لا يمكن تناول الرواية العراقية بالبحث والدراسة دون تناول أعمال “غائب طعمة فرمان” الروائية لأهميتها ومكانتها الريادية في الأدب العراقي. لعبت نتاجات “غائب طعمة فرمان” الثقافية والأدبية والفكرية دوراً مهماً في تعميق وبلورة الوعي الاجتماعي- الإنساني في الصراع ضد أشكال القهر والقسوة والتردي والتخلف ، وحفّزت الكثيرين على دراستها واستكشاف عوالمها الفنية. اهتم اغلب الدارسين والنقاد العرب والعراقيين بعطاءات غائب الروائية وكتب عنها وعنه في اللغة العربية والإنجليزية والروسية والألمانية ولغات أخرى، وفي المقدمة منها روايته “النخلة والجيران” و كثرة هذه الدراسات والبحوث وتنوع واختلاف مناهجها ورؤاها عائد بالأساس إلى غنى وطراوة وثراء وتنوع هذه العوالم الروائية . بدأ غائب شاعراً ثم قاصاً وامتهن الصحافة ، وعاش في مصر وسوريا ثم استقر في موسكو مترجماً ليغني المكتبة العربية بترجمته أكثر من ثمانين كتاباً عن الإنجليزية والروسية حتى وفاته في موسكو في السابع عشر من آب عام 1990 . ذكر د. ضياء نافع، في مقال له حديثاً،في صحيفة( كتابات الالكترونية اليومية):” أن وزارة الثقافة أطلقت اسمه على إحدى قاعاتها,زمن الوزير الأستاذ مفيد الجزائري. وان ثلاثة من طلابه كتبوا أطروحات عن ترجماته للأدب الروسي , الأول خلف الموسوي والثاني جاسم الدليمي ،و الثالث كامل العزاوي”. وأضاف د. نافع:” إن (غائب طعمة فرمان) قد حل مسألة (الطائفية) في العراق موحداً الموسوي والدليمي والعزاوي في دراستهم لإبداعه” . عانى ” غائب طعمه فرمان” من الغربة بأبعادها المكانية والزمانية والنفسية ، متجاوزا ذلك في رواياته عبر ذاكرة خصبة ثرية استوعبت رغم السنوات والمسافات أدق الخصائص والملامح الزمكانية للعراق . وبقيت الروح والهواجس والتطلعات المحلية – الشعبية بكل مذاقاتها ومهيمناتها الاجتماعية تؤثر في كتاباته القصصية والروائية بما كان من أساليب التعاطف مع والدفاع عن الإنسان العراقي ، فقد دافع عن أشخاص يعرفهم اجتماعياً ويتبنى قضاياهم ويتعاطف معهم إنسانياً ، مؤكداً في هذا كله أن قضيته كاتباً وقاصاً وروائياً لا تخرج عن هذا الإطار، وبقيت شخصياته الروائية في حركتها وتحولاتها وطموحاتها وخيباتها وأحلامها وفراداتها تتجول داخل بغداد- الأربعينيات وما بعدها- بأزقتها الضيقة التي أندرس بعضها ، وأعاد غائب خلقها روائياً ، حية دافقة بالروح والغنى والثراء والبؤس والقهر والألم البغدادي- العراقي.
*النخلة والجيران
وجّه” غائب” اهتمامه إلى كشف (قاع) المجتمع العراقي في ظروف الحرب العالمية الثانية وقدم بانوراما أدبية- فكرية فنية غنية للواقع العراقي والشعبي بالذات ، في زمن الاحتلال البريطاني الأول للعراق وما افرزه من تحولات ومظاهر اقتصادية- اجتماعية مثل السوق السوداء ، الجرائم ،البغاء ، الفقر ، الجوع ، المرض ، الأمية وأنواع الانتهاكات الأخرى . يتفق اغلب الدارسين في حقول الأدب العراقي على أن البداية الفنية الحديثة للرواية العراقية ، كانت بصدور “النخلة والجيران” والتي أثارت اهتماماً واسعاً لدى النقاد العرب والعراقيين وكذلك الدارسين الأجانب ، فلقد عّده جبرا إبراهيم جبرا “الكاتب العراقي الوحيد الذي يركِّب أشخاصه وأحداثه في رواياته تركيبا حقيقيا ” . وذكر عبد الرحمن منيف مَنْ يريد التعرف على أواخر الأربعينيات والخمسينيات العراقية”لا بد أن يعود إلى ما كتبه غائب” أما سعد الله ونّوس فقد شخّص إن “في رواية (المركب) زفيرا صوّر فيه بغداد التي تحتشد فيها الشجون والآلام والخيبات المحاصرة بالتضادات بين شفافية مخزونة وعالم فظ ، تلك الشفافية المطوقة بالمراودات الفجة”. وتذهب د. يمنى العيد في تحليلها لرواية “المركب” إلى أن “غائب” قد جسد زمن الخيبة والعجز والمركب لا “تحكي عن الماضي بل الحاضر المكتظ بالمعاناة التي تدفع راكبيه إلى الالتفات لماضيهم بحسرة” وأكد الناقد خيري الذهبي بأن “تقنية الكتابة لدى غائب تستطيع إخراج (الأنا) إلى الـ (هو) دون افتعال”،بينما تلمس محمد جمال باروت عراقية غائب في رواياته والتي تحولت إلى “برلمان” الحياة العراقية الحقيقي . وكذلك كتب عن رواياته كثير من النقاد والباحثين العراقيين والعرب والأجانب.
* السرد وأبنيته
السرد من السمات الرئيسة للفن الروائي ولكنه ليس الوحيدة لها، وبتطور السرد وطرائقه فانه لم يعد يعنى فقط بالتسلسل الزمني والتاريخي كما انه لم يعد يقتصر على التصوير الخارجي للحياة الاجتماعية الداخلية للإنسان، وبذلك تطور السرد إلى تصوير ضمائر و وجهات نظر متعددة ومتجاورة ومتعاقبة ، لذلك فأن أنواع السرد لا حصر لها حسب “رولان بارت” الذي عد ذلك تنوعاً كبيراً في الأجناس والتي تتوزع إلى مواد متباينة.و السرد عرض لحدث أو لمجموعة من الوقائع الحقيقية أو المتخيلة بواسطة اللغة المكتوبة ضمن تسلسل زمني . فالسرد في هذا هو عملية يقوم بها السارد أو الحاكي وينتج عنها الفن القصصي المشتمل على اللفظة (الخطاب) القصصي والحكاية (الملفوظ الوصفي) ولذا فان السرد ، مرسل ومستقبل ووسيط هو الراوي والذي يكون عن طريق السرد وبواسطته” حامل المعرفة” من خلال الإبلاغ عن طريق تقديم الأحداث والشخصيات والزمان والمكان معتمداً في ذلك رؤيته للعالم.
*السرد الموضوعي
يتعدد الساردين بسبب من أن السرد متعدد الأنواع والطرائق. ومن خلال دراسة الباحثة لروايات غائب فإنها تحدد نمطين رئيسيين لدراسة السرد لديه هما “السرد الموضوعي” و “السرد الذاتي” . ويحدد ” توما تشفسكي” السرد الموضوعي” بأنه “الذي يكون الكاتب فيه مطلعاً على كل شيء حتى الأفكار السرية للأبطال” وتلاحظ الدكتورة فاطمة عيسى جاسم في دراستها لروايات” غائب طعمة فرمان”- وزارة الثقافة العراقية- دار الشؤون الثقافية العامة- بغداد- غلبة السرد الموضوعي على رواياته. وفي دراستها لرواية “المرتجى والمؤجل” تلاحظ استطراد الراوي بسرد تفاصيل الحياة اليومية للمغتربين باستخدام ضمير الغائب في السرد التفصيلي لجزيئات الحياة اليومية ، والذي كما تقول-: ليس له ما يبرره بل بالعكس يحدث مللاً ويسبب ورماً فنياً للرواية – ص 27 -. بينما تؤكد-: في – ص47 – عن الرواية ذاتها بان غائب؛ باستعانته بوسائل متنوعة متعددة في السرد الموضوعي؛أضفى على الرواية حيوية وحركة وقوة تأثير وانه ختم الرواية بنهاية مفتوحة وهذه إحدى السمات الفنية لديه .
*السرد الذاتي
ترى الباحثة د.فاطمة: أن” غائب طعمه فرمان” قد استخدم السرد الذاتي في رواياته “خمسة أصوات” و”المخاض” و”ظلال تحت النافذة” وكذلك في روايات أخرى “مبثوثاً بشكل متوازن مع أشكال السرد الأخرى” . كما اعتمد “غائب” في بناء الحدث على اللقطات السريعة الموحية في اغلب رواياته ؛ فهو يعتمد القطع مرة ويركِّز حول شخصيته ويوصلها إلى حدث معين ثم يقوم بالقطع ثم استئناف سيرها باعتماد اللوحات واللقطات الدرامية مع اعتماد مشاهد الوصف المكاني واللغة التي تتناسب مع كل موقف . لقد ارتبطت الرواية في مجمل تطورها بالقدرة على خلق الشخصيات الروائية ولذلك فإن الباحثة تدرس الأنماط الشخصية في روايات غائب . ولاحظت تنوع وتباين أدوارها وأهميتها ويؤثر تفاعلها في تطوير الأحداث وتدرس الشخصيات التي تقوم بدور رئيس في قوة الأحداث وحركة الصراع مركزة عليها باعتبارها نقطة ارتكاز البنية الروائية ، ومن أهم هذه الشخصيات سليمة الخبازة في النخلة والجيران وسعيد وعبد الخالق وحميد وإبراهيم في خمسة أصوات وكريم في المخاض والأب في ظلال على النافذة ويحيى وسليم في المرتجى والمؤجل وعصام في المركب. أما الشخصيات الثانوية فان “غائب” يقدمها بتفاصيل اقل مع إنها قد تكون محل عنايته واهتمامه مثل دبش في القربان وماجد في ظلال على النافذة وشهاب في المركب وهذه الشخصيات الثانوية قد تحمل بعضاً من آراء الكاتب ونظرته إلى الحياة والأحداث ولذلك فان روايات غائب ثرية بشخوصها الثانوية، فهي عديدة ومختلفة المستويات وثمة الشخصيات النامية المتطورة والتي تتطور وتنمو عبر الرواية نفسها وتأخذ ملامحها النهائية بالتطور والنمو داخل الرواية , أما الشخصيات الايجابية فإنها تعيش الواقع بتأثير وتفاعل وتنتقل من السكون والحذر إلى الفعل والحركة بإدراكها لواقعها وظروفها ، والشخصيات الايجابية في روايات غائب كثيرة وغنية ومتنوعة ودرجة إيجابيتها تتفاوت بحسب تفاعلها وتأثرها بالواقع وتأثيره عليها ، أما الشخصيات السلبية والتي تبرز من خلال أفعالها وسلوكها فلا يهتم غائب بتطورها بل يسعى ويهتم فقط بكشفها . أما الشخصيات المغتربة في رواياته فإنها تتمتع بقدر من الوعي وخاصة المثقفين . ويعود الاغتراب إلى عدم تطابق الواقع والمثال وذلك يؤدي إلى الشعور بالانفصال إزاء المجتمع فشخصية كريم في المخاض تتميز بالإخفاق والعزلة والقلق . وقد رسم غائب رواياته على وفق طريقتين “الوصفية” و”التحليلية ” . وبعد دراستها للزمان والمكان في روايات غائب، تقديم خلاصة بحثها والذي رأت فيه -: أن غائباً لم يهتم بالحكاية التقليدية وانه اعتمد على تيار الوعي والتداعي وانه فضل عدم التعامل مع السرد بشكله التقليدي . وقد تميز السرد لديه بشكل صور غنية موحية حدّت من هيمنة الراوي المطلقة بسبب الانتقال من “هيمنة الراوي المهيمن” إلى “الراوي الممثل” ثم “تعدد الرواة” الذي دفع إلى تعدد خطابات السرد والذي لوّن الصيغ السردية .
*الملامح الشعبية
تذهب د. فاطمة جاسم عيسى إلى أن غائب في أعماله قام بإبراز الشخصيات الروائية ذات الملامح الشعبية البسيطة التي تعيش هموماً مشتركة بسبب التزاماته الفكرية – الاجتماعية وانحيازه للفقراء والمهمّشين اجتماعياً ، وكذلك قدراته في استبطان تلك الشخصيات نفسياً والتي تشكل وحدة اجتماعية تتأثر وتؤثر بالمحيط الخارجي والعالم الذي وجدت فيه ، ولذلك فانه “أقصى نظام التركيز” بالشخصية المحورية ، مستبدلا به “المنظور متعدد الجوانب” من خلال وجهات النظر المتعددة. وغائب على رغم واقعيته “مارس الانتقاء والحذف والربط والتحريك حتى جعل الرواية عالماً حياً إنسانياً” وانه “أثرى لغته الأم ولم يفرط بها ” مع أن أسلوبه يتداخل به العامي والمأثور اليومي. ووضح في رواياته التلازم والتفاعل بين الطبيعة الخارجية والأجواء النفسية، و تألق في إرساء أسس الرواية متعددة الأصوات بشكلها الفني من خلال “تعدد الأصوات والتوازي والتناقض ” وان للفن السينمائي والمسرحي والأساطير والموروثات الشعبية أثارها في رواياته ؛واتصف المكان لديه بالمحلية وله قيمتان ،واحدة”محبطة” وتتجسد في الأماكن الجديدة ، وأخرى “ثرية معطاء” تتجسد في الأماكن القديمة البغدادية ، والتي تشكل الصوت القوي- المهيمن في اغلب رواياته .