22 نوفمبر، 2024 7:33 م
Search
Close this search box.

عن رواية “عين حمئة” لماجد سليمان: عينات بشرية من رحم الشقاء

عن رواية “عين حمئة” لماجد سليمان: عينات بشرية من رحم الشقاء

يعتبر عنوان الباكورة الروائية للمبدع السعودي ماجد سليمان الموسوم “عين حمئة” (2011) إضاءة بارعة وغامضة في آن واحد، تتكفل قراءة هذا العمل بالإجابة عن قصديتها، وقد جاء هذا العنوان مقتبسا من القرآن الكريم لقوله تعالى: “حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة” (سورة الكهف: الآية 86).
إن لفظة “حمئة” لها عدة دلالات لغوية وقد يكون الروائي يقصد من خلالها ذات حمئة بمعنى “الطين الأسود”، وهذا يعود إلى زمن ذي القرنين أين كانت تلك العين فيها طين أملس شديد السواد واعتادت الشمس أن تغيب فيها كل يوم، فيمكن أن نجعل منها رمزا للانكسار والأفول.
تقع رواية “عين حمئة” في مائة واثني عشرة صفحة من القطع المتوسط وجاءت أحداثها موزعة على عشرة فصول كل فصل يفتح بابا للفصل الموالي، إذ تبدأ القصة بجملة من ذكريات البطل في طفولته، حيث يشاركنا الظلم والقهر الذي عايشه منذ نعومة أظافره على يد زوج أمه المتجبر، التي كان يعتبرها -الأم المقهورة- مجرد حذاء سيرميه حينما يبلى: “كان كلامه سهام حقد زجت في نحرها، فأطلقها من يده الضخمة كما يطلق الصياد أرنبة من يده، نهضت ممزقة الثياب مسلوبة الكرامة.. محطمة المشاعر.. مبعثرة الروح.. مدهونة بسواد قلب الرجل العربي المكابر، وقفت على باب غرفتها المتصدعة، أخذت تمور في بحر دمعها وحزنها، التفتت إلينا ورأتنا محشورين في زاوية المنزل كقطين مريضين، وأخذت تهدي بكلام حاولت أن أسمعه ولكني لم أستطع ذلك، فقد كانت شفتها متورمة بعض الشيء وإحدى ثناياها تزخر بدمها الطاهر…” (ص 13-14).
سرعان ما أصبحت أم البطل “شريف” امرأة مطلقة وهذا ما خفف عنها الألم الذي لم يفارق ابنها خصوصا حين علم بخبر وافتها السريع حينما شد الرحال إلى أرض أخواله، أين فارقت الحياة هناك كما نقرأ على لسان السارد: “…مسحت يدي بباطن يدي اليمنى.. فالخبر فتت قلبي ودهس أحشائي.. أخذت ألمي، وبقايا يأسي معي، وانتقلت إلى غرفة مجاورة لهم لأريق ما تبقى لدي من حزن على انفراد…” (ص 18).
وفاة الأم جعل البطل يحس باليتم، لكن سرعان ما وجد حبا يؤنس وحدته وهذا هو القدر ليجد نفسه منجذبة نحو “نورانية”: “نهضت فتراءت ملاكا يقف أمامي.. نهدان كاعبان، وعينان كأنهما لؤلؤتان، وقد كأنه رمح طعن السماء حين وقفت.. تخشبت عيناي في هذا الملاك الماثل أمامي.” (ص 27).
هذه الحبيبة لم تبادله مشاعر الحب لكن عاد القدر يحرك أيامه لتجمعه الصدفة برفيقة طفولته “منال” المعلمة، تلك التي وجدت نفسها مطلقة وأما لطفلين غصبا عنها كما نقرأ ما يلي: “كانت الصدفة بحرا شكرت وقوفي بشاطئه، ونهارا أرهب غربان الظلام.. إنها أعوام الحنين، إنها منال، إنها الفجر الذي مزق قميصه، إنها الفتاة التي كانت صديقتي وأختي وطفولتي.. إنها التي يا كم شاغبتني عند عتبة هذا الباب…” (ص 33). 
مدينة الرياض هي الفضاء الروائي الذي تبرز فيه الأماكن الرئيسة المرتبطة بأحداث القصة، أين يعلن السارد انكساراتها وفساد أهلها الذي يعكسه من خلال تجارب تلك الشخصيات التي يمكن اعتبارها مجرد عينات بشرية من رحم الشقاء الذي بات يعيشه المجتمع العربي اليوم بشكل عام.
الخلفية المكانية التي عبر عنها المبدع ماجد سليمان هي المرآة العاكسة للقهر والظلم والحرمان الذي نعيشه كقراء بالفطرة مع شخصية “شريف” ومن عايشهم منذ طفولته إلى أن صار شابا في مقتبل العمر يشتغل ليوفر لقمة العيش، كما كان ذلك في أولى تجاربه العملية في قصر “قنداس” أين تحدث عن ذلك السيد المتجبر وحاشيته كأنه يعيدنا إلى زمن فرعون الطاغية حيث عبر عن ذلك السارد قائلا: “هوت جثة الرجل عند أقدامه وتأمله السيد قليلا بينما الزوجة تضرب الخد والنحر، وتسح دما بدلا من الدمع الذي لم يعد يجدي لإنقاذ حبيب في هذا القصر.” (ص 41-42).
حتى المساجد كباقي الأماكن في المدينة تغيرت رسائلها الدينية حسب الأمثلة التي ذكرها الروائي بتكنيك لا يخلو من نبرة العتاب على أهل العلم والدين، كما كان شأن شخصية “عبدان” الذي كان مستشارا للسيد: “في اليوم التالي وقف عبدان خطيبا في مسجد القصر مجلجلا:
– من خرج على سيد القصر فالقتل جزاؤه.. وليكن منيف المتمرد عبرة لكل من تسول له نفسه الخروج على السيد.. يا عباد الله طاعة السيد واجبة، وعصيانه عصيان لله ولرسوله، فاتقوا الله عباد الله.” (ص 42).
ما يؤرق السارد هو تغير نبرة الخطيب في بيوت الله التي من واجبها الوقوف مع الحق ضد الباطل كما هو شأن ذلك الفتى الذي ذكره الروائي كمثال حي عن تغير وجهة الوعظ والإرشاد عموما: “صوت الخطيب يرتفع حماسا واندفاعا، فنهض الفتى كأن قلبه قد نفذ فيه حديد متلظ بعد أن فج أضلاعه الدقيقة: – وصحة المواطن، وتعليمه، والبطالة التي التهمت الشباب، والجحيم البشري الذي وئدت فيه أمنياتنا وآمالنا.. لماذا لا تتحدثون عنها؟!.” (ص 54-55).
من يقرأ هذه الرواية سيقف أمام خيبة أمل البطل لما بات يعيشه في مدينته من تصرفات غير أخلاقية سلبت الفرد إنسانيته ووعيه لذاته، ولنا في المثال الآتي خير دليل: “عدت إلى غرفة الحراسة، أخذت أراقب الشارع العام من خلف الزجاج الملئ بالأوساخ وبصمات العاملين في الحراسة.. صوت ارتطام الجريدة على الطاولة كان مدويا، فالتفت بدهشة قائلا: تعامل برفق يا هذا.
كان قد أعطاني ظهره العريض ذاهبا، وهو يقلب كمية الصحف التي بين يديه اللتين كساهما بقفازين أزرقين…” (ص 57).
إن رواية “عين حمئة” للمبدع سليمان ليست عبارة عن رواية تطرح قضايا سلبية فقط في مدينة الرياض التي اتخذها كعينة لمدن وطننا العربي، بل هي عبارة عن إنجاز أدبي هدفه إعادة الوعي الإنساني المبني على الأخلاق والعدالة الاجتماعية كما هو شأن العديد من المواضيع المطروحة عبر هذا النص الروائي المتميز، ونذكر هنا على سبيل المثال دخول البطل للسجن ظلما وكذا الحكم عليه بالإعدام: “…هكذا فعلت بي الحماقة.. ألقيت بعدها خلف القضبان السوداء أنتظر العقوبة التي ستحل بي.. كنت في كامل الصمت حين كان أهله يبصقون في وجهي أثناء التحقيق، تحملت إهاناتهم لأنني أعذر حالهم التي هم فيها، مع أنني لم أجد من يعذرني في حياتي كلها.” (ص 60).
يتغير مسار السرد الروائي بعد الإفراج المفاجئ عن “شريف” ليجد نفسه مسترجعا لذكرياته مع “حسام” الذي لطالما اعتبره صندوقا لأسراره، وهذا الأخير كان ضحية للفقر والعوز هو الآخر حتى زوجه “نجاح” خلعته هربا من فقره: “تزاحمت حمامات الأفكار بين يديها، فلم تعد تدري كيف ستبدأ، وبما ستبدأ، فهي الآن تريد أن تشطب ماضيه من صفحات حياتها.. لديها رغبة ملحة على أن تضع تاريخه العابس تحت كعبها المخملي، وتعلن دفن جثته في سابع النسيان، وبالإضافة إلى مهمة طارئة لإتمام مراسم الخلاص من أتفه أمر يذكرها به.” (ص 83).
سنجد أنفسنا كقراء أمام زحمة رؤى يرفضها الروائي ماجد سليمان كما يرفضها ديننا الإسلامي الحنيف بشكل آخر، لأنها تنسف القيم الإنسانية ليختلط الحلال بالحرام، كما ورد على لسان السارد في مسألة الرشوة كما يلي: “- يا منال حتى لو كان حراما فلا لوم علينا، النظام ظالم ومتجبر، ولا نشم فيه للعدل رائحة البتة، والمسؤولون لا يهمهم الأمر، وأنا امرأة قابعة وحدي في بيت شعبي متهالك في نفس مقر عملي، تاركة أهلي وأخوتي على بعد 600 كيلومتر، والأخطار تدور حولي، وسبل العيش في هذه القرى ضعيفة جدا، وقد خسرت فرصة الزواج أكثر من مرة بسبب هذا النقل…” (ص 101).
لقد استطاع المبدع ماجد سليمان في باكورته الروائية أن يثير تساؤلا هائلا حول معنى الحياة الحقيقية ومعنى الظلم والقهر واليأس، كما هو الحال في مشكلة العنوسة التي باتت مشكلة عويصة في عصر العولمة، وهذا يرجع لأسباب عديدة بات يتجاهلها مجتمعنا العربي للأسف الشديد: “لقد قضم النسيان من عمرها أربعين خريفا، أقامت في كنفه أحلامها الخضراء بتفاصيلها البنفسجية، وفي صباح رمادي المزاج ألصقت وجهها بمرآتها العتيقة التي انصدعت زاويتها السفلية اليمنى، والتصق من أعلى حدودها اليسرى بقايا لروج داكن الحمرة تعاقب على بقائه بكاء الليالي المبتورة من عظام حياتنا الهشة، وبأصابع سكرانة خلخلت شعرها الكستنائي، وقالت لنفسها وهي تمسح خديها بقطعة قطن وردية اللون، صغيرة الحجم قد التهمها البلل:
– ما أضيق قبر العنوسة على فتاة آثرت الدراسة على الزواج.
فارتعشت شبابيكها حزنا على ما لفظت به شفاهها المجافية لحروف الأمل، ثم استدارت والجة ممرات منزل أمها الأرملة ميممة إلى صورة أبيها المعلقة على جدار الصالة…” (ص 77-78).
ما قد لا يتفق مع هذا العمل الروائي الذي ينتمي مجملا إلى واقعية بلزاك وفيكتور هيجو هو لغته الشعرية التي جاءت غير مناسبة بشكل غير مباشر في “عين حمئة” لماجد سليمان، ولربما كانت قصديته كسر الرتابة النثرية ليجعل المتلقي يتمتع بمذاق الشعر وجمالية السرد الروائي في آن واحد.
المصدر
(1) ماجد سليمان: عين حمئة، طوى للنشر والإعلام، ط 1،2011.

أحدث المقالات