18 ديسمبر، 2024 10:43 م

حين نقرأ مقالات ستندال القصيرة عن الحبّ لأول مرة على سبيل استكشافه- كما نفعل مع أيّ كتاب – نجدهُ يقول كلاماً عابراً لا يخفى حتى على أغبى النّاس:

محطّات الحبّ من الولادة حتّى الانطفاء، الخجل، الأمل، الغيرة، كبرياء النساء، وتفاصيل دقيقة عن قَسَمات الأنثى والرّجل حين يكونان على خطّ الحب

ولكنّه كتاب يحتاجُ صدراً واسعاً من قارئ لا يسأم من قراءة كتاب عن الحبّ مرتين أو ثلاث، ويكرّر قراءة فقرة عن الأمل والشّغف خمس مرّات؛ رغم أنّ موضوعاً كالحبّ أصبح مستهلكاً، بل مقرفاً إذا ما تتبّعنا تاريخه المأساوي السمج؛ إذ هو التاريخ الوحيد الذي يكتبهُ المنهزمون. وعندما يسلم القارئ نفسه لستندال ليقصّ عليه الحكايات التي سبق أن سمعها من فم العشاق التّعساء، أبطال الروايات العاطفية، حوارات الأفلام، أو تلك التي عاشها القارئ مع أكثر من معشوق …« كرواية جيّدة يستطيع ستندال قراءتها كلّ ثلاث سنوات بالمتعة ذاتها فتعطيه مشاعر منسجمة مع نوع الذوق الرفيع الذي يطغى عليه لحظتها» يجد نفسه- القارئ- مأخوذاً بسحر لذّة كلّ جمال نكتشفه عندما نحبّ، لأنّ كلّ حديث عن الحبّ هو حديث لذيذ محبّب يجتلبُ للنفس السرور من فرط عذوبته؛ فلذلك نقرأ أشعار الهوى بقلوبنا ونبتسمُ بخفّة،حتّى لو كنّا غير عشّاق، أمّا إذا كنّا كذلك فتلك هستيريا من ضحكات الفؤاد لا يمكن كتمُها. وثمّة سبب آخر، وهو أنّ كلّ حديث عن الحبّ يختصرنا بين عباراته العذبة وكلماته المنسابة اللذيذة، نبتسمُ  مع تباريح البطل مع نظرة فوقيّة: فالقارئ يعلم مصير البطل، ليس فقط لأنّه قد قرأ صدفة عبارة في نهاية الرواية وهو يتصفّح دفعاً للملل، بل كذلك لأنّه يشعر كما لو أنّه خمسينيّ إزاء شاب عشريني (هو البطل)، يعرف أنّ ما يمرّ به شغف بداية الحبّ وسرعان ما سينطفئ كلحن جميل، ولذلك يضحك على رقّة البطل وهو يقف على أعتاب حبيبته ، قلبه قلب عصفور يرفرف سعادة ..« سعادة أوّل شدّ على يد امرأة نحبّها

يبدو ستندال كصديق للقراء.. يسدي نصائح ذات قيمة تعكس من جهة، معرفة بالرّجل، خاصة الرجل الفرنسي، معتمداً في ذلك على مصدرين: الأدب ثمّ التجارب: «رجلٌ يلتقي بامرأة ويصدم ببشاعتها؛وبعد قليل، إن لم يكن لديها مطامع فسيجعله شكلها ينسى عيوب ملامحها؛ فيجدها محبّبة إلى النفس،ويتصوّر أنها يمكن أن تُحبّ،وبعد ثمانية أيام تتولّد عنده أمال؛وبعد ثمانية أيام تمحى عنها هذه العيوب؛ وبعد ثمانية أيام يصبح مجنوناً بها» وهذه الخبرة ليست محصورة في طباع الرجل بل إنّ ستندال يفشي لنا  تفاصيل دقيقة  – ولم لا تكون سرّا من أسرار النساء التي يفشل الرجل في فهمها— فيقول :  « ربّما في الدقائق الأولى من الحب الشّغوف، أيّ امرأة، وهي تتخذ عشيقاً تأخذ في عين الاعتبار الطريقة التي تنظر بها النساء الأخريات إلى هذا الرجل، أكثر من الطريقة التي تنظر بها هي بالذات إليه

ماري هنري بيل.. أو ستندال. أحد وجوه الأدب الفرنسي، نصيرُ الملكية، الذي لم يكن يتردّد في نقد الثورة الفرنسية وفشلها في تحطيم قيود التقاليد والعادات. ولذلك نجده يتوجّه بنقد اجتماعي لاذع للمجتمع الفرنسي الخاضع لسيطرة تقاليد تحابيها الأنظمة السياسية، وتارة نجده مهموما بتحليل نفساني لقضايا الحبّ.

كان الحبّ تيمة لا تفارق اسم ستندال؛ وهو الحالمُ بامرأة نموذجية وحبّ مثالي، ولذلك نجده عبر على إحدى عشرة امرأة دون أن يعثر على ظلّ الحبّ الوارف، فتارة يحبّ نساء متزوّجات، أو صبايا صعبات المنال… فنراه يهيم بميلاني لوزان ويكتب عن ذلك اللقاء الذي جمعهما :

« ذهبتُ لزيارة ميلاني وأنا أرتجف، وكلّفتني بإشعال النار فسرّتني هذه المهمّة، الدالة على رفع الكلفة، وبقينا معاً حتى ساعة متأخرّة من الليل. كنت سعيداً جدّاً، ووددتُ لو أحسّت بمثل سعادتي. كانت رائعة وهي تسرد لي أقاصيصها الطريفة، وجلست قبالتها أحدّق في عينيها، ولا بدّ أنّها أحسّت بمدى الانفعال الذي أثارته روحها الرقيقة فيّ؛ لأنّ الفرح الذي ظهر على وجهها يثبت أنّها تحبّني ! أمّا أنا، فحسبي أنّ فمي وحده هو الذي تكلّم، بينما كان قلبي مشغولا.» ويقول عن حبيبته أنجيلا التي تعود من الماضي لتسأله بمكر: لماذا لم تخبرني عن حبّك يومئذ؟ فتتوطّد علاقتهما ليكتشف أنها كانت تخدعه: «كانت سمراء رائعة،حادة الشهوات، خليلة مثالية، لكنّها كانت تحمل قلب شيطان».

ولكن لا تكاد جذوة الحبّ تشتعل في قلب ستندال حتّى تخبو وتنطفئ وتترك في قلبه الرماد واللوعات، ليطرق باب امرأة جديدة وهكذا دواليك حتى نجده يتساءل:

لماذا نستمتع بلذّة كل جمال جديد نكتشفه عند من نحبّ؟ فيجيب ستندال:

«هذا لأنّ كلّ جمال جديد يمنحنا إشباعاً تاماً وكاملا لأيّ رغبة» لأننا عندما نحبّ نجد المحبوب حاز الحسن كلّه وانفرد به، ولن نجد له مثيلا مهما صُلنا وجُلنا، وعلى هذه الفكرة البسيطة يبني ستندال نظريته في الحب : التبلور هو حين يرى المحبّ في حبيبه أفراحه وأماله وسعادته وكأنّه كمال مطلق لا يعتورهُ نقصان. قد يكون هذا الحبيب لا وجه للجمال فيه، ولكنه حلو في عين المحبّ، عذب، لذيذ النظر، لأنّ ولادة الحبّ ترتبط بمعايير جمالية تتجاوز الحسن والبشاعة. وعلى شاكلة ستندال يقول لوكريس متهكّماً: «فإذا كانت سوداء، يصفها بعسلية اللون، وإذا كانت وسخة ونتنة، تكون في عينيه طبيعية، أما عيونها المطفأة، الباهتة، فيراها هو متوهّجة كالألماس،ولو هي عصبية  وجافّة تكون غزالة برّية، بينما القزمة هي فتنة من المفاتن، كي تُلتهم كاملة، أما العملاقة فهي آلهة تُصدّر العظمة، والمتلجلجة تغرّد، والخرساء متواضعة، بينما الشرسة الوقحة الثرثارة، يراها هو شعلة متوهّجة ، والتي تكاد تختفي من النحافة، يعتبرها هو صغيرة لطيفة

في الأخير، يمكن أن نقول عن ستندال، الذي أثر فيه موت والدته- الصارخة الجمال- وهو في سن السابعة، وجلف والده المستبد الذي أراده أن يكون محاميا والذي غيّر اسمه إلى ستندال نكاية في استبداده وانتقاماً منه، فضلا عن ذمامة خِلقته- التي كانت من أسباب كرهه لوالده- إذ كان يقف أمام المرآة ويقول : «ياله من وجه كوجه الكلاب ». دون أن ننسى تلك التجارب الإحدى عشر مع نساء عصره اللواتي انتهى به المطاف يكتب أسماءهن على الملصقات قبيل موته !ولعلّ فشل علاقته الغرامية مع ماتيلد دومبوفسكي كان سبباً في بلورة فكرة هذا الكتاب، وإذا ما قرأناه بتمعّن، نجد أنّ المرأة عند ستندال، تتسم بالقوة والكبرياء والذكاء، وأنّها عن طريق الحبّ تستطيع أن تسيطر على قوة الرّجل ؛ سواء أكان قوة الرجل مادية أو فكرية.  أمّا الرجل فمهما بلغ من الذكاء والقوة فلن يستطيع مجابهة سطوة امرأة تتقنّ الحبّ وتتفنّن في إخفاء مشاعرها ولو فتّتها الهوى .ولأنّه كان شبيهاً بأبطال الروايات الحالمين، الذين يعتقدون أنّ السبيل إلى قلب المرأة هو اللطافة والوداعة وذلك السيل الجارف من الأحاسيس العاطفية، فإنّه وقع محتاراً أمام نساء يفضّلن الشريك القاسي ولا شكّ أنّ واحدة من نساء حياته قد كانت تحمل في صدرها هذه الرّغبة. لقد وجد ستندال نفسه ضعيفاً،منهزماً أمام المرأة وهو المولع بالقوة الذي يقول «إنّ الضعفاء في نظري مجانين». ضعيفاً أمام هذه المرأة  المنفلتة من بين يديه كلما غمرته سعادة الشدّ على يدها، وسعادة النظرة التي تقول كلّ شيء، ولذّة  الاستمتاع بجمال غير محسوس. وحتّى لو رأيناه عارفاً بخبايا النساء عندما يتحدّث عنهنّ في كتابه، فهو لم يستطع أن يتعامل مع المرأة، لم يستطع يستثمر تلك المعارف النظرية ليعيش قصة حبّ ناضجة. يمكن أن نقول عن ستندال بأنّه لا يقدّم دراسة علمية عن الحبّ، بقدر ما هي أراء عكستها تجربته العاطفية، يمكن أن نتفق معه ويمكن أن نختلف معه في كثير، ولكنّ  ما كتبه  يبقى باعثاً على الاستمتاع والتلذّد بجمال يضاهي الحبّ هو جمال الحديث عن الحبّ، الذي يروق لكلّ إنسان.