23 ديسمبر، 2024 4:11 ص

عندما يفسد القلم

عندما يفسد القلم

الملاحم الإعلامية التي صنعتها قنوات الجزيرة والعربية اثناء الازمات الدوليه وخاصة العراقية ما بعد 2003 والازمه السورية، واليمنية، تفسر الاحتقان المزمن للعقد الحضارية في الوعي الإداري للأعلام العربي، وتجلي واضح للروح المأزومه والاتقاد الجنوني للكبرياء المزيف المدفون في رمال التاريخ، والذي عجزت جميع المخمدات الصناعية، وحقن التحديث، في كبحه او التخفيف من حدته وضراوته.
بعد النصف الثاني من القرن العشرين، أصبح بعض العرب يملك القوة والمال والسلطة ومنظمة الامم المتحدة وجامعة الدول العربية، وفتاوى القتل الجماعي، فازدادت حاجته لأعلام يُسَوِق ذاته المفككة سواء كثقافه محليه او نظام سياسي، ليُسَطِح ويخدر وعي المتلقي بضحالة عمقه المعرفي، فاحتقن الوعي المصَّنع في قنوات الاعلام المشبوهة الى درجة الانفجار. فالأزمات الاجتماعية وصدامها مع منظومة القيم جعلت الفرد والسياسي العربي يبحث عن متنفس يجسد طاقته السلبية فكان سقوط بغداد في 2003 فرصة لا مثيل لها للنحيب والبكاء على الاطلال وتحريض العقول الخاملة الطافيه على سفوح الحضارة وحشدها باتجاه جهنم، ترافق ذلك مع احياء البعد التاريخي للخلافة الإسلامية والباسها بثقافة الشيطان في احياء الفتن وافتعال الحروب. اجتمعت كل هذه الأمور بيد الاعلام العربي فقط ليجسد الحلم والبعث المجيد للعرب، اما ما عداه فلا يهم، كالدماء التي سالت وتسيل. والخراب الذي حل بالعراق والمناطق الأخرى، والخسائر التي لا تحصى في ثروات المنطقة.
في الوطن العربي يُحتَرَم الجنون الاعلامي بشكل استثنائي، ويحتفى به، لأنه من بين الاشياء القليلة المسموح بتعاطيها، فيوجه هذا الجنون والنفايات الإعلامية الى جيوش من العاطلين، والى ملايين الضائعين في وعيهم الفوقي , و موتورون بعقد حضارية صنعها منبر او كتاب، وغالبا تكفيريين بمهارة المحاربين في الفتوى كدمى تحركها السلطة . حتى الطبقات التي نالت حضا” من المعرفة تجدها فارغه حد اللاشيء، وتفتقد للعقل المعياري وذوقية الاختيار المتحضرة، الا القلة القليلة التي يسدل النهار عليها سريعا، فلا تراهم الا قتلى او مغدورين.العقل الذي يقود الاعلام العربي محصور بين اطارين، الاول الفكر التبريري، وهو قراءة الحاضر ومحاكاته فيبرّر وقائعه بمقاربته مع الماضي وبالمقايسةِ معه، دونَ أنْ يُفعِّل العقل النقدي بصلاحيته للحاضر او المستقبل. اما الثاني هو الفكر التكفيري، وهو فكر إقصائي، إلغائي، موغل في الماضي لا يكترث بالواقع، وعلاقته مع الآخرِ، المختلِفِ في فكرِهِ وخطابِهِ، تكون دائما” علاقة نفي مطلق وتكفير في أغلبِ الأحيان. وهذا ما نشعر به تجاه معظم قنوات الاعلام العربي، فنحن كعراقيين مثلا نشعر بخطر كبير يهدد وجودنا القومي في محيط اعلامي يرى العراقيين موتى قبل ان يُقتلوا ,و يحملهم مسؤولية انهيار النظام السابق , والحروب الطائفية، رغم ان الجميع يعلم كيف تم احتلال العراق وكيف تم زرع الشقاق في النسيج الاجتماعي العراقي بعوامل لا قبل للشعب المسكين بجمعها وانتاجها.
يتذكر العالم مشهد انهيار الجيش العراقي في حرب الكويت في 1991 امام قوة النيران الأمريكية الهائلة وكيف تم استخدام الاعلام في صناعة ايقونة الحرب النفسية وهزيمة الجيش العراقي تقريبا” بلا قتال، حيث تحولت (جيسيكا لنش) الجندية الأمريكية الى بطلة تهزم الرمزية العربية، والجيوش العربية، وكيف حول الاعلام الغربي مشهد هاشم سلطان قائد الجيش العراقي وهو مطأطئ الراس في كل مره يتكلم القائد الأمريكي فيها بموافقته على شروط الاستسلام المذلة، الى هزيمه حضارية بكل المقاييس لأسياد الصحراء. هذه الصور استغلها الاعلام الغربي المحترف وصنع بها ابطاله الوطنيين. فطُبِعت صور جيسيكا لنش في كل مكان لبعث روح الامه الأمريكية وتجسيد قوتها اللامتناهية في الأفق المنظور.في بلادنا الاعلام يلعق احذية الديكتاتوريات ويسبح بحمدهم، ويتنازل عن ابسط قواعد المهنة، وهي ظاهره تكاد تكون عربيه بامتياز حيث لا تسمح القيادات العربية بأعلام محايد وحقيقي يعادل بين شرف المهنة والحقيقة ولا يسمحوا ببروز رموز وطنيه او ابطال شعبيين مثلا” كي لا يغطوا الصورة المثالية لهيبتهم امام الشعب. ولنا امثله في عبد الحكيم عامر وعبد الناصر وصدام حسين مع عدنان خير الله طلفاح، وغيرهم الكثير. فالأعلام الجماهيري المؤثر حالة افرزتها العولمة وانتشار الفضائيات وتنامي التهديد اليومي في اجواء التجمعات الشعبية بعد ان كانت القيادات تتكتم على الاخطار بحجة عدم اقلاق الجمهور وارهابه، الان أصبح المواطن يحلل الحدث بنفسه، ويواجه الخطر بنفسه ايضا.هناك عدة عوامل ساهمت بمجموعها في تعطيل الدور الفاعل للأعلام العربي، أولها عدم استقلالية وسائل الاعلام، فأعلام الأنظمة يُكرس لتلميع وجه النظام واستخدام الحقائق والاحداث في تسويق صورة القائد الرمز والشيخ في الوعي الجماهيري، وحتى لو كانت بعضها مستقلا” فأنه سيذعن تحت ضغط النظام السياسي والإرهاب الامني. والعامل الثاني برأيي هو الصورة القبيحة التي خلقها الاعلام العربي في عقل المتلقي فأنتج عزوفا هائلا” للمواطن العربي عن متابعة وسائل الاعلام وبرامجها الثقافية ونتاجها المعرفي نتيجة الكذب الصريح والغش المباشر وقلب الحقائق والزيف غير المستور في تحويل الهزائم الى انتصارات بحيث ان المواطن العربي مثلا لا يجد في الجريدة الرسمية خبر موثوق غير اخبار الوفيات, كما ان طاعون استنساخ البرامج الغربية وجعل الترفيه المبتذل الهدف اول لأي قناه تلفزيونيه اسدل الستار على اخر الفرص التي يمكن للأعلام ان ينتهزها ليطبع اثره كصانع للوعي الجماهيري والثقافة العامة.
العامل الثالث هو محددات النظرية الإعلامية وفلسفة الأداء الإعلامي حيث ان الثقافة الإعلامية لأنجح القنوات الفضائية العربية تعتمد على العمق التاريخي للعقيدة الإسلامية او النظرية الإسلامية في الاعلام والتي تقوم على العزلة والاكتفاء بإسهامات السلف الصالخ, حيث تشكل مؤلفات ابن تيميه ومحمد ابن عبد الوهاب حجر الزاوية في اي توليف ثقافي موجه, وهي المادة الأساسية في الشحذ الاعلامي للهمم المثقوبة بتفاهة المقاصد , وهي مصدر اندلاق السموم التاريخية في الجسد المتعطش للحضور والتواجد من جديد , سواء من خلال الفتوى ودعاوى التجديد او من خلال شيطنة الاخر وتشويه قيمته الحضارية ,وكأنها أعادة تجسيد لحلم الانتصار الاسلامي الاول على الفرس والروم ومحاولة حقن العقل الجمعي العربي بمورثات تنشيطيه لبعثه من جديد وفق الرؤية الوهابية.
العامل الرابع هو اللامبالاة وعدم الثقة في البرامج الحوارية سواء السياسية او الثقافية والتي تحمل بصمات العقلية البرجوازية إذْ ان معظم طروحات المثقفين العرب تحاكي بابتذال مثيلاتها في الغرب ولا تعكس في اطارها الحقيقي حجم المشاكل التي يعاني منها المتلقي. حيث يدرك المواطن العربي ان المتحاورين في البرامج الثقافية والتربوية في القنوات العربية يلهثون وراء مصالحهم وانهم على استعداد للتخلي عن الحقيقة واقدس الاشياء من اجل ذلك لانهم يرون من هو اهم في موقعه السياسي وقد ضيع حقوق الشعوب العربية , فمثلا” في العراق تم نهب منظم لميزانيه تقدر بأكثر من الف مليار دولار على يد نخبه سياسيه تحمل اعلى الشهادات من ارقى جامعات العالم, فكيف يثق المتلقي بنخب ثقافيه لازالت ذاكرتها ترتبط بالولاء للأنظمة الديكتاتورية, كما انها لازالت مشبعة بالفساد الثقافي الى الذقون.
للأعلام تأثير هائل في انتشال الافراد والشعوب من الحضيض الى الكبرياء القومي، فالأعلام اداة غير محايده في الترميز الفني للايدلوجيا او الصراع، فعندما يكون الاعلام محاطا” بأدوات الفن والعلم، يصبح أداة بالغة الخطورة في البناء والتدمير الاجتماعي. فلإعلام يجب ان يعمل لمصلحة الشعب ولا يبرر السلطة، بل يبرر ويعزز الحقيقة بين المتلقين، ويسوق للقيم العليا، وثقافة الإعلامي هي من ثقافة المجتمع الذي انتجهم. الاعلام المسؤول هو الخطوة الأولى باتجاه الحضارة، فعندما تكون مسؤولية الإعلامي كمسؤولية المصلح الاجتماعي تتحول الأفكار ببساطتها الى إنجازات تليق بالإنسان.
[email protected]