت الاول كله بما فيه من معاني وصور يتوقف فهم الاشارة القريبة فيه على البيت الثاني الذي نجح الشاعر في جرّك اليه لتكمل معه الاستكشاف والفهم فقال :(تغرد)وهذه الكلمة المططلح في الاعلام والتواصل اليوم دلتنا ومازلنا نتابع ..(مثل ناعقة بسرب) هجاء مقذع متأدب معبر مناسب للفظة (تغرد) التي ارادتها مصطلحات فن الاعلام للتصريح وارادها الشاعر للسخرية والتلميح ، فصار التناقض في عبارتي النعيق والتغريد من البديع واستخدام المحسنات اللفظية بشكل متقن ،و(سرب) الطيور ولاشك متمم ناجح جدا لما سبقه من لفظتي التغريد للبلابل والنعيق للغربان ..وقد اقحم صاحبنا المهجو نفسه تعسفا في ثوب التغريد فكشفه نعيقه .!
ثم (وقولك مبهم )مرة اخرى ،و صفة اخرى معاكسة لصفة الناطق الرسمي الذي وظيفته توضيح القول وتفصيله وليس الابهام والاخفاء..(والفعل عجز)واضح المعنى هنا والكلمتين ببيت .
ثم خلاصة البيتين القصيرين المليئين بالمعاني بيتا ثالثا خاتما بأحسن مايكون الختام والإفهام ..(فتصمت ثم يفضحك المحيا) فحتى في الصمت لم يُعتق هذا “المتحدث” ! من شاعرنا البارع القاسي فقد اجهز على صمته كما أغار على نطقه،،! فلمّا لاذ المتحدث بالصمت لينجو ، ذهب الشاعر الحانق الحاذق الى وجهه ومحياه اللذين فضحا كذبه الصامت هذه المرة وهو يخفي بطش حكومته بالمحتجين على فسادها وتبعيتها كما اراد الشاعر ان يقول مضمنا بيته بمثل عربي عراقي يقول:”الذي تحت ابطه عنز ،تثغي” كناية عن محاولة من يخفي شيئا مسروقا او معيبا فيفضحه صوت او اشارة من محياه، وهذا من جيد استخدام الامثال السائرة فاجاد وقال : اتخدعنا(وتحت الابط عنزُ) ؟!
وبعد فان ابيات البحر المتعدد الاغراض والمؤتلف جعلها شاعرنا (عماد اليونس) لشعر الهجاء السياسي الساخر واختار الشاعر قافية صعبة لايمكن الثبات عليها ولكنه استعان بالروي المتميز (حرف الزاي المرفوع ) واحيانا تطول الحركة لتصبح حرفا يساعد على اتمام وزن البحر العروضي الجميل. واظن ان الابيات تجمع وتعبر عن كل مايدور في اذهان منتقدي هذه الظاهرة الشاذة ، ظاهرة الكذب والتزييف للناطقين الرسميين في زمن السياسة القذرة هذا، وسيحفظها المثقفون من الجماهير ويلقونها بوجوههم وتغني المحتجين عن قول آخر .