استطاع الفنان الكبير عادل امام في مسلسله الرمضاني ” عوالم خفية ” ان ينتصر لقيمة الصحفي وقلمه الحر . ومسلسله الجديد الذي تدور أحداثه حول صحفي وروائي كبير يحاول الكشف عن مستندات قضايا كبيرة شغلت الرأي العام في السنوات الماضية ، ليعكس بذلك نموذج الصحفى الجرىء المستقل الذى يمتلك مستندات تدين كبار رجال الدولة وينشرها متحديا نفوذهم . وعلى الرغم ان المسلسل اعتمد على قصة خيالية الا ان الامر يكشف عن دور الصحافة الاستقصائية في كشف ملفات الفساد والجرائم . حيث اعتادت الصحافة المصرية على ارض الواقع ان تقدم امثلة كبيرة وحية في هذا النوع من الصحافة عبر تاريخها الطويل .
لقد عرفت الصحافة الاستقصائية أو صحافة التقصي على أنها مصطلح يعني تتبع الأثر، فالاهتمام الرئيسي لهذا النوع من الصحافة هو البحث والتنقيب حول قضية أو موضوع ما، والغوص في أعماقه لمعرفة ما وراء المعلومة وأسبابها وملابسات حدوثها.
تقول الباحثة الاعلامية ” نهلة محمد أحمد ” ” ان الصحافة الاستقصائية تمثل أعلى مراتب المهنية الإعلامية وأصعبها، فهي التي تحدد قوة ومكانة الإعلام في أي مجتمع، وهي تجسيد لدور السلطة الرابعة في المجتمع. وهي النوع الوحيد القادر على تقديم رؤية صحافية بحثية مختلفة، ولا تستطيع وسائل الإعلام الأخرى أن تقدمها، حيث إنها جزء من العمل الرقابي التخصصي الذي يمكن أن يصنع رأيا عاما بين الجمهور” . وتنبع أهمية الصحافة الاستقصائية من أنها تكشف الفساد وتواجه الممارسات غير القانونية، في محاولة لدرء الأخطار، وأداة للوصول إلى الحقيقة والوصول بنا إلى فهم عمق الحدث. وتشير نهلة ” إن الصحافة الاستقصائية تعتبر أيضا بوابة مهمة لفتح التحقيقات في جرائم الفساد عموما، والفساد المالي بشكل خاص، وكذلك الاستغلال الإداري لمواقع مهمة في الدولة لمصالح شخصية أو لمصلحة جهات خارجية. وبالتالي تعتبر الصحافة الاستقصائية مصدرا توثيقيا جيدا للمعلومات وقاعدة بيانات هامة. فهي بكل تأكيد نموذج ناجح لصحافة العمق، التي يمكن أن تصنع مستقبلا مختلفا، وتؤثر في النهايات والنتائج، وأن تكون أداة لتحسين الأداء الحكومي على مستوى العالم .”
أن أهم أدوار الصحافة الاستقصائية هو دورها الرقابي على الأداء الحكومي وعلى المجتمع، حيث إن هذا الدور يبعث على التغيير، وتحسين الأوضاع الحياتية إلى الأفضل .
ولكن نتساءل هل الوضع القائم حاليا في العراق يصلح لهذا النوع من الصحافة، رغم حاجتنا الماسة إليه، كوسيلة نستطيع من خلالها إرساء قواعد مناخ ديمقراطي هام في مجتمعنا، وننهي ظاهرة الفساد التي استشرت وبشدة ؟ .
والجواب : ان الصحافة الاستقصائية في العراق تواجه الكثير من التحديات والمعوقات، من أبرزها بكل تأكيد افتقادها للحماية الأمنية في كل خطوة. إن أبسط ما يمكن أن يتعرض له الصحفي في هذا المجال هو التهديد المباشر أو غير المباشر ووصل الامر الى الاغتيالات والنيل من حياة كل صحفي جريء . وكم من صحفي عراقي اغتيل على يد جماعات مجهولة بسبب مقال او خبر او تحقيق صحفي ؟ تؤكد الاحصائيات ان (277) صحفياً و مساعداً اعلامياً منهم (22) صحفياً اجنبياً استشهدوا منهم 199 صحفياً قتلوا على أيدي مسلحين مجهولين او مليشيات. 56 اخرين لقوا حتفهم اثناء تواجدهم في اماكن حدثت فيها انفجارات نفذها مجهولون.22 صحفيا قتلوا بنيران القوات الأمريكية. صحفيان قتلا بنيران القوات العراقية.
والتحدي الآخر ان معظم الصحف ووسائل الاعلام الاخرى اما تابعة للحكومة او لاحزاب كبيرة متنفذة تعيق عمل هذا النوع من الصحافة ولايحق العمل به الا في حالة تطابقه ومصلحة الحزب او الحكومة . لكن الصحافة الاستقصائية في بلدنا مازالت طفلا يحبو وينشد حيزا أكبر في الوجود والتأثير . ورغم ذلك ان هذا النوع وجد مكانته رغم صغر المساحة في صحفنا ووسائل اعلامنا . يقول الصحفي المخضرم ملاذ الامين تعقيبا على كلامي ” لم تمارس الصحافة الاستقصائية دورها الحقيقي في العراق وكما هو جاري في الدول المتقدمة ديمقراطيا. لكن توجد صحافة استقصائية الان بشكل خجول تخشى سطوة الأحزاب والسياسيين والأعراف الاجتماعية والدينية. وفي العراق كانت هناك صحافة استقصائية في سبعينيات القرن الماضي “. يؤكد امين بذلك ” انه كتب مواضيع مهمة في مجلة الف باء وجريدة الجمهورية وحتى جريدة الثورة وساهم في كشف جرائم وفساد بعض الدوائر والمسؤولين “. ويشير امين ” ان من كتاب الصحافة الاستقصائية العراقية آنذك المرحوم الصحفي على حيدر والصحفي علاء جاسم “. ويذكر امين ” انه تأثر بهؤلاء وكتب تحقيقا استقصائيا عن المتسولين نشر في مجلة المرأة اضطر الى تقمص دور متسول في منطقة الميدان وباب المعظم “. وكشف حينها ” مقدار ما يجنيه المتسول أو المتسولة يوميا ونقل حياتهم وتجمعاتهم وحركاتهم ومن يقف معهم. نشرالتحقيق عام 1979 . وعلى اثره نفذت وزارة الداخلية حملة كبيرة لادخال هؤلاء المتسولين دور العجزة ومنهم دور الأيتام وبعضهم دخل السجن. وجراء ذلك قامت مجموعة من المتسولين بتظاهرة أمام باب المجلة وقاموا برشق زجاج النوافذ بالحجارة “.
بعد 2003 نشطت الصحافة الاستقصائية بالاستفادة من فضاء الحرية فكتبت عشرات التحقيقات في الصحف وتم اعتمادها. مثل ما نشرته صحيفة ” المدى ” بشأن مفردات البطاقة التموينية والشاي الفاسد والرز التآلف خلال 2005 وتم إحالة عدد من الموظفين للقضاء. وفي عام 2004 كتب الصحفي ملاذ الامين مادة صحفي عن تهريب سبائك النحاس عبر طريبيل إلى الأردن. أقيل على إثرها مدير المنافذ الحدودية .
ومع تطور وسائل الاتصال والتكنولوجيا تطورت وسائل الصحافة الاستقصائية”. ونتذكر ان احد المراسلين في الفضائية العراقية وهو” فلاح هادي” مهتم بالصحافة الاستقصائية نفذ عملا للعراقية عن ” التاتو وتأثيره في انتشار الإيدز ” وكان العمل جريئا. حيث اخترق مواقع التاتو والخمارات ومواقع الرذيلة وبيع النساء. الا ان هذا الزميل هدد من قبل ميليشيات التي تدير وتحمي الخمارات ودور البغاء وصالونات التاتو مقابل أجور شهرية. لكنه استطاع عبر تحقيقه من قيام الجهات المختصة من إغلاق محال التاتو وغلق عدد من دور البغاء والكافيهات لمدة شهر أو شهرين .
لذا نحن أمام رغبة شديدة في تغيير شامل في الإعلام العراقي نحاول من خلاله رسم مستقبل زاهر للبلد انطلاقا من إعلام قوي ومؤثر وحاسم في القضايا الخلافية على الساحة، ونحاول من خلاله كذلك إنهاء الانقسام المجتمعي ولم الشمل العراقي. فالهدف الأسمى يجب أن يكون واحدا هو النهوض بالمجتمع والحفاظ على ثقافتنا وتراثنا والنهوض به نحو آفاق جديدة مستقبلية تحمل بين طياتها الشفافية والمصداقية، بل إن الإعلام العراقي يجب أن يكون حجرالأساس في علاقة قوية متكاملة بين مكونات الشعب.