كان عنوان هذه المقالة في البداية كما يأتي – ( تمثال سرفانتس في موسكو مقابل تمثال بوشكين في مدريد ) , وكان الحديث فيها يدور حول (صفقة ثقافية!) حدثت فعلا بين الاتحاد السوفيتي واسبانيا العام 1980 في مدريد , لكن ربط الحديث في ختام المقالة مع التمثال النصفي للجواهري في روسيا ومع التمثال النصفي لبوشكين في بغداد قد اضطرني الى تبديل العنوان وجعله كما هو الان . ولنبدأ اولا بالحديث عن هذه ( الصفقة الثقافية) . بطلا هذه الصفقة هما السفير السوفيتي في اسبانيا يوري دوبينين ومحافظ مدينة مدريد , اللذان كانا يعرفان بعضهما البعض , ويلتقيان مع بعض بين فترة واخرى . ويذكر السفير السوفيتي في مقابلة صحفية بموسكو , انهما كانا يتحدثان طويلا في تلك اللقاءات حول العلاقات الروسية – الاسبانية , وقررا عقد هذه الصفقة معا , من اجل القيام بعمل محدد ومتميّز( يبقى من بعدهما ) لتعزيز هذه العلاقات بين الجانبين السوفيتي والاسباني خارج نطاق السياسة والسياسيين وألآعيبهم ومخاتلاتهم وخلافاتهم الدائمية واستخدام كل شئ من اجل مصالحهم الذاتية ( وخير مثال على ذلك ما نراه اليوم في العراق ونحن في نهاية العام 2018 ), عمل فنيّ كبيروخالد , ويعكس في نفس الوقت علاقات التعاطف والتناسق والانسجام والمحبة والألفة بين الشعبين الروسي والاسباني طوال مسيرة تلك العلاقات التاريخية.
وهكذا اتفق السفير السوفيتي في اسبانيا مع محافظ مدينة مدريد على اقامة تمثال لبوشكين في مدريد وتمثال لسرفانتس في موسكو , واستطاعا فعلا تنفيذ هذه الفكرة الجميلة والمبتكرة بكل معنى الكلمة, وتم تدشين التمثاليين العام 1981 , اذ أهدت محافظة موسكو تمثالا من البرونز لبوشكين الى محافظة مدريد , وأهدت محافظة مدريد الى محافظة موسكو بدورها نسخة طبق الاصل من تمثال سرفانتس الموجود في العاصمة الاسبانية منذ القرن التاسع عشر , وتم افتتاح التمثاليين فعلا في العاصمتين الروسية والاسبانية في احتفاليتين مهيبتين وجميلتين . لقد تم نصب تمثال بوشكين في متنزه فوينتي ديل بيرو بمدريد , وهو متنزه يضم تماثيل اسبانية واجنبية . ويقول السفير دوبينين في تلك المقابلة الصحفية , انهم اختاروا بوشكين لأنه رمز روسيا طبعا , و كذلك لأنه ايضا ( زميل لنا , نحن العاملين في وزارة الخارجية , اذ ان بوشكين كان يعمل في وزارة الخارجية ايضا , بل وان هناك اقاويل تشير , الى انه حتى كان مرشحا للعمل في السفارة الروسية بمدريد ). وتم نصب تمثال سرفانتيس في متنزه الصداقة بموسكو . لقد تخلل الاحتفاليتين في موسكو ومدريد فعاليّات ادبية وفنية متنوعة طبعا وكلمات ألقاها مسؤولون (روس واسبان) كبار يرتبطون بتنظيم وترتيب هذا الحدث الثقافي المتميز , وكل ذلك ذكّرني بما قمنا نحن به في مركز البحوث العراقية الروسية في جامعة فارونيش الحكومية عندما تم تدشين التمثال النصفي للجواهري العام 2009 بمدينة فارونيش الروسية , اذ تم افتتاح التمثال سوية من قبل السفير العراقي في موسكو ورئيس جامعة فارونيش وسط تصفيق الحاضرين من عراقيين وعرب وروس وأجانب , كان من بينهم اساتذة الجامعة المذكورة وعمداء كلياتها واداراتها وموظفيها , وكان يحيط هؤلاء المشاركين في تلك الاحتفالية لوحات تشكيلية عراقية جميلة ضمها المعرض الخاص الذي اقيم بهذه المناسبة, وكانت هناك منصة خشبية في وسط القاعة الفسيحة تلك , حيث كان يقف هؤلاء الذين ألقوا كلمات تناولت تلك المناسبة الفريدة في تاريخ تلك الجامعة , والفريدة طبعا في مسيرة العلاقات الثقافية بين العراق وروسيا , والفريدة ايضا في تاريخ الادب العراقي , اذ انها المرة الاولى التي تم بها نصب تمثال للجواهري خارج العراق باعتباره رمز العراق , وقد أعلنت في كلمتي التي ألقيتها باعتباري مدير مركز الدراسات العراقية الروسية في تلك الجامعة ( وهو صاحب الاقتراح والمبادرة والتنفيذ) , أعلنت ان هذه الخطوة يجب ان تليها خطوة مكملة لها , وهي اقامة تمثال لبوشكين في جامعة بغداد , وان هذا التمثال يجب ان يكون في كليّة اللغات بالذات , حيث يوجد القسم الذي يدرّس لغة بوشكين , اي قسم اللغة الروسية , وقد تم فعلا , بعد سنتين من الجهود , افتتاح تمثال بوشكين في حدائق كلية اللغات كما خططنا آنذاك ( انظر مقالتنا بعنوان – قصة تمثال بوشكين في جامعة بغداد ) .
تمثال سرفانتيس بموسكو وتمثال بوشكين في مدريد – هي خطوة تمت ضمن علاقات بين سفير دولة بوزن الاتحاد السوفيتي وبين محافظ العاصمة الاسبانية , وساهم في تحقيقها وتنفيذها الجهاز الاداري الضخم لكلا الجانبين , اما تمثال الجواهري في روسيا وتمثال بوشكين في العراق ( وهو حدث ثقافي كبير يوازيه في الاهمية ) فقد تم بجهود فردية من قبل مركز الدراسات العراقية – الروسية في جامعة فارونيش والجمعية العراقية لخريجي الجامعات السوفيتية والروسية ليس الا , وقد قال لي صاحبي – لهذا , يجب ان تشعر بالفخر , فقلت له – نعم , أنا أشعر بالفخر وألاسى معا .