عُلمنا منذ الصغر أنه (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)، وطُلب منا كثيراً ان نكتب في دفاترنا شعار (كل شيء من اجل المعركة)، وكنت ــ فضلاً عن هذا ــ اجوّد قليلاً من عملية الاستجابة فأرسم دبابة معها!
وعلى الرغم من مرور قرابة أربعة عقود على ذلك، فما زلت إلى الآن لا أعلم عن أي معركة كانوا يتحدثون، عن حرب كنا فيها الأداة، ام مغامرة صبيانية ارتكبها من جاوز الخمسين من عمره فحطمت بلداً وأمة بأكملها!
وبعيداً عن تلك المعارك العبثية التي ستبقى الآراء بخصوصها مختلفة، أقول أن ما يهمني هو ارتدادات تلك الثقافة التي بني عليها مجتمع بأكمله، كان يرى في الحرب مستقبلاً، وفي المعركة التزاماً، أياً كانت هويتها، ومآلاتها!
الحرب، تلك الصورة المفزعة من الحوار والصراع، هي جزء اضطراري من الحياة، وليست هي الأصل، والصوت الأساس هو صوت الحوار ولغة العقل وخطاب المعرفة والوعي لا صوت السلاح الفاقد الهوية، ولا الرصاصة المجنونة التي تلقى بيد المغامرين المستعدين لتحطيم أنفسهم من اجل مجدٍ زائل يسطر في كتب التاريخ المزيف!!
ان خطورة هذه المسألة تكمن فيما تركته في الأجيال والمجتمع من تشوهات في التكوين والبناء، فإن تكلمنا عن تأثيراتها النفسية وجدنا أن الإنسان بات يعيش وهو فزع من يومه وغده، وتملأ مخيلته كل صور الأشلاء والدماء، والدمار المزمن الذي يأبى ان يفارقه.
وهذه الثقافة من جهة ثانية اوجدت اضطراباً في الأولويات، وتحطيماً لمعاني القيم والمبادىء، فليس المطلوب اليوم منك ان تنزع جلدك وهويتك وانتماءك من اجل سلاح فاقد الأهلية والشرعية، ولا لشيء إلا لتغذية مجريات حربٍ كان من المفروض ان تكون تحت الاقامة الجبرية من يومها ليمنع الدمار والخراب المعاصر الذي نعيشه في ظله.
كما ان هذا الخطاب ترددت أصداؤه في قاموسنا الذي نتعامل به مع الآخرين، فلم ينتج لنا علاقات سوية، ولا بيئة صحية، وأحدثت ما أسميه بالتوحش اللفظي، والعدوانية الكلامية، تلك التي تجعل الآخرين تحت الأقدام لا لشيء إلا لوجود انتماء ما لا قيمة له ولا معنى إلا في ذهن من كان يقدم له على وجباته الثلاث أغاني المعركة الحماسية والتي وصل بها المستوى حد العدوان!
انا لا اتكلم بطبيعة الحال عن الحروب العادلة، وصراع الحق مع الباطل، ولكني اتكلم عن غرس صوت الرصاص في العقل والذاكرة عن سابق إصرار وترصد.
ان الحلقات مرتبطة الواحدة مع الأخرى، فلا وطن ينمو مع مجتمع متأزم، ولا مجتمع فاعل يتواءم مع ثقافة معتلة، ولا إنسان يبني وينتج وهو يعيش قلقاً لا تعالجة كل الأدوية المضادة للاكتئاب!