مفهوم المجتمع المدني لا يرتكز على خلفية فلسفية تؤسس نظريًا، ولم يكن متداولًا في الخطاب النظري السياسي أو الخطاب الأيديولوجي العربي، سواءً في الخطاب القومي أو أي خطاب فكري آخر.
ويعود ظهور مفهوم المجتمع المدني لأسباب سياسية واجتماعية اكثر من أسباب فكرية. وإذا كان المجتمع المدني هو ذلك الحيز المستقل نسبيًا عن السلطة/ الدولة، والذي يسمح للأفراد ممارسة نشاطهم، فإن القوانين والدساتير هي التي تضمن هذه الاستقلالية النسبية، وتنظيم العلاقة بين المجتمع المدني والدولة، ومن جهة أخرى هي التي تعمق وجود هذا الحيز وتوسيعه أو تضييقه، بشكل أكثر دقة.
والمجتمع المدني لا يقتصر على المنظمات والمؤسسات الأهلية الساعية لخلق مجال عام يملا الفراغ بين الفرد والدولة، بل على مجتمع كامل يتشارك افراده اهتمامات مشتركة، ويجري العمل فيه لتطوير ثقافي ووعي مشترك، والسعي والتوجه نحو بناء المجتمع المدني بوصفه الحيز المستقل نسبيًا عن الدولة.
المجتمع المدني المطلوب في الأقطار العربية لا يستهدف شطب الدولة فحسب، وإنما الفصل بين السلطة من جهة، وبين المجتمع من جهة ثانية، وإعادة تجديد بنية السلطة ودورها وموقعها في المجتمع.
لا ريب أن المجتمع المدني هو المخرج لفشل الحكومات والأنظمة العربية في سياساتها الداخلية والخارجية السائدة والمتبعة، وذلك بالتوجه نحو صوغ عقد اجتماعي يضمن حقوق المواطن/ الفرد، ويساهم في التغيير المجتمعي وتحقيق الأهداف والمشاريع التنموية الحضارية التي يصبو لها الإنسان العربي.
ولعل أهم العوائق أمام تطور ونمو المجتمع المدني في الوطن العربي هو سيادة الأنظمة الديكتاتورية وواقع التخلف وارهاب قوى التكفير السلفية، وتماهي الكثير من المثقفين مع الخطاب السلطوي السائد ورسالة الدولة واستشراء ثقافة الهيمنة والاستفراد للأنظمة الديكتاتورية، وما رافق ذلك من أزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية. ونظرة على الواقع العربية كافية أن تبين أن المجتمعات المدنية العربية لم يتحسن حالها في اعقاب ما سمي بثورات الربيع العربي، التي لم تحقق أهدافها في التغيير الجذري المنشود.
لقد وقفت غالبية الأنظمة العربية بكل أشكالها السياسية حجر عثرة في طريق تأسيس ونشوء وتطور مجتمعات مدنية عصرية وحضارية حداثية. فقد لجات إلى احتكار أوجه حياة المواطنين من خلال المقايضات بتوفير الاحتياجات اليومية المعيشية، مقابل الإذعان والخضوع من جانبهم لمشروعها السياسي والاقتصادي.
وبقدر ما تمثل الانظمة العربية من حجر عثرة في وجه تأسيس المجتمع المدني، فإن طبيعة المجتمعات العربية الإسلامية لديها معوقات وشروط في سبيل تكوين مجتمعات مدنية ترتبط مع الدولة على أساس عقد اجتماعي يجري تطبيقه على الجميع، ومؤسسات فاعلة وناشطة تبنى على فكرة العمل التطوعي الأهلي على صعيد المجتمع ككل.
وفي حقيقة الأمر أن مشكلات كثيرة ومتعددة رافقت ظهور المؤسسات المدنية بفعل تسلط الحكومات على هياكل المجتمع الذي تغيب عنه الحرية وحقوق المواطنة وسيادة القانون وخضوع مؤسساته الموجودة لرقابة حكومية صارمة. ومن هذه المشاكل والمعضلات انعدام مشروع محدد الأهداف لعمل هذه المؤسسات المدنية والمنظمات الأهلية، والحالة النخبوية التي تمتع بها قادة هذه المؤسسات، عدا عن الانقسامات بين قوى المجتمع المدني وغياب الفعل في سبيل بلورة مجتمع مدني قادر على المساهمة بكفاءة وفاعلية لتحقيق الغايات والاهداف بترسيخ ثقافة الحرية والديمقراطية والتعددية، وكذلك تباين مؤسسات المجتمع المدني وتنوع توجهاتها واختلاف رؤاها، وانعدام التنسيق والعمل المشترك بينها، إضافة إلى مشاكل التمويل المالية والموارد الاقتصادية.
وعلى ضوء ذلك هنالك حاجة وضرورة ماسة إلى اعادة بناء قوى المجتمع المدني ومؤسساته بناءً تنظيميًا متماسكًا على أسس جديدة، تساهم في انفتاحها على المجتمع وتؤمن به، والتوجه نحو لحمة المؤسسات الأهلية المختلفة حول أهداف مستقبلية واضحة ومحددة.
ويبقى القول في النهاية أن المجتمعات العربية ما زالت محكومة ببنية مجتمع محافظ تابع ومقيد بأنماط سلوكية قديمة عفا عليها الزمن، وبأنظمة عربية تحجب الضوء وامكانيات التقدم والنهضة، ونحو التأسيس السليم لمجتمع مدني حداثي متطور، وعلى المنظمات والمؤسسات المدنية تعزيز دورها المنوط بها، بتكريس مفهومات المدنية العصرية، وبناء الدولة المدنية الحديثة.