– 1 –
أين يقف المثقف العراقي اليوم من كل ما يجري على الساحة العراقية ؟ ظل هذا السؤال يتردد بين اغلب مثقفينا في كل مرحلة من مراحل تاريخنا الحديث، ومع كل أزمة تعترض طريق نهوضنا وتقدمنا ، ولدى كل هزيمة تحل بنا … ومع كثرة الإجابات على هذا السؤال المركزي كانت تتزايد مساحة الضياع والتخبط ليس لان الإجابات غير كافية أو غير شاملة أو ليست معمقة بل لأن لا أحد يرغب في الاستماع إلى المثقف . ولان الثقافة ظلت طوال الوقت ورغم كل محاولات المثقفين للقيام بدور فاعل ، ظلت الثقافة على هامش الحياة العراقية .
ولكن ثمة حقيقة لابد من التوقف عندها ، وهي أن محاولات المثقفين لامتلاك حيز في مساحة الفعل ظلت غالباً تقوم على الرغبة في الحصول على هذا الحيز ولم يكن ممكناً ، والحالة هذه ، أن يتنازل له السياسيون عن أي جزء من مساحة العمل . فالأصل في العلاقة هو المصارعة لانتزاع الدور ، لاالوقوف في انتظار أن يمنحه الآخرون – السلطة السياسية – دوراً مهماً .
ونحن نعلم بالطبع إنه ما من دور بلا ثمن . والقلة من المثقفين الذين حاولوا القيام بدور أو انتزاعه، دفعوا ثمناً باهظاً في معظم الأحيان ثم وجدوا أنفسهم وحيدين سوى من بيانات أو نداءات تضامنية لم تكن تغير في الأمر شيئاً .
وفي اعتقادي ، إن ما يقال أحياناً عن عدم وجود دور للمثقف والمبدع العراقي ، وانه ليس في امكان أي منهما القيام بأي دور تجاه الكوارث والأزمات والهزائم ، ليس هذا إلا استسلاماً وتسليماً بالأمر الواقع .
جميعنا يعرف أن صوت المبدعين في العالم كان مؤثراً في الكثير من المناسبات والحروب . صحيح انه لا يوقف وحده الانهيارات لكنه يساهم مع غيره في التخفيف منها ، وهذا اضعف الأيمان .
إن للمبدع دوراً عدا كتابته الإبداعية . ففي مرحلة مثل هذه التي نمر فيها يتطلب الأمر مساهمة المثقفين والمبدعين في تحليل وتقويم ما يجري على الساحة السياسية ، لان الذي يجري فيها اكبر من أن تترك للسياسيين كي يقرروا وحدهم مصيرنا بخاصة في ظل سيادة حرية التعبير التي علينا أن نجعلها أوسع واشمل مما هي عليه حتى تتاح الفرصة لجميع الآراء كي تجد لها حيزاً في وسائل إعلامنا المختلفة لتتحاور وتضع نتائج حوارها في صورة مقررات وخطط للنهوض من هذا الوحل المظلم الذي نغوص فيه منذ عقود .
– 2 –
ترى لماذا تختفي المطالبة بتحسين أوضاع الثقافة والمثقفين في العراق ، وتقبع في الخلفية المهملة من تفكير صناع القرار أو حسابات الأحزاب والنواب والمؤسسات المدنية الضاغطة في المجتمع ؟
هل لأن الثقافة تحتل ركناً تفصيلياً من أثاث البيت ؟ أم لأنها تشكل ترفاً بمقدور الكائن أن يتخلى عنه، أن يكون عرضه للفاقة أو الجوع أو النوم في العراء؟ إذا كان ذلك صحيحاً فأي بؤس هذا الذي ينتظرنا، وأي جفاف ذلك الأخذ بالزحف نحو أرواحنا ، معلناً عليها التصحر ؟
أعلم جيداً إن قيم الاستهلاك التي غرقنا فيها حتى رموشنا ، قد أجلت كثيراً الاحتفال بالثقافة والفن كرافعتين من روافع الحضارة الإنسانية ، واعلم – كما يعلم غيري – أن ثقافة الفيديو والستلايت قد خطفت ذلك البريق اللماع للشعر والرواية والكتابة التي تحاول أن تعالج أورام النفس وأوهامها . لكنني لا أستطيع أن أتخيل أن تكون تلك القيم الخادعة والمؤقتة قد نالت من الثقافة والفن فأجهزت عليهما بالضربة القاضية .
هل الخلل في ذلك يعود إلى الثقافة والمثقفين الذين لم يستطيعوا أن يؤسسوا لقيمهم الجمالية ، وان يجعلوا من خطابهم نبراساً يهتدي به السياسي والمفكر وعالم الاجتماع والمزارع والحرفي والطالب والعاطل عن العمل … أم إلى المؤسسات الثقافية التي لم تكن وفية لرسالتها فأهملت أسئلة الواقع الملحة ، وتعاملت مع المثقف بوصفه موظفاً فنزعت عنه صفات التميز التي يستمدها من سلطة إبداعه ، فصار المثقف نهباً للروتين والبيروقرطية ؟
ولأن المثقف قابل ذلك كله بالانكفاء على نفسه والاكتفاء بإنتاج النميمة وتسويقها وبالتالي اختيار العزلة أو الانعزال ، فقد تقدم السياسي وجرده من أهم سلطاته ، سلطة القول ، فنزع عنها ثياب الحلم الرومانسي وكساها بمعاطف النفعية والبراغماتية ، فصار المثقف أسيراً وتابعاً بعدما كان رائياً وسيداً .
إذن ، لاغرو والحالة هذه أن يغيب المثقف وتغيب الثقافة وتبقى – على سبيل المثال – مشاريع رعاية الكتاب والمثقفين شعارات عصية على التحقيق ، وقولاً مأثوراً تلوكه ألسنة المناسبات ، مادام المثقف قد أستمرأ وهم مصارعة طواحين الهواء ، ومادام غير قادر على التصدي لهذا الارتهان المجحف لإملاءات واقع استهلاكي وظرف سياسي تشكل في إثناء غيبوبته .
فهل يعلم المثقفون انه ماحك جلدك مثل ظفرك ؟ وهل يتقدمون في المعنى فيشرعون في ترجمة الشطر الثاني من القول ، فتول أنت جميع أمرك ؟ !
– 3 –
استشرت مؤخراً في عراقنا العزيز ظاهرة خطيرة تمثلت في اغتيال أصحاب القلم والكلمة الحرة ، مما أبعثت على التساؤل بمرارة :- ماذا جنى كل الذين استَمْرأوا القتل في وجه الكلمة ، والى ماذا أدت كل محاولاتهم حتى الآن ؟ هل توقف الرأي وصمت الناس واقفلوا على أنفسهم أبواب منازلهم ؟ هل ساد الرصاص وحده وكتمت كل الأفواه ؟
إنه مهما اختلفت مع الإنسان – أي إنسان – لا يمكن أن تقر بقتله لمجرد اختلاف في الرأي لسبب بسيط هو أن اللجوء إلى الرصاص في وجه الكلمة دليل عجز مهما كانت الكلمة وأياً كان المبرر وراء استعمال الرصاص وتحت أي غطاء .
لاشك أن الرصاص قد يفلح في إسكات بعض الناس في بلد ما لبعض الوقت لكنه حتماً لن يستطيع إسكات كل الناس وفي كل البلدان دائماً ، لأن حبل الرصاص قصير مهما طال ، وتأثير الكلمة سيبقى أقصى منه وأكثر قوة على الاستمرار ، والدليل ، أن استمرار محاولات إسكات الإبداع بالرصاص اعتراف صريح بإصرار هذا الإبداع على الاستمرار في التعبير عن رأيه الحر الموضوعي الذي يخدم الصالح العام .
إن عمليات اغتيال بعض حملة الأقلام الشريفة وأصحاب الرأي السديد ، يكشف إلى أي حد يضيق البعض بالكلمة ، والا يطيقون سماعها إلا إذا كانت ملك يمينهم وثمنها مدفوع من أموال أسيادهم ومموليهم ذوي النوايا الشاذة .
لقد دفع بعض كتابنا الشهداء حياته ثمناً لمواقفه وإدراكه لجانب من حجم المؤامرة على مجتمعنا واستشعاره خطرها
– 4-
يخطئ من يتصور أن القراء في عراقنا العزيز لايكتمل لديهم الوعي للتمييز بين الكلمة الشريفة المسؤولة وتلك الملتوية اللعوب ، بين الكلمة الصادقة الشجاعة ونقيضتها الكذوبة الباهتة . فقراءنا بذكائهم الفطري وبطبيعة انتمائهم الوطني وبعمق إحساسهم بمشكلاتهم وقضاياهم الحيوية يحسنون الحكم على ما تطلعهم به الصحف من كتابات ، وأنجح هذه الكتابات تلك التي تعبر عن خلجات صدورهم وتخوض معارك الدفاع عن قضاياهم إذ يجدون في كلماتها تعبيراً صادقاً عن أرادتهم ، ويصبح كتابها في الميزان الشعبي أعلاماً للكلمة الحرة المقاتلة دفاعاً عن الشعب يمثلون مكانة رفيعة ووطيدة في قلوب الجماهير ، وتدين الملايين لهم بالحب والوفاء تضعهم بين ألمع صفحات التاريخ .
– 5 –
بعض في زمننا الرمادي ، ظاهرة القلم الزئبقي الذي لايستقر به مقام ، يتذبذب بين الوئام والخصام ، يكتب كل أنواع الكلام ، فهذا مقال بالمديح وذاك سب قبيح ، يتراقص ببضاعته تلك في سوق النخاسة ليصبح في خدمة من يدفع أكثر ، ويجند نفسه لمن عطاؤه أكبر ، ذليلاً يلهث حيث يكون الدينار والدولار ، يبيع المدح والقدح دون أي اعتبار ، لشرف أو عار ، فمدح عمر كسب زيد ، فالكلام سوق بلاقيود.