19 ديسمبر، 2024 12:25 ص

عندما يتكلم الجندي المجهول – 6

عندما يتكلم الجندي المجهول – 6

الحلقة رقم – – 6
بدأت قوافل أخرى من الجنود تتوافد على الجامع وكأن ألأكراد كانوا يخططون لجلب المزيد من الجنود الى ذلك المكان في إنتظار خطوه أخرى. في لحظة تفكير بعيدة عن المكان..شاردا مع أحلامي ومعاناتي..شاهدتُ شخصاً يرتدي الملابس العسكرية الخضراء وقد دل مظهره الخارجي على أنه رفيق حزبي يحتل مكانه مرموقه قبل حدوث هذه ألأحداث. إقترب عمره من الخمسين، ذو لحيه بيضاء ووجهاً مدوراً وكأن العز قد رسم معالمه عليه بشكل ملحوظ. جلس الى جانبهِ ملازم أول طيار دلت ألأحاديث الهامسه بينهما على أنهما اب وولدهِ. بين فترة وأخرى يهمس الشاب في اذن أبيه:

…” لاتخف ياوالدي..لن ادعهم يمسوا شعره واحدة من رأسك حتى لو فقدتُ حياتي..تحلى بالصبر وأترك الباقي لي”. كان ذلك الحوار الهامس بين ألأبن ووالده قد رسم في قلبي نوعين من ألأحاسيس : ألأول…شعرتُ بشفقه على ألأب وهو ينظر الى ولدهِ الطيار وقد إرتسمت في عينيه علامات رعب لاتوصف. كان ينظر الى ولده بصمت غريب وكأنه يودعه الوداع ألأخير. والشيء ألأخر شعرتُ أن موقف هذين الشخصين خطر وأن تواجدي الى جوارهما قد يسبب لي نوعا من المشاكل غير المتوقعه. فكرت بالنهوض والجلوس في مكان أخر قد أجد فيه متسع من الوقت للتفكير وألأبتعاد عن عناصر ألأثاره والمخاطرة..إلا ان هناك دافعاً مباغتاً دفعني للمكوث قليلاً ومتابعة مايجري بين ألأب وإبنه.

وأنا في خضم ذلك ألأضطراب دخل عدة أشخاص أكراد مدججين بالسلاح وقد ظهرت وجوههم كثيفة الشعر. وقفوا خلف رجل لايقل عنهم قسوه وصرامه. أخذ الرجل يدقق النظر في كافة وحوه الجنود الجالسين..عم المكان صمت رهيب وكأن يوم لحساب قد حل..راح يفرك لحيته بيده وكأنه كان يستجمع قواه الفكرية لأيجاد الضاله المنشودة التي كان يبحث عنها في هذا التجمع البشري المكتظ. شعرتُ أن قلبي يكاد يقفز من بين ضلوعي حينما مسحني الرجل بنظراته الخاطفه..ولكنه إبتسم فجأة وهو يقول بتهكم:

…” آه..أنت الرفيق الحزبي الذي كنتُ أبحثُ عنه منذ زمن طويل. سوف أنتزع كل شعره من شعرات وجهك ألأبيض”. راح الرجل المسكين ينظر الى الكردي بطريقه تمزق نياط ألأفئده. كان يرتعش تماماً وقد غطى وجهه إصفرار شديد وكأن الموت قد أصبح بالقرب منه. أما الضابط الطيار الشاب فقد بدأ يتوسل بطريقه حطمت قلبي تماما :

…” أنا في شاربك..أقسم لك أن والدي لم يفعل أي شيء.أنا إبنه الوحيد. أمي وزوجتي تنتظران خارج الجامع.لاتحاول إيذاء والدي. خذني مكانه إن كان هذا يسعدك.إتركه فقط”.

شعرتُ برغبه شديدة للتقيؤ..أغمضتُ عيناي كي لااشاهد مايجري أمامي..كم تمنيتً أن اصرخ بأعلى صوتي” لاتتوسل أيها الطيار الشاب..أنت واحد من الصقور الذين كانوا يجوبون سماء الوطن في زمن الحروب الماضية..أنت واحد من الرجال الذيت لايهابون الموت. نعم..إن والدك في لحظات الموت..لكن لاتتوسل.إنك تحطم أعصابي وأنا الجندي البسيط. أرجوك..إتركهم يمزقون والدك ويمزقونك..ولكن لاتتوسل هكذا.” بيدَ أن الغصه القاتلة كانت قد أخرستني وجعلت الكلمات تتجمد في حنجرتي . بقيت أراقب المشهد عن كثب. مشهد لايمكن أن انساه مادمت حياً. تقدم الرجال الذين كانوا يقفون خلف قائدهم. سحبوا الرجل مع ولده الطيار بعنف.أغمضت عيناي كي لاارى الطيار وهو يحاول تثبيت غطاء رأسه العسكري حينما دفعه أحد ألأكراد، وسقطت …البيريه…على ألأرض. لم يلتقطها أحد ولم يسمحوا له بالتقاطها ووضعها على رأسه مرة أخرى. حينما أصبحوا خارج الجامع تطلعتُ الى البيريه وقد سحقتها ألأقدام. كانت بالنسبة لي تمثل كل تاريخ الجيش العراقي. شعرتُ أن دموعاً حاره تحرق عيناي ورحتُ أهمس في نفسي دون أن أظهر صوتاً مسموعاً :” أيها الشرف العسكري المسجى على ألأرضِ بلا حراك. أيها الوطن المثخن بالجراح، تئن بصمتٍ دون سواك. أيتها ألأرض الطيبة، هوى الصقر على ألأرض بلا حراك. ماذا سيقول التاريخ عن شعبٍ أكل بعضهم البعض وتهاوى الشرف العسكري على ألأرض بلا حراك.”

في لمح البصر سمعت رشقه لا بل رشقات من بنادق وصرخات نساء جعلتني أحترق رغبه للخروج صوب بوابة الجامع.كان الرفيق الحزبي ملقى على ألأرض وقد غطت الدماء كل بقعة من بقاع جسده وتهاوت جثة الضابط الطيار فوق صدر والده وإمتدت يداه تحتضنان رقبة والده وكأنه يحاول إنقاذ والده في أخر لحظة. كانت زوجة الشاب الطيار تلطم وجهها وتصرخ بشكل يمزق شرايين القلب وتندب حظها الذي دفعها الى هذا القدر المحتوم. أما زوجة الرفيق الحزبي …والدة الطيار…فقد كانت تمزق شعرها وتلطم خدها وتصرخ بصوت يُرعب القلوب. وقف بقية ألأكراد الذين إشتركوا في إطلاق الرصاص ينظرون بانتصار..الى رئيسهم.. وقد ظهرت على وجهه إبتسامة تفاؤل. لم أعد أستطيع تحمل المشهد فعدت الى داخل الجامع هربا من ألأنهيار النفسي. كان قلبي ينبض بسرعة وأنا أجلس في نفس الزاوية التي كان الرفيق الحزبي يجلس فيها. رحتُ أنظر الى المكان الشاغر الذي كان يجلس فيه الطيار الشاب وقلتُ لنفسي:

…” ياالهي ..هل هذا واقع أم خيال؟ قبل لحظات كان إنسان يجلس هنا وكانت تعتريه آمال وأحلام لأنقاذ والده وفي لمح البصر تحول الى عدم..الى جثه هامده.طارت روحه الى الفضاء الفسيح. لو كان ذلك الطيار على قيد الحياة لكانت أمامه فرص كثيرة ..من يدري قد يغير وجه التاريخ؟ يالسخرية القدر.

مضت ساعة بعد منتصف النهار..فجأةً تحول المكان الى بؤره من الضجيج والحركة الملحوظة. صدرت دمدمات مكتومة وأصوات غير مفهومة عمت أرجاء المكان. اخذ البعض منهم يضع غطاء راسه العسكري والبعض ألاخر يعدل من وضع ملابسه وكأنهم يستعدون للرحيل الى مكانٍ ما. دون سابق إنذار دخل رجل كردي ذو صوت جهوري وملابس متسخة يحمل رشاشة في يدهِ وشرع يصرخ بصوتٍ مرتفع:

…” إنهضوا جميعاً وتوجهوا الى السيارات.سوف ننقلكم الى السليمانية.ستكونون في مكان أمين”. بدأ بعض ألأكراد المدججين بالسلاح يدفعون الجنود وهم يتلفظون بكلمات غير محببة. تجنبا ً للأهانه وفي محاولة للحفاظ على الجزء القليل المتبقي من الكرامة إندفعتُ بسرعة مع الحشود المندفعة بأتجاه الباب الخارجي للجامع. كان الجنود يتدافعون لوضع أحذيتهم العسكرية في أقدامهم ومثل بقية الجنود إندفعتُ نحو حذائي العسكري الملطخ بالأوحال إلا انني قبل أن أضع الحذاء الثاني قفزتُ الى الخلف مذعوراً كأن مساً من الجن كان قد تلبسني. نظرتُ الى الجسد المسجى على ألأرض وقد غُطِيَ ببطانية سوداء.ياالهي لقد سحقت قدمي جثث أحد الجنود الذين لاقوا حتفهم قبل قليل برصاص ألأكراد. لازالت ذكرى تلك اليد عالقه في ذاكرتي حتى لحظة كتابة هذه السطور..كان ملمس اليد ناعما جدا وكأن الجلد قد ذبل تماما.مسكين ذلك الجسد المسجى على ألأرض بلا أهل ولاأصدقاء..ومسكينه هي والدته. وصدق” الحق” حينما قال” وما تدري نفس بأي أرضٍ تموت”. ركضتُ نحو سيارة ..ألأيفا..الواقفه عند باب الجامع. تسلقتها بصعوبة فقد كان التعب الجسدي والنفسي قد اخذ مني مأخذاً كبيراً. كان السائق يرتدي الزي الكردي مما يدل على ان كافة السيارات العائدة للدولة هي ألان في قبضة ألأكراد. سارت السيارة وسارت معها ذكريات الماضي ومعاناة الحاضر. جالت نظراتي المرهقه هنا وهناك تسجل او تخزن لقطة ضائعه هنا وحركة إضطراب هناك كي تخزنها في العقل اللاواعي لتعيد سردها للاجيال القادمةعلى مر الزمن وتعاقب الأيام. الجو في كركوك ربيعي ولكن الجو العام للمدينة وشوارعها يرمز الى شيء آخر غير الربيع..فقد كام الجو دموياً صارخاً في كل زاوية تنتقل اليها نظراتي. جثث الجنود في كل مكان..ياالهي..هناك عند حافة الشارع عدد من جثث الجنود الممزقة..تدلى رأس أحدهم نحو ألأسفل بينما كان جسده على حافة الشارع.منظر مقزز يثير الرعب ويحرك كل خيط من خيوط ألأنسانية. وضعت يدي فوق وجهي كي لاارى تلك المناظر المؤثرة. تقدمت السيارة تشق عباب الهواء وازداد اضطراب السكان..تدفقت مئات من العوائل تخرج راكضة من بيوتها، البعض يحمل معداته المنزلية والبعض ألاخر يحاول إقفال باب داره كي يستطيع الخروج بسرعة راكضا خارج المدينة. تعجبتُ لتلك الحالة الغريبة التي تحدث بعد لحظات من إنطلاق السيارة. سألتُ أحد ألأكراد المدنيين…وكان طالبا في أحد المعاهد في مدينة بغداد وجاء في إجازه الى بيته.

…” ماهذا؟ هل ترى أن الوضع قد تحول الى حالة جديدة تختلف عما كانت عليه قبل قليل؟”.

نظر الي بدقه وكأنه قد وجد شيئا غير مألوف في هيأتي العسكرية أو أنني كنت قد إرتكبت خطأ ما في سؤالي.سكتُ قليلاً ودققتُ النظر في ملابسي العسكرية المتسخة وقلتُ على الفور:

…” لم أنظفها منذ عدة أيام..لقد نمت على ألأرض عدة مرات..أرجو المعذرة إذا كانت رائحتها كريه بعض الشيء”. إبتسم وهو يقول:” يبدو إنك..جندي خريج..وهذا ظاهر من هيئتك..أليس كذلك؟”. اعادت لي جملتهُ بعضاً من الهدوء وشعرتُ ببعض ألأفتخار فقلت على الفور:” نعم..نعم”. نظر من خلال الفتحه القريبة منه وهو يقول:

…” إن الناس يفرون من المدينة..يبدو أن الجيش سيهجم علينا ..أقصد نحن البيش مركه..إنظر ..هناك طائرة سمية تحلق فوق المدينة”. سكت وراح يتابع السمتية وهي تحلق فوق البيوت . تمنيتُ في اعماقي أن تطلق نيرانها على السيارة التي أنا فيها وتحرقنا جميعا كي أتخلص من ذلك العذاب الروحي الذي كان يسيطر علي تماما.وخاب ظني وتهاوت روحي منكسرة فقد بدأت النيران تنطلق من كافة الجهات بأتجاه الطائرة..وإبتعدت السمتية..وطارت أحلامي في الترجل من هذه السيارة السائرة نحو المجهول الى ألأبد. طارت ذكرياتي نحو الماضي السحيق..الى عام 1988 حيث ركبتُ في واحدة تشبه هذه السمتية. ذكريات مريرة.منذ ذلك العام وأنا أحاول أن أكتب كل ما يجول في خاطري..ولكن الكتاية كشيء بهذه الصراحة في ذلك الزمن معناه ألأنتحار… ولكن في هذا الزمن,,لن اخاف من أحد سوى الله..فالحقيقة ستظهر حتى لو بعد حين. كنت مع مجموعه كبيرة من الصحفيين ألأجانب والعرب. ذهبنا الى الشمال الجميل نحو السهول والوديان والجبال الشاهقة بحثا عن ألأضرار الكيميائية..حسب تعبير الصحفيين. كانت الصحافة العالمية قد شنت حملة اعلامية ضد العراق..مفادها أن الجيش العراقي قد شن حربا كيمياوية على كافة المناطق الشمالية التي يتواجد فيها ألأكراد.إستدعت وزارة ألأعلام مئات الصحفيين من مختلف دول العالم لتأخدهم الى مناطق معينه كي تثبت لهم أن الجيش العراقي لم يستخدم أي شيء من هذا السلاح الذي يتهمون العراق بأستخدامه, وذهبتُ معهم مع عدد من موظفي الوزارة آنذاك. حينما كانت طائرتنا السمتية تحلق فوق إحدى المناطق الجبلية الوعره طلب مني أحد الصحفيين ألأجانب أن نتوقف في تلك المنطقه التي شاهدها من ذلك ألأرتفاع. همست في أذن الطيار المقدم الذي كان يقود طائرتنا..إبتسم وهو يقول:” سوف أعطي ألأمر الى بقية الطائرات كي تهبط في المكان الذي الذي يريده”. وتمت عملية الهبوط بنجاح. ترجلنا من الطائرة ونحن نركض منحني الرؤوس بسبب الهواء الشديد المنبعث من مروحتها الكبيرة. تجمعنا على بعد مسافة منها. جاء بقية الصحفيين من الطائرات ألأخرى. قال الطيار مبتسماً:

…” نحن ألأن في المنطقه التي يريدونها..ماهي الخطوة ألأخرى المطلوب مني القيام بها؟” خاطبتُ المجموعة الصحفية التي كانت برفقتي بصوت مرتفع” يقول الطيار هل من سؤال أو طلب أخر؟” صرخ أحد الصحفيين:

…” هل يمكن أن نسير على ألأقدام الى مسافة قريبة؟ توجد فواكه كثيرة في ذلك الجانب هل نستطيع الوصول اليها؟” صاح بقية الصحفيين ” نعم..نعم..نريد ألأقتراب من ذلك الينبوع، نريد ان نشرب من ماءه لغرض التأكد من عدم وجود مواد سامة. سار المقدم أمامهم وسارت الجموع الصحفية خلفه.جلس المقدم عند حافة الماء المتدفق القادم من مناطق مرتفعة. كانت أشجار العنب تتدلى بشكل متناسق كأنها جنة ألأرض، قطف الطيار أحد العتاقيد المتدلية ودون أن يغسلها في الماء مسحها بيدهِ وهويقول:

…” من يريد أن يتذوق طعم هذهِ ألأرض الطيبه؟ “. تردد الصحفيين في باديء ألأمر وصرخ احدهم ” عندما تأكل منها سنأكل بعدك.. ولكن إغسلها بهذا الماء فقد يكون ملوثاً نريد التأكد من سلامة الماء أيضاً”. ضحك المقدم وراح يغسلها في الماء وبعدها شرع يأكل العنب. وفي لمح البصر هجم الصحفيين على العنب وكأنهم لم يشاهدوا عنباً من قبل. وراحت بعض الصحفيات يغسلن وجوههن في الماء البارد. السؤال المهم ألأن :

…” هل ضرب الجيش العراقي المناطق الكردية بالمواد الكيميائية أم لا؟”. هنا يجب الحديث بصورة مهنية بعيدا عن الخوف من السلطات التي كانت تحكم البلد في ذلك الزمن..أي عام 1988..في ذلك الوقت أي وقت الزيارة الى تلك المناطق الجبلية عرفت سراً لم أبح به لأي مخلوق حتى هذه اللحظة..أي بعد ثلاثة وعشرون عاما. عند أنتهاء الزيارة عدنا الى فندق من الدرجة ألاولى وشاءت الصدفة أن اجلس في صالة ألأستقبال مع أحد الطيارين الذين جاءوا معنا. بعد حديث طويل شيق معه سألته سؤالاً محددا وعاهدته على أن يكون ألأمر سراً بيننا.وكان السؤال هو” هل ضرب الجيش العراقي المناطق الكردية بالمواد الكيميائية أم لا؟”. صمت الطيار ونظر يميناً وشمالاً وكأنه كان يريد التأكد من عدم وجود أي إنسان يستمع الينا. إبتسم بارتباك وقال:

…” إسمع..هل دققت النظر الى الطائرة التي جئت بها مع الفريق الصحفي..أقصد هل لازالت صورتها في ذهنك؟ أقسم لك بانني شخصياً حملتُ بها كميات كبيرة من المواد الكيميائية وألقيتها على المناطق الشمالية لدرجة أن أرضية الطائرة أصبحت لزجه وكأنني كنت أحمل فيها ماءاً وليس مواد كيميائية. هذه هي الحقيقة ولكن السلطات العراقية تحاول طمس الحقيقة كي لا تدان من قبل العالم. كنا نستعمل المواد الكيمياوية عندما نجد أن ألأمر صعب جداً ولايمكن السيطرة عليه بواسطة ألأسلحة ألتقليدية..إنها ألأوامر..ومن لايطيع ألأوامر يتم إعدامه فوراً. هذه هي الحقيقة ولكن إياك أن تقل هذا لأي مخلوق…وإن فعلت ذلك فأنك سوف تصدر حكم ألأعدام بي فوراً..وربما ستعدم أنت ألأخر.”

إرتبكتُ لتصريحه الخطير. أصبحتُ أعاني إزدواجية في عملي. من جانب أعرف حقيقة ماجرى..ومن الجانب ألأخر أحاول إثبات براءة الجيش العراقي من تلك التهمه عن طريق ترجمة ماكان يقوله الضباط المكلفين بمرافقتنا.

عدتُ الى الواقع المرير حينما توقفت السيارة عند إحدى مناطق التفتيش التي اقامها ألأكراد على الطريق المؤدي الى السليمانية. رجال مدججون بالسلاح ذوي لحايا طويلة.تقدم احدهم وراح يتفحص الوجوه. فجأةً قال مخاطباً أحد ألأكراد وكان جالساً في الزاوية البعيدة وقد وضع بندقيته بين ركبتيه:

…” ترجل من السيارة فنحن في حاجة ماسه اليك. ستبقى معنا في هذه السيطرة حتى إشعار أخر”. هذا الحديث فهمته من الشخص المدني الذي ترجم لي الحوار بسرعة البرق. حاول الرجل المسلح ان يتفاهم مع الرجل الذي طلب منه النزول قائلا بانه مرهق جدا ولم يشاهد عائلته منذ فترة طويلة ويريد الذهاب الى البيت، ولكن ألأخر أمره بشده فترجل من السيارة على مضض.إنطلقت السيارة من جديد وعادت تنهب الطريق بوحشية.أخذتُ سيكارة من علبة سكائري ورحتُ انفث الدخان في الفضاء الداخلي للسيارة إلا انه سرعان ماكان يختلط بالدخان المتصاعد من محرك السيارة ويهرب نحو الفضاء الخارجي بطريقة لولبية. فجـأةً قال الشاب الكردي الذي كان يجلس قربي: …” لو أنهم يريدونني معهم لذهبتُ فوراً”. قلتُ له:

…” الى أين تذهب معهم؟” قال بأندفاع:

…” الى حزب البيش مركه..أقاتل معهم”. حاولتُ أن أبدو طبيعياً في كلامي فبادرته قائلاً:

…” ماذا تعني كلمة البيش مركه؟”. قال بسرعة:

…” كلمة بيش معناها ..امام..ومرك..معناها..الموت. أي فدائيين.” قلتُ بلا تحفظ:” ولكن لماذا تريد ان تكون فدائي؟ ضد الجنود ألأبرياء الذين يؤدون خدمة العلم.. هل شاهدت الجنود الممزقين عند حافة الشارع في كركوك؟ ماذا فعل هؤلاء الجنود سوى أنهم جاءوا لخدمة العلم أو لنقل انهم مأمورين للقيام بهذا الواجب.اليس أنهم نفس الجنود الذين كازوا يدافعون عن الشمال في الحروب السابقة؟ حقاً أن هذه الحرب الأهلية هي دمار شامل لكل البلد!.”

كانت قسمات وجه الكردي المدني تتغير مع كل كلمة يسمعها مني وتتغير الوان وجهه بين لحظة وأخرى…أدخل يده في جيب سترته وأخرج سيكارة وقدم لي واحدة بيده المرتعشه وحينما إرتشف منها رشفه طويلة قال بنوع من ألأضطراب:

…” أسمع ياصديقي، هذا الكلام الذي قلته لي ألأن يُعتبر خطر بلنسبة ِ لغيري وقد تفقد حياتك فيما إذا كررته أمام إنسان أخر من ألأكراد. ” صمتْ وسكتُ أنا ألأخر ..شعرت ان نقطة التواصل بيننا مفقوده. شارفت السيارة على ألأقتراب من حدود السليمانية وظهرت من بعيد بعض البنايات الشاهقه والطرق الجميلة. شعرتُ أن دقات قلبي تزداد بشدة لأسباب خاصة. عادت الذكريات القديمة تسحق اعصابي فهذه الشوارع مالوفة جدا بالنسبةِ لي.فكم مره زرتُ هذه الشوارع مع الوفود الصحفية وسكنتُ معهم في فندق السليمانية الكبير. نحنُ ألأن نمر من أمام الفندق الكبير وقد ظهرت على واجهته ألأمامية آثار القذائف الحارقه التي شوهت منظره الجميل. ترجلنا من السيارة..والغريب أن أحداً لم يقل لنا الى أين نذهب وماذا نفعل؟ قال أحد ألأكراد:

…” هذه مدينة السليمانية..إذهبوا الى أي مكان تريدونه وإفعلوا ماتشاؤون ولكن لاتغادروا المدينة الى أي محافظة أخرى سنجمع كافة الجيش هنا ونقرر بعدها ماذا نفعل بكم؟ . إنطلقت السيارة وبقينا في الشارع الكبير المزدحم لانعرف أي طريق نسلك. كنتُ مع سبعة من زملائي من نفس الوحدة.[ جعفر..باسم..علي..أحمد..حسين..كاظم..سلمان]. بادر جعفر الى إتخاذ مركز القيادة وقال دون تردد:

…” ينبغي أن نكون منذ هذه اللحظة فريق واحد..يموت الكل من أجل الفرد ويموت الفرد من اجل الكل..هل انتم موافقون؟” دون تردد قالنا ” موافقون”.

يتبع ……….