21 ديسمبر، 2024 5:48 م

عن :.. كاظم الأحمدي

عن :.. كاظم الأحمدي

متى عرفت “كاظم الأحمدي”!؟. راودني هذا السؤال مباشرةً، بعد أن هاتفني أخي الناقد الأستاذ “رياض عبد الواحد” مبكراً و ناقلاً ليَّ ، بأسفٍ شديد، وفاته ليل الثلاثين من حزيران عام 2008. تيقنت في تلك اللحظة المريرة ، أنني عرفته خلال التردد الدائم على “المكتبة الأهلية” في منطقة البصرة القديمة ،أواخر ستينات القرن الفائت، وتوطدت العلاقة بينه وبين الراحل الشاعر مصطفى عبد الله وبيني عند جلوسنا شبه اليومي في مقهى ((أبو مضر)) أو ((الدكة)) مع مجموعة من أدباء ومثقفي المدينة، والحديث عن الهموم الثقافية ،وآخر القراءات،والتطرق إلى الوضع العام وشجونه،وكان لكل منا تقديراته وأحكامه. ثم التوجه، نحو الكورنيش عصراً ومواصلة الأحاديث دون ملل، والانسلال ، مساءً، إلى “نادي الفنون” وأماكن بهيجة أخرى، لا أثر لها بعد 9 نيسان 2003 ، وتحكم العقول المنغلقة وتوجهاتها الخرفة وديناصورات الماضي ومأساويته في مدينة الخضرة والفكر ومدارسه المتعددة، والبحر والانفتاح على التاريخ والعالم كله. “كاظم” كان لا يحبذ ذلك، بسبب أسرته الصغيرة التي كانت تعاني مشقات وقحطاً بداية عقد السبعينيات.مصطفى وأنا كنا نَطّلع أولاً بأول على ما يكتب من قصص. مرة أطلَعنا، على قصة قصيرة له حملت عنوان(الإجازة) وبعد قراءتها ، بتمعن ودقة. قلت له نصاً:” لن تنشر هذه القصة في العراق نهائياً يا كاظم”!. فحاول نشرها في مجلات(الأقلام) و(ألف باء) و(آفاق عربية) و(مجلة خاصة) ولم يحصل ذلك. ثم قرر أن يشترك بها في مسابقة مجلة(الثقافة العربية) الليبية، الخاصة بالقصة القصيرة، ففازت(الإجازة) بإحدى الجوائز الثلاث، من بين أكثر من385 مشاركاً من كل البلدان العربية، لكن العدد لم يدخل العراق، وحصلنا منه على أعداد قليلة مهربة. في مكابدات النشر كان كاظم مأزوماً، إذ لم تكن في ذلك الوقت الاشتراطات الأساسية للجودة الفنية، وثمة مسوغات أخر للنشر في الصحف والمجلات الحكومية، وغير الحكومية على قلتها. مسوغات واشتراطات كم تبدو تافهة وضيقة الأفق الآن،وأضاعت فرصاً مخلصة وجادة لتغيير نوع وشكل الخارطة القصصية والثقافية في العراق، مسوغات يقف في مقدمتها التخندق والاصطفاف والـ”عراك” الحزبي الشديد ،الفائض عن الحد الإنساني المعقول،وكان ذلك يسم حياتنا ،أو في الأدق يسممها.كم تبدو تلك الأيام عصية على النسيان..مع إن ما نتج من رحمها كان أكثر مرارة واشد قسوة وغلظة وفجيعة. ولد كاظم الأحمدي في البصرة عام 1940وأكمل دراسته في إعدادية المعقل، وكان أستاذنا محمود عبد الوهاب مدرساً فيها، وتتلمذ كاظم على يديه الكريمتين ، وكان عضواً في اتحاد الطلبة العام في إعدادية المعقل، وله علاقة متميزة ونشاط ما مع رئيس الإتحاد، حينها، الراحل عبد النبي كريم، ولمح لي كاظم انه قد اعتقل أيام في مقر الحرس القومي في المعقل بعد عاصفة 8 شباط الدموية 1963. عاد كاظم إلى الإعدادية التي تخرج منها ، مدرساً للغة العربية فيها،بعد تخرجه في كلية الآداب بجامعة بغداد و للأمانة فأن (كاظم) لم يمارس أي نشاط سياسي مهما كان خلال دراسته الجامعة أو الوظيفية.عام 1973 فاز بمسابقة القصة القصيرة لإذاعة(صوت الجماهير)، ثم بدأ يستعد لنشر مجموعته القصصية الأولى،”هموم شجرة البمبر” التي صمم غلافها الفنان شاكر حمد. قدم المخطوطة أولاً لدائرة الرقابة، فقبعت هناك لفترة، ثم أُخبر بأن عليه أن يحذف منها بعض القصص، فاستجاب لذلك، وعند تقديمها إلى وزارة الإعلام، إذ لم تكن ثمة وزارة للثقافة حينها، فتم تعضيدها بمبلغ(75) ديناراً فقط ، لكن بعد أن اشترط عليه حذف بعض قصص القسم الثاني منها، ففعل ذلك. وصدرت عام 1975، عن مطبعة الغري في النجف. ثم صدر له بعدها مجموعاته القصصية: طائر الخليج وغناء الفواخت، وشواهد الأزمنة ، وتراص الأنا، عن دار الشؤون الثقافية-بغداد. مع اشتداد التسلط مورست ضغوطات شتى على الجميع،وكاظم الأحمدي منهم، ضغوطات تتعلق بالموقف والوظيفة والنشر وحتى الحياة؟. بعد إعدام (2) من أشقائه بحجة الانتماء لحركة إسلامية- سياسية معارضة ، نقل من عمله في التدريس، وطال هذا الأمر كذلك السيدة زوجته التي كانت مديرة إعدادية الأصمعي للبنات!.هل كان كاظم الأحمدي يشكل خطراً على النظام، لمواجهته تلك المواجهة الشرسة، وممارسة تلك الضغوط  الشديدة عليه !؟. أم إنها عقلية السلطة القامعة، التي ترى في كل من ينفرد عنها ولا ينسجم مع توجهاتها، عدواً لها، أو غنيمة يجب استباحتها ، دون ترك الإنسان والكاتب والمثقف والفنان يتمتع باختياراته السلمية الحرة الوطنية المستقلة !؟. أنى لسلطة غاشمة أن تقنع بتلك القيم؟. وأنى للمتحكمين بمفاصلها تلك التوجهات؟. وهل من الضروري أن يتحمل الإنسان تلك الضغوط المتواصلة بشدة، في حياة تُعاش مرة واحدة؟. وهل قدره أن يظل بين المطرقة والسندان متوتراً مشدود الأعصاب، مأزوماً، وخائفاً عما سيؤول إليه مصيره ذات لحظة !؟.قدم كاظم الأحمدي في رباعيته الروائية: “أمس كان غدا”، “نجيمات الظهيرة”،”تجاه القلب”، وروايته المخطوطة “قصر الازلزماني”، التي أطلعني عليها، سجلاً سردياً للتاريخ العراقي وتحولاته العاصفة منذ ما قبل 14 تموز 1958 بقليل، حتى تموز 1968. دأب كاظم على إهدائي جميع ما اصدر، بحكم العلاقة الخاصة جداً بينه وبيني، وكانت كلمات الإهداء، رسائل ملغزة، لها علاقة بالزمن والوضع العام، معتمداً على قراءتي الخاصة وتأويلي للإهداء. مجموعة ما كتب لي ضمن ما كتب “..فأنت تعلم عني ، ما لم يعلمه غيرك”، كان ذلك بتاريخ 1 / 1 /1977 ، وفي أخرى كتب في نهاية الإهداء”..في زمان نحتاج فيه للذكرى لكي نكون أحياء” والتاريخ كان 22 /5 /1996 ، وفي “نجيمات الظهيرة” كتب بتاريخ 21 /6 /2001 “..هذه (النجيمات) التي خبرناها معاً في زمن ما، لعلها ترضيك، وما يرضيك يرضيني..”. والآن يا أخي كاظم كم تبدو تلك الـ “نجيمات ” بسيطة، مع شدتها وغلظتها، أمام الذي حصل بعدها؟. خلال سنوات لوعة الحصار أحيل كاظم على التقاعد فاضطر لبيع قسم من مكتبته، ثم افترش بسطة له في سوق البصرة القديمة لبيع الساعات اليدوية المستعملة. في اربعينيته التي أقامها اتحاد أدباء وكتاب البصرة، وأدَرتها، وساهم فيها عدد من الأدباء والشعراء، تحدث عنه في البداية أستاذنا محمود عبد الوهاب قائلاً:” أتساءل الآن بعد رحيل صديقنا الروائي كاظم الأحمدي: هل كتب الأحمدي سيرته الذاتية؟ هل كان يعتزم نشرها كما فعل عند نشر رواياته؟. أو أنه لم يكتب سيرته كما يفعل معظمنا؟. السيرة الذاتية للراحل كاظم الأحمدي (إن وجدت) فإنها ستكشف كثيراً عن الغموض الذي اكتنف بداياته وتكوينه الثقافي والإبداعي وستعين دارسي أدبه على فهم تحولات منجزه في القصة القصيرة والرواية،إذ غالباً ما كان الأحمدي يتكتم على ذلك خشية أو تواضعاً أو عدم اكتراث”؟. ثم تحدث القاص محمد خضير حديثاً طويلاً اجتزأ منه مايلي:”.. أتذكر إني التقيته لمحاً بعد صدور مجموعة قصصه الأولى (هموم شجرة البمبر) عام 1975 طافحاً بالبشر والكبرياء، ثم التقيته جليساً في المقاهي سريع الانفعال، ثم رأيته جوالاً في الأسواق صبوراً على أعباء الأسرة والحياة، ثم زاهداً بطاقية وعكاز، ثم رأيته واهناً بإبرة وريدية مشكوكة في كفه. كان سابحاً ضد تيار زمانه الجارف، مرتقياً سلّم الأدب عكس اتجاه حياته النازلة، فزاد رصيده القصصي روايات في أعلى درجات عسره ومرضه حرجاً ، هكذا سارت أوقاتنا على درجات، كما سارت رواياته الأخيرة على مراحل من الاستذكار، ففي تلك الأوقات التي سجلت ساعته البيولوجية هبوط نبضه حتى الصفر المحتوم، تصاعدت ذكرياته عن أبطاله الذين تركهم وراءه في أسفل السلّم بانتظار خاتمة أقواله في الأعلى. إننا نجاري في استذكاره اليوم طريقته في كتابة هذه الروايات: تناقل الأقوال من أمس الأفعال، وانجرافها اللفظي البطيء ( باتجاه القلب) الواقف عن الحركة. نقف اليوم مع بطله (عقيل) في قعر السلّم ، لا يتناهى إلى أسماعنا من جهة مؤلف الأقوال إلا رفرفة جناح اختطف الروح الصاعدة ، بلا قول أو كلام.في أول السلّم كان (عقيل) أو (أوتللو العراقي)، في رواية “أمس كان غداً” صبيّ الأمس الذي تلقى من زوجة مدير معمل النجارة الانجليزي أسرار الجسد وهواجس الانقسام بين الطاعة والتمرد. ثم ارتقى (أوتللو) المنقسم درجات حتى جمع أوصاله في شخصية ثائر من جيل الرابع عشر من تموز، وما زال هذا الشاب في رقيّه حتى انقسم ثانية بين حبيبته وعائلته والسلطة المستبدة، وصار محوراً لعدد كبير من الأقوال التي تلوكها عجائز محلة (المعقل) وجلساء المقهى وأفراد الشرطة. أما قرينه الروائي، الصاعد مثله ، فيناله الجهد الجهيد لنقله هذه الأقوال من أمس المكان والزمان إلى مستقبل (الحروف الخمسة) التي بنيت عليها رواية (تجاه القلب)، بلا تعديل أو تأويل، إلا ما تقتضيه لغة الرواية القائمة على النقل والإسناد. وذكر القاص محمد خضير:”  نلاحظ استفادة الأحمدي من تقنية نقل الأخبار في التراث وإسنادها إلى رواة متتابعين، من مثل: قال فلان عن فلان، أو سمعت فلان يقول..الخ. وإذا ما صحّت قراءتي للأحمدي روائياً فإني أبشّر هنا بولادة خطاب (رواية الأقوال) talking fiction مقابل خطاب رواية (الأفعال)cting fiction  وتطوير تقنياتها الحوارية الموروثة من(خطاب المقامات والسير الشعبية).أجاري أيضاً طريقة الأحمدي في إجراء حوار رواياته، فأنسب درجات من تخاطب شخصياته إلى نفسينا اللتين تلازمتا طويلاً في مدينة واحدة، وتحاورتا حتى كلّتا وافترقنا. أذكر أن حواراتنا الفعلية حين اللقاء كانت تجري على درجات من البوح المبتور، فكأننا نحاكي حواراً روائياً ورد في رواية (تجاه القلب) بهذه الكلمات: حقاً وأنت حقاً.. لقد كنتُ اعتقد بأنني..ربما، كيف يمكنني أن أقول: إنني.. لا امتلك الجرأة .. حتى..”. وأضاف القاص خضير:” لا بدّ إننا كنا نختتم حديثنا المتواصل على رصيف الشارع، ساعات طويلة، بهذا البوح الذي لا يؤدي إلى فهم مشترك لحياتنا الاجتماعية-السياسية ولأدبنا القصصي المحمول على الظن والتكتم والاستنتاج الخاطئ أكثر من حمله على القراءة المتأنية والتحليل الدقيق والمكاشفة الصريحة. باعدَ بيننا الحوار المبتور، ثم الموت الصامت،ثم الاستذكار المتدرج لسيرة صاعدة بدأب وكبرياء، وما زلتُ بانتظار أقواله في قعر السلّم. كان صلداً ، جلداً، صارماً، ثم حنوناً، متآخياً، كريماً، ثم مستسلماً لقدره القريب من وريده، ثم راحلاً بعيداً، وعلى كل هذه الدرجات كان أديباً مثابراً لا يشق له غبار”. نهاية عام 2001 أرسل كاظم رواية “قصر الازلزماني” إلى دار الشؤون الثقافية – بغداد فرفضت, ثم عاود إرسالها إلى اتحاد الكتاب والأدباء العرب- دمشق- لطبعها فتم رفضها كذلك لأسباب مجهولة.خلال هذا الشهر تم طبعها على نفقة عائلته وصدرت عن دار الجواهري-بغداد- وطبعت في دمشق، كما لم تحصل الموافقة على قبوله في دراسة(الماجستير)بجامعة البصرة مع انه اجتاز الاختبارات الأولى بتميز. و للأستاذ الناقد” رياض عبد الواحد” كتاب مخطوط تمت موافقة دار الشؤون الثقافية العامة،وزارة الثقافة العراقية- بغداد- على طبعه منذ أكثر من سنتين ، يحتوي على دراسات نقدية عن مؤلفات القاص والروائي (كاظم الأحمدي) لكن الدار حتى اللحظة لم تتفضل بطبعه. حصلت إحدى الطالبات على درجة الماجستير من جامعة الموصل عن نتاجات كاظم الأحمدي القصصية. تحتفظ أسرته بأعماله القصصية والروائية المعدة للطبع منها ” مختارات أولى” قصص و” ارض القهرمان” قصص، و” وجه الملك” رواية، و”حلم عين” رواية، ومخطوطات كثيرة أخرى. في مقدمته لمجموعته القصصية “شواهد الأزمنة” اختزل “كاظم “، كل ما شعر به ، والضيم الذي أصابه خلال حياته ، عندما كتب:” انه لا يطلب شيئاً لكتاباته سوى أن ترى النور كاملة، دون أن تشعر بالخوف ولأنها تحمل حملها يكفيها النور وحده”. ترى أتحقق له ذلك في ما نشره؟. وما الذي يراه في الأسباب التي كانت تكمن خلف ما منع من نشره ، بحجج ودوافع شتى؟. قبل وفاته بأيام ، وفي زيارة له في منزله ، بصحبة الصديق الناقد(جميل الشبيبي)، كنتُ راغباً في أن احصل منه على جواب حول تلك المسألة ، وتحديداً في الزمن الماضي بالذات؟. إلا أن اللقاء الحميمي واستعادة بعض تفاصيل حياة نائية بكل أحمالها ومناكداتها وخيباتها وأثمانها القاسية – المفجعة، والانشغال بوضعه الصحي، كل ذلك فوتَ عليّ فرصة التحقق منه حول ذلك..غير إن السؤال يا((أبو ضُحى)) ما زال قائماً..مع يقيني بعدم حصوليَ، على جوابه منك !!.