22 ديسمبر، 2024 4:03 ص

عندما يتكلم الجندي المجهول – 7

عندما يتكلم الجندي المجهول – 7

الحلقة رقم – 7 –
…” حسنا..يجب أن ندخل الجامع الكبير فوراً ونتخذ لنا مكاناً للنوم.. وبعدها سنرى ماذا نفعل؟”. دون أن يتفوه أحد بكلمة توجهنا الى الجامع الكبير. كان المكان غاصا بالجنود لدرجة لايمكن تصديقها. عندها قال حسين:

…” ياالهي متى جاء كل هؤلاء الجنود..وهل سنجد لنا مكاناً للنوم ؟”

بسرعة البرق تقدم جعفر وجلس على ألأرض وسط الجامع المؤثث بالسجاد. قال بسرعة” تعالوا ..كل واحد يستلقي على ظهره كي يكون هذا المكان كافيا لمنامنا..إقتربوا من بعضكم البعض كي لا ندع مجالاً للأخرين للزحف على مكاننا” .فعلنا ما طلبه منا ووضع كل واحد حقيبته تحت رأسه كوساده. شعرتُ أن عظام ظهري تصرخ من ألألم وإن كل عصب من أعصابي يهتز بعنف. ونحنُ نحدق في سقف الجامع قال جعفر:

…” إسمعوا ..نحن ثمانية..سنكون أكثر من إخوان منذ هذه اللحظة..سنرتب حياتنا حسب الظرف المفروض علينا..سنتوزع الى قسمين.عندما يخرج القسم ألاول الى الشارع يبقى القسم ألأخر هنا كي يحافظ على المكان ولايدع ألأخرين يقتربون من مكان إستقرارنا , إن ترك المكان يعطي فرصة للأخرين للجلوس فيه وبذلك سوف نفقده الى ألأبد.”. كان جعفر اصغر مني بعدة سنوات ولكنه كان قائدا من الدرجة الممتازه. كان شجاعا وكنت أستمد منه المعنويات أحيانا. كان ينظر الي بطريقة لاتخلوا من التوتر ممزوجة بالأعجاب بعض الشيء. كان يرتدي ملابس القوات الخاصة على الدوام..ربما لأنه أحد أفراد حماية السيد آلآمر؟ بعد لحظات جلس جعفر مستقيماً وهو يقول:

…” أنا وانت وباسم وسلمان سنكون المجموعة الأولى . المجموعة الثانية تبقى هنا..سنحاول شراء بعض المأكولات ونقتسم ثمنها ..ستكون معيشتنا هكذا الى أن تفرج الحالة”.

سرنا في شوارع السليمانية المزدحمة جدا. حركة المرور مبعثرة ويبدو ان قانون المرور قد ضاع الى ألأبد في هذه المدينة. لم أشعر انني أسير في مدينة عراقية حديثة وجميلة. أحسست أنني تائه في مدينة فوضوية ليس لها قانون وليست لها طريقه مرتبه للحياة. السيارات تعبر من هنا الى هناك دون مراعاة لحقوق السابله..وابواقها تصم آلآذان دون إهتمام بمشاعرالماره. الناس يعبرون الشوارع دون إهتمام لحركة السيارات الكثيرة..الكل يريد إنجاز عمله دون مراعاة القانون الزمني والطبيعي لحركة الحياة. على الرغم من انني كنت اسير مع ثلاثة من الزملاء دون قيود وفي شوارع مفتوحه..إلا انني شعرت وكانني مكبل بقيود لاتنتهي..أو أنني قابع في سجن حقيقي مرعب. الفتيات الكرديات ينظرن الى العسكريين بشفقه وبنوع من ألأستهزاء أحياناً وكأنهم لاينتمون الى هذه ألأرض الطيبه. توقف جعفر عند أحد المحلات التجارية الكبيرة الغاصة بالمواد ألأيرانية وقال:

…” سنشتري لبن وبعض المعلبات وسوف نتقاسم ثمنها حينما نعود الى الجامع”. وقفت على مقربه منه وقد وضعت يدي في جيبي وأرسلت نظراتي الى ألأفق البعيد يائسا تماما ومحطما من الداخل. أيقظني صوت أحد الباعه المتجولين من كبار السن وهو يصرخ بصوت يقطع نياط ألأفئدة” سبحه..سبحه..سبحه..ممتازه..” إستدرتُ اليه وحدقتُ في عينيه . حركة عيناه جعلتني أرتجف لا بل أرتعب. كان طاعنا في السن وإرتسمت تجاعيد الزمن حول عينيه بشكل حزين. كانت نظراته قد أعادت لي طيف نظرات والدي الذي إحتظنته تربة قرية جرف الصخر عام 1973. أحسستُ ان والدي هو الذي يبيع تلك السبحه. دون وعي قلتُ له” عمو إعطني أطول سبحه لديك”. وبسرعة الوقت راح يبحث عن اطول سبحه بين المجموعه التي كان يحملها في يده اليسرى وقال بفرح:

…” عدد خرزات هذه السبحة مئة + واحد..الف مبروك”. دون أن افاوضه عن السعر أخرجتُ النقود من جيب القمصلة الداخلي ومددتُ يدي نحوه وقبل أن يأخذ النقود من يدي قالت فتاة ترتدي—الجينز—وهي تمسك يدي بقوه:

…” أبو خليل..وكان هذا لقب الجندي في العراق…” ” لاتدفع أي نقود سوف أدفع ثمنها إنها هدية مني لك.”. حاولتُ إقناعها بأن لدي نقود وأستطيع دفع ثمنها إلا انها اصرت على دفع النقود وهي تقول:

…” لايهم أنت غريب هنا ويجب علينا القيام بواجب الضيافة..أنت بعيد عن أهلك وقد تنفعك النقود في مكان ما”. دفعت هي النقود للشيخ وسمعتها تقول لصديقتها” عساها إبخت من كان السبب..أي واحد مهما كان”. أما جعفر فقد كان مشغولاً بنقد بائع اللبن والمعلبات ..إستدار نحوي وهو يقول:

…” فلنذهب ستغيب الشمس بعد لحظات وستكون هذه المنطقة خطرة بعض الشيء. إن زملائنا ينتظروننا وقد اعياهم التعب والجوع.” .

قبل أن نصل الى الجامع مر من أمامنا ثلاثة من ألأكراد المدججين بالسلاح .كانوا يسيرون وقد غطت وجوههم مسحه من الغرور وكأنهم يمتلكون هذه المنطقة منذ آلاف السنين. حينما إقتربوا من أمامنا لم يستديروا وحاولوا أن يخترقوا سيرنا وكأنهم يريدون – التحرش—بنا. لم يبتعد جعفر عن طريقه وظل يتقدم ، وقف ألأكراد الثلاثة أمامه وكأنهم يطلبون منه ألأبتعاد عن طريقهم بَيْدَ أنه ظل واقفاً يحدق في وجه أحدهم. قال الكردي بلهجه عربية غير جيده:

…” لماذا لاتبتعد عن الطريق؟” قال جعفر بغضب:” ولماذا لاتذهب من هناك..هل أن هذا هو الطريق الوحيد؟”. وقبل ان يكمل جعفر كلامه دفعه الكردي بيده بقوة إلا أن جعفر وبسرعة البرق مسك يده بقوة جعلت الكردي يصرخ من ألألم. أما الكردي ألأخر فقد صوب بندقيته نحو صدر جعفر قائلاً بغضب:

…” إتركه وإلا مزقتُ صدرك برشقه من هذه البندقية”. لم يتركه جعفر وظل يحدق في البندقية. قفزتُ نحو جعفر صارخاً”..إتركه ..هل تريد أن تسبب لنا كارثه”. بقيت أصرخ في وجه جعفر طالبا منه ترك يد الكردي..في حين كان باسم يحاول إقناع ألأخر بضرورة إبعاد البندقية عن صدر جعفر. دون سابق إنذار جاء الكردي الثالث ودفعني بقوة نحو حافة الشارع. سقطتُ على ألارض وسقطت نظارتي الطبية وطارت السبحة الطويلة من يدي متدحرجة عند حافة الدكان القريب..وقبل أن انهض شاهدت نفس الفتاة التي دفعت سعرها تلتقط السبحة من ألأرض وتصرخ بلهجة كردية عالية:

…” ألا تخجلون من التعرض لهؤلاء المساكين؟ لو كان لديهم سلاح هل تستطيعون التعرض لهم؟” . الغريب أن الكردي أبعد البندقية عن صدر جعفر. .وجعفر ترك يد الكردي الذي كان لايزال يتألم. جاءت الفتاة الطيبة القلب مسرعة ومسكتني من يدي وهي تقول:

…” لاتهتم أيها ألأخ..خذ هذه هي سبحتك”. عندما أخذتُ نظارتي الطبية وجدتُ أن إحدى زجاجاتها قد إنفطرت. مدت الفتاة يدها وهي تريد أن ترى صلاحية النظارة. قالت على الفور” لاتهتم إنها لاتزال صالحة..سأعطيك ثمنها وتستطيع ان تشتري واحدة من السليمانية.” وبسرعة متناهية أخرجت – 25—ديناراً وهي تقول” أفخر نظاره هنا لاتتعدى هذه النقود”. حاولت أن أعتذر عن أخذ النقود إلا انها قالت بأنها ستمزقها أمامي إن لم افعل ذلك. شكرتها ووضعت النقود في جيبي. حينما عدنا صوب الجامع قال جعفر:

…” لو لم تحضر هذه الفتاة في الوقت المناسب لكنت قد فقدت حياتي مئة في المئة. قررت الموت في هذه اللحظة،لم اتحمل حركة هذا الكردي اللعين. “لم يجبه احد فقد كان كل واحد غارقا في أحزانه الكبيرة. أضاف قائلاً” لقد إشتركت في معارك لا تعد ولا تحصى في كل المناطق الشمالية وكان الموت بالنسبة لي كشربةِ ماء…لقد سأمتُ الحياة في هذه المدينه التائه”.

قلق علينا زملائنا لأننا تأخرنا عليهم بعض الشيء..إضافة الى ذلك كانوا جائعين جدا. ساد الليل ارجاء المدينة وهطلت ألأمطار بشكل غزير فكانت ليلة مزعجه حقا.كنا نتكور على ألأرض بلا غطاء وكانت الرياح تنفذ الينا من خلال النوافذ المفتوحة. إستمرت حالتنا على هذه الطريقة أكثر من عشرة ايام.كانت تلك ألأيام صعبة جدا رغم الحرية النسبية التي كنا نتمتع بها. كانت ايامنا تسير على وتيره واحده مع قليل من الحوادث التي تحدث بين فترة وأخرى.عندما تشرق الشمس نخرج من الجامع..نذهب الى احد المطاعم القريبة لتناول ماعون من الشوربه وقطعه من الخبز. نعود بعدها الى ساحة الجامع كي نجلس في الشمس مستندين بظهورنا الى الجدار. كان أغلب الجنود يفعلون ذلك ويضعون أيديهم على خدودهم كأنهم مشردين من الدرجة ألأولى، صامتين وكأن الطيور على روؤسهم سارحين في أفكارهم البعيدة يحلمون بأختراق جدار الغربة والضياع والرجوع الى أهلهم وذويهم, كنا نجلس سوية جنبا الى جنب في أي مكان نراه مناسبا للجلوس .أحيانا كانت تحدث بعض المفردات ألأنسانية التي لايمكن نسيانها مهما غطتها صفائح الزمن الصعب.يجب أن تُذكر هنا حتى تكون شاهداً على مر العصور. حينما كنا نجلس في الشمس كانت بعض النسوة الكرديات يأتين الينا ويوزعن علينا نقوداً من فئآت صغيرة وحينما كنا نؤكد لهن باننا نملك نقوداً كافية لمواجهة الحياة اليومية ، كن يؤكدن لنا بأنهن يعرفن ذلك ولكنهن يشعرن بأننا سوف نكون في حاجة ماسة الى تلك النقود بعد فترة من الزمن..خصوصا ونحن نعيش بعيدا عن أهلنا.كان البعض منهن يشعرن بضرورة تقديم أي نوع من أنواع المساعدة لنا كوننا عراقيين ومن بلد واحد. عندما يرفض شخص أن ياخذ اي قطعة من تلك النقود فأنهن يلقينها عليه ويذهبن. أحيانا نجلس بعيدا عن الشمس والجدار كي لانتعرض لمثل تلك الحالات التي تزيد من بؤسنا وشعورنا بحالة الضياع التام.كنا نقضي أغلب ساعات النهار في التجول في الشوارع العريضة الطويلة كي نهرب من النسوة اللواتي يأتين الى الجامع للتصدق على الجنود.

بدأ بعض الجنود يعملون في شوارع المدينة وهم يرتدون ملابسهم العسكرية التي لايملكون غيرها. تُشاهد أحيانا جنديا يقف عند منعطف الشارع وهو يحمل – كارتونه… مملوءة بالمناديل الورقية وهو يصرخ بصوت مرتفع:” مناديل ورقية معطره فاخرة” . وتُشاهد مرة أخرى عند حافة الشارع ألأخر نائب عريف وهو يحمل صندوقا من التفاح على كتفه ويصرخ:” تفاح…تفاح..” . وتشاهد نائب ضابط كبير السن نسبيا يحمل عدة علب من السكائر ويصرخ” سومر..سومر..”. كان قلبي يتمزق من الحزن على أؤلئك الصناديد الذين وصلت بهم الحال الى هذه الدرجة المأساوية. هؤلاء المقاتلين الذين إشتركوا في معارك قاسية كثيرة ..يتحولون على حين غرة الى باعه متجولين كأنهم مشردين في عالم ليس له نهايه ويصارعون العذاب من أجل لقمة العيش. في اليوم السابع سأمت من السير في الطرقات كالمعتوه بلا هدف معين..وضجرت من الحديث الرتيب المكرر بيننا كلما جلسنا سوية أو سرنا في الطرقات المنسية. قررت أن اختلي بنفسي بعض الوقت كي أطلق لتفكيري العنان وأهيم بعيدا عن الواقع المزعج. أخبرت الزملاء بأنني سأجلس خارج ساحة الجامع أي من الجهة الخارجية القريبة من الشارع الرئيسي كي أستمتع بدفيء الشمس قبل الغروب.بالكاد وجدتُ لي مكاناً عند زاوية الجدار الذي كان مكتظاً بالجنود الجالسين على ألأرض كالشحاذين. اسندتُ ظهري الى الجدار ومددت قدماي ووضعت قبعتي العسكرية فوق وجهي كي لاأرى أحدأ ولايرى عابر سبيل وجهي.أغمضتُ عيناي محاولاً الرجوع الى الماضي كي أستذكر جزءاً من حياتي الجميلة.لاأدري كم بقيتُ مستلقياً هناك؟ شعرتُ فجأةً أن دفيْ الشمس يسري في جسدي ويرخي أعصابي وأحسستُ أن قوة التركيزفي ذهني قد اصبحت ضعيفه أو معدومة تماماً.عادت لي صورة زوجتي وهي تودعني وتقول:” أنا خائفة ولاتجعل مني إمرأه أرملة “.ثم جاءت صورة ولدي الكبير—ذو الخمس سنوات—تحلق أمامي في الفضاء الفسيح ونظراته تتوسل إلي بعدم الرحيل بعيدا عن البيت.وعادت صورة والدتي العجوز وهي تتمنى أن أخدم في اي منطقه في البلد عدا السليمانية..وماتت بعد ثلاثة أشهر بسبب الحزن الشديد علي وفاضت روحي مع ذكرياتي وإزدادت نبضات قلبي وتدفقت دموعي شوقا على منطقتي. فجأة شعرت بيد تهز قدمي..فتحت عيناي بسرعة. شاهدت إمرأة متوسطة العمر تمسك طفلا بيدها وتقف الى جانبي. قالت:

…” أبو خليل..إذهب الى داخل الجامع..ستمطر السماء..لقد ذهب كافة الجنود الى داخل الجامع..هل أنت مريض؟ بالمناسبة لاتنسى النقود القريبة من قدميك.؟”.نهضتُ مسرعا ووضعتُ قبعتي العسكرية على رأسي. إلتفتُ الى اليسار ، كانت هناك كومه كبيرة من النقود. يبدو أن الماره كانوا يلقون الي بتلك النقود معتقدين أنني جلست هنا للتسول.جمعت النقود ووضعتها في جيبي وعدت الى الجامع. كان الزملاء ينتظرون قدومي بقلق.قال أحدهم:” أين كنت ياأستاذ؟ جاء دورك اليوم لجلب الطعام..أنت وعلي”.قال جعفر:” أنت وعلي تذهبان الى السوق..حاولا أن تجدا لنا شيئا ناكله..أعتقد أن مهمتكما ستكون صعبه بعض الشيء. غابت الشمس وسيكون السوق مقفلا.لو لم تتأخر لكنا ألأن نتناول طعامنا.”. الحقيقة أحزنني كلامه الذي إعتبرته نوع من التوبيخ. الحق معه.كل يوم كنت أتناول طعامي دون أن أخرج الى السوق. توجهت نحو الباب الخارجي مسرعا. تمنيت أن أوفق في مهمتي وأن أجد بعض المحلات التجارية لاتزال مفتوحة ألأبواب. ركض علي الى جانبي وهويقول:

…” إذا لم نجد محلا مفتوحا سيكون موقفنا صعبا أمام الزملاء.” لم أقل شيء سوى أنني تمنيتُ في قرارة نفسي أن نكون عند حسن ظن الزملاء.

ركضنا نحو السوق الخاص ببيع ألأواني لأنه على حد علمي مزدحم طيلة النهار. كان السوق قد سادهُ الهدوء التام.أغلقت كافة المحلات التجارية أبوابها وتحول المكان الى بؤرة مخيفة ومرعبه..يشبه مقبره غطاها الغبار. الحق يقال لقد شعرت بالخوف والحزن وألأرتباك في وقت واحد.الخوف، لأن هذا المكان خطر جدا وقد يتم إغتيالنا من قبل أي شخص دون أن يعثر علينا أحد، والحزن..لأنني إذا لم أجد طعاما سيبقى الزملاء بدون عشاء. وألأرتباك، لأنني ماذا سأقول لهم؟ كنت أسير كالمجنون من زقاق الى آخر الى أن توغلت في أعماق السوق المظلم لدرجة أن علي قال:” أستاذ، الى أين أنت ذاهب؟”. نظرت اليه بعصبية دون أن أنطق بكلمة. بعد فترة صمت قليلة قلت له” لن نعود حتى لو بقينا تائهين هنا كل الليل..يجب أن نجد شيئا ما..” فجأة سمعت صوتا ينادينني من الجهة ألاخرى من السوق المظلم.

…” أبو خليل..” إستدرت ناحية الصوت القادم من خلف الظلام. كانت هناك إمرأة واقفة عند زاوية السوق وقربها طفلة في حدود العاشرة من عمرها. كانت تلوح لي بيدها وتطلب مني التوجه نحوها. قال علي بسرعه” لاتذهب..قد يكون ذلك فخاً لنا. “. توقفتُ في مكاني ورحتُ أوزع نظراتي بينها وبين علي. خشيت أن يكون كلامه صحيحاً..ولكن الفضول دفعني لمعرفة ماتريده مني.قلت على الفور: تعال لنرى ماذا تريد؟”. في البدايه ظل واقفاً في مكانه..لكنه حينما شاهدني اتقدم نحوها إندفع راكضا خلفي وفي لحظات قليلة أصبح الى جانبي. إمراة في الثلاثين من العمر لها مسحه من الجمال..ترتدي ملابس كردية براقة وعباءة عربية سوداء. قالت بلهجة كردية سريعة لم أفهم منها اي شيء إلا ان الطفله قالت بلهجه عربية ضعيفة ولكنني فهمت ما كانت ترمي إليه.

…” ماما تقول … هل لديك كيس نايلون كي تعطيك هذا الطعام؟ ” أخبرتها بأنني لاأملك أي كيس. عادت الطفلة راكضه الى الباب القريب منها وراحت تطرقه بقوه وحينما ظهرت فتاة في مقتبل العمر تحدثت معها بسرعة..في النهاية حصلت الطفلة على كيس نايلون أعطت الكيس الى أمها وراحت ألأخيرة تُفرغ قدرا من الدولمة داخل الكيس. راحت المرأة تتكلم بالكردية والطفله تترجم لنا.” ماما تقول أن هذا العشاء لكم. إنها خرجت تبحث عن أي شخص يمر من هنا كي تعطيه هذا الثواب بمنسبة حلول شهر مضان المبارك وأمي ستكون سعيده إذا قرأتما سورة الفاتحه على أرواح عائلتها بعد تناول الطعام”.

أسكرتني رائحة الدولمة وبدأت أفرغها بيد مترجفه في الكيس وأنا ادعو لها بالخير والمحبه. قالت الطفة” ماما تقول يجب أن تعودا بسرعة كي تتناولوها حارة “. عدنا الى الجامع بسرعة البرق، وأنا أركض كنت أقول لعلي” ألم أقل لك لاتحزن إن الله معنا..وهو كفيل بالأزاق..ويرزق من يشاء”. كان بقية الزملاء واقفين عند الباب الخارجي للجامع ينتظروننا قلقين وحينما دخلنا صرخ جعفر”

…” ياالهي، لقد تأخرتما ..قلقنا عليكما كثيرا”. عندما سلمته ..الدولمة..قلتُ بأنتصار” خذ هذا من عند الله..طعامنا هذا اليوم مجاني..لن ندفع أي شيء..إنه حار جدا”. أخذ الكيس مني مذهولاً وبسرعة البرق أخرج قطعة صغيرة من النايلون من جيبه ثم فرشها على ألارض وأفرغ الطعام عليها وصاح ” ياإلهي..دولمة؟ إن هذا لشيء عجيب!!. ” ورحنا نأكلها بصعوبة لشدة حرارتها..فجأة تذكرتُ والدتي رحمها الله وكيف كانت تطبخ لنا مثل هذا الطعام.. وفاضت روحي ولم أعد أواصل ألأكل. وذهبتُ لأغسل يدي في مغاسل الجامع ودخلت المرافق الصحية بحجة الوضوء ورحت أبكي وأبكي وأبكي الى أن جفت دموعي وشعرتُ ببعض ألأرتياح. كان الزملاء قد جلسوا في أماكنهم وسط الجامع وقد وضع كل واحد منهم سيكارة في يدهِ وراحو يتهامسون بحديث متقطع حتى ساعة متأخرة من الليل.

يتبع…….