في السابع عشر من اب عام 1990،وبعد اقل من عام على بلوغه الستين،غادرنا اب الرواية العراقية الحديثة غائب طعمة فرمان،واوري الثرى في مقبرة ترويكوروفو بضواحي موسكو!لقد رحل فرمان المثقف الحر والاديب والروائي والناقد تاركا خلفه ارثا روائيا فنيا وسياسيا وطنيا لم يهادن يوما الطغاة،وموقفا جسورا في مواجهة الحكام المستبدين،اصطف دائما مع قضايا شعبه لنيل الحرية والتمتع بحياة كريمة ووطن مزدهر،محتفظا بمكانته العلمية،زاهدا عن الرزايا،ومبشرا بثقافة السلم!وكانت رواياته بحق موسوعة تعكس حياة العراقيين ومعيشتهم في القرن العشرين وبحبكة فنية رصينة نشم منها رائحة التنور والبيت واجواء الازقة ونجد فيها تاريخ الروح البغدادية،وتطل من خلالها النماذج والصور الحية لابناء الشعب ومن كل شرائح المجتمع،فاكتنزت ذاكرتنا سليمة الخبازة وحسين وابن الحولة والسيد معروف…!
يكتب الاديب الراحل مهدي محمد علي:”حين ظهرت رواية “الرجع البعيد” لفؤاد التكرلي شكلت الروايتان “النخلة والجيران” و”الرجع البعيد” ثنائياً أشبه بالعنوان الرئيس للفن الروائي العراقي،دون ان نبخس حق اسماء لم ترد هنا.يبدو ان غائباً اكتشف موهبته الروائية،بعد عشرات من القصص القصيرة،فتوالى نتاجه الروائي،فكانت:خمسة اصوات 1967 ـ المخاض 1974 ـ القربان 1975 ـ ظلال على النافذة 1979 ـ آلام السيد معروف 1982 ـ المرتجى والمؤجل 1986 ـ المركب 1989″.
منذ منتصف الخمسينيات تذوق غائب طعمة فرمان حياة الغربة عن الوطن بحلوها ومرها فكانت الغربة بالنسبة له حبا وشوقا الى وطنه،وكانت امتحانا قاسيا للوطنية عنده،حتى استقر في موسكو!وقد انجزت ارملته الاستاذة في العلوم الفلسفية انا بتروفنا فورمانوفا كتابا بالروسية عن حياة غائب طعمة فرمان في موسكو.
رحل الكاتب والاديب غائب طعمة فرمان،والشبيبة العراقية واجيال النصف الثاني من القرن العشرين لن تنسى بسهولة اعماله واعمال معاصريه من عمالقة الادب
الانساني والواقعي في المعمورة،والتي لبت وتلبي تعطشهم الآيديولوجي والأدبي،في احلك الظروف السياسية والمعيشية التي مروا بها.فرمان كان في صدارة قائمة الكتاب المفضلين لدى شبيبتنا،في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم وحقبة دكتاتورية صدام حسين،الى جانب ايتماتوف ودوستويوفسكي وبوشكين وتولستوي وشولوخوف وغوركي وتشاكوفسكي وحمزاتوف وكوبرين وهمنغواي وجاك لندن وامادو وماركيز …،وسرعان ما اجتذبتهم نبراتهم الفريدة وأسلوبهم المتدفق وشخصياتهم الآسرة.
سحرت واقعية ادب غائب طعمة فرمان شبيبتنا التي عاشت قسوة الطبيعة والحياة الاجتماعية معا!والتحولات التاريخية في المجتمع العراقي،والرّعب الصدامي،والتي كدت في البحث عن القيم الأخلاقية الأكثر تماسكا…سحرت واقعية ادب غائب طعمة فرمان شبيبتنا التي قاومت الارادوية المنفلتة والعسف ومحاصرة الديمقراطية والحجب المعلوماتي ومحاولات غسل الذاكرة والضغوط الادارية والطرد الجماعي من العمل والمماحكات والارهاب والتدخل بالحياة الشخصية للناس وصياغة عقل وضمير المواطن والزامه بالطاعة والولاء،والتهجير القسري للملايين والعسكرة،ليجر ازاحة رواد التطور الحضاري عن مراكز القيادة واتخاذ القرار وليحل محلهم جهلاء الحزب الحاكم والطائفة الحاكمة واقرباء واصدقاء الطاغية من محترفي التجسس ذوي الولاء المطلق لرموز النظام،وتتحول المؤسسات الى مقرات للخلايا الحزبية والميليشيات ولجان التحقيق واوكار للتجسس والاعتقال وكتابة تقارير الوشاية..
لو كان غائب طعمة فرمان حيا اليوم ماذا كان سيكتب عن احوال بغداد والعراق اليوم؟!عن تهميش الثقافة العراقية والمبدعين الحقيقيين وشراء ضمائر كتاب آخرين واقصاء العلماء والأدباء والفنانين الرائعين،وانحدار مستوى الثقافة التي بناها المئات من المثقفين لأجيال الى ادنى مستوياتها،عن محاولات غسل ذاكرة الشعب الوطنية ليباع العراق الانسان والعراق الوطن في سوق النخاسة المحلي والأجنبي!عن تراجع الثقافة الانسانية بوجه عام في العراق بفعل الكارثة السياسية والاجتمااقتصادية التي اتسمت بأسوأ ما في القاموس الظلامي والاستبدادي والتكفيري والقمعي من ممارسات فعلية بسبب التمادي في الاستهتار واللاابالية والازمات السياسية المتتالية.
ماذا كان سيكتب غائب طعمة فرمان عن اطلاق النار على الحرية الشخصية للمواطن بقصد ارهابه وحرمانه من الحصول على الحاجات الروحية الثقافية مما تبقى من خطابات الجمال والابداع التي تعالج همومه وتداوي جراحاته،ويبقيه اسير الاستلاب والقمع الروحي النفسي والفكري الثقافي،فيضعه خارج دائرة عصرنا وتطوراته الانسانية؟!
الثقافة الوطنية،ثقافة غائب طعمة فرمان،في بلادنا…اصيلة في نهجها النزوع الى التغيير وفق متطلبات تطوير التجربة التاريخية،وفضح طرائق تبرير النكوص الى الماضي وتقديسه ونفيه وتفريغه من محتواه بدعوى تجاوزه والانتقال من اصولية مقنعة الى اصولية سافرة،وفضح المواقف الجامدة الآيديولوجية الرجعية باطلاق العنان للفكر وتحريره من اسر الادلجة.والثقافة الوطنية،ثقافة غائب طعمة فرمان،في
بلادنا …اصيلة بفضحها النهج الذي يقاوم رياح الانفتاح والتغيير ومحاولات التكيف والاندماج مع متطلبات العصر،والنهج الذي يترجم النصوص الدينية ويفسرها على هواه وحسب مصالحه ليستخرج منها خطابه السياسي والتعبوي الذي ينوي به السيطرة على المجتمع وتحويله بالقوة والعنف الى مجتمع يتماشى مع مخططاته ورؤيته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والآيديولوجية،اي برامج لا تختلف عن التوجهات الدكتاتورية ولكن بأوجه والوان واسماء مختلفة.الثقافة الوطنية،ثقافة غائب طعمة فرمان،في بلادنا…اصيلة بفضحها نهج الهيمنة الشمولية على تفكير الرأي العام والسيطرة على ردود افعاله عبر عملية غسل الدماغ المنظمة والمدروسة،واصيلة بفضحها الحركات والافكار السياسية التي تسعى الى اقامة الدولة الاسلامية والدولة الطائفية بهذا الشكل او ذاك،كما هي اصيلة بفضحها محاولات غسل ذاكرة الشعب الوطنية وبفضحها محاولات اعتقال العقل واغتياله وممارسة الارهاب ضده – العمل الخطيرالذي ينذر بالكارثة المحدقة لصالح تسيير الناس وتدجين وتضليل عقولهم وفي السعي للابتلاع الحكومي لوسائل الأعلام!
رحل غائب طعمة فرمان لكنه باق من خلال اعمال تركها للاجيال واستحق عليها لقب اب الرواية العراقية!سيبقى غائب طعمة فرمان وابطال رواياته احياء في قلوب شبيبتنا الديمقراطية التي تتطلع الى وطن حر وشعب سعيد!وغد تسوده ثقافة الأمل والاحتجاج والنزاهة والثقافة المطلبية!الثقافة الحرة والمنفتحة التي يعبر من خلالها المثقف عن عالمه الابداعي والتي تنمي فرص تطوير المواهب والعقول الشابة الطامحة الى التعبير عن عالمها الفكري والاخلاقي والاجتماعي!افق يلوح باحياء الثقافة العراقية التي قادها علماء وادباء عراقيون نار على علم!سيبقى لسان حال الشبيبة الديمقراطية”لا اعمار للوطن من دون اعمار الثقافة””مجدا للمثقف العراقي شهيدا وسجينا وملاحقا عصيا على التدجين!”.سيظل غائب طعمة فرمان معلما في الثقافة العراقية والعربية الحديثة،وذكراه حية في قلوب العراقيين!
عظمة الروائي غائب طعمة فرمان تستحق ان تعلن رئاسة الجمهورية في بلادنا ان يكون عام 2015،ذكرى ربع قرن على رحيل هذا الكاتب الفذ،عام غائب طعمة فرمان!فلتتضافر كل الجهود الى هذا المسعى النبيل!