الحلقة – 25
طلب منا المسؤول عن المجموعة أن ننقسم الى مجاميع وكل مجموعة تبدأ عملها من طرف تم تحديده. قال بصوت ترجمه لنا أحدهم ” …التزموا الهدوء. انتبهوا كي لايصاب أحدكم بضرر ما. الأدوية قليلة هنا والأرسال الى المستشفى مستحيل في هذه الأيام.” كانت كلماته تقبض الروح وتحيل المعنويات الى رماد تذروه الرياح وتجعل القوة الكامنة في الجسد تذهب مع الريح . آلاف الأسرَّة الحديدية تحتل القسم الأعظم من – الجملون – الى جانبها الأخشاب التي توضع على تلك الأسرَّة . أعداد كبيرة جدا من ضحايا حرب الثمانينات كانت تستخدم تلك الأسرّة ويعانون الشيء الكثير. مسكين من كان يعيش هنا ..مسكين من كان يجتر آلامهِ النفسية هنا كل يوم ويقضي ساعات لاتنتهي من جحيم ليس له قرار. القسم الآخر من الجملون كان مليء بالبطانيات القذرة والفراش الأسفنجي الممزق من هنا وهناك. الجزء الثالث من المكان جُمِعَتْ فيه كافة الأواني البلاستيكة وحاويات الماء التي كانوا يستخدمونها في حياتهم اليومية. توسعت حدقات أعيننا جميعاً ونحن ننظر الى هذا الكم الهائل من الأواني التي نحن في أمس الحاجة اليها . كل فرد ترك عمله وركض بشغف ورغبة لعزل إناء أو أكثر يضعهن جانباً على أمل أن يصطحبهن معه عند الرجوع الى قبر الأحياء. راح العريف يصرخ بأعلى صوتهِ ” ..اتركوا كل شيء ..لايجوز لأي شخص أن يصطحب معه أي شيء من هذه المواد المتروكة. سأفتش كل واحد منكم عند نهاية العمل ” . كان العمل مرهق جداً . نحمل الحديد على ظهورنا الى ساحة بعيدة تحت اشعة الشمس المحرقة. أُصيب بعض الأشخاص بجروح في الساق واليد والرأس بسبب سرعتهم في العمل. قبل الغروب بقليل طلب منا المسؤول أن نترك العمل والتجمع على شكل صفوف كل صف خمسة اشخاص. أخبرنا بأنه طلب من الجند تفتيشنا عند بوابة المكان الذي نعيش فيه لذلك من العبث أن يأخذ أي شخص اي شيء معه . لم يهتم أحد لتوجيهاته وركض الجميع صوب الأشياء التي عزلها على جهة على أمل أن يأخذها معه. لم أحمل أي شيء عدا – دولكة ماء رصاصية الشكل بلاستيكية ذات غطاء- كنت أحلم بشيء كهذا طيلة عشر سنوات. أخفيتها في الملابس الداخلية بشكل متقن جدا. كانت بطني تبرز الى الأمام بشكل ظاهر. عند الباب المؤدي الى مكاننا وقف عدد كبير من الجند وراحوا يفتشون كل شخص بشكل دقيق وتكومت الأواني والملاعق والأقداح وأشياء أخرى وكلها من المواد البلاستيكية. كل شخص تم تجريده من غنيمته كان ينظر اليها بألم وحسرة. حينما جاء دوري وقبل أن يلمسني الجندي همستُ في أُذنه – كنت قد تعلمت الشيء الكثير من لغته من خلال التلفزيون- ” ..سأعترف لك بكل شيء ..أنا في حاجة ماسة الى هذه الدولكة لأنني أريد أن أستخدمها لشرب الماء واستلام الشاي . لم أجلب أي شيء آخر. سأذكر لك إسمي حاول أن تحفظه في ذهنك . إذا شعرت أن هذا سيسبب لك احراج في المستقبل تعال الى مكاني وسأعطيها لك. ” الغريب أنه نظر في عيني وصمت قليلاً ثم دفعني وهو يقول – خذها- وصاح على زميله أن يتركني أدخل. في اللحظة التي وصلت فيها الى سريري شعرتُ أنني أمتلك كل العالم. جاء الزميل – ثابت- وقال لي ” ..بطل..أنت بطل..كيف أدخلتها ؟ لقد أخذوا مني – القوري والسطل وثلاثة مواعين – غداً سأعمل المستحيل لجلب واحدة مثل هذه التي جلبتها ” .
كنتُ قد شرعتُ بإستخدامها في فترة العشاء وأثناء توزيع الشاي. ياالهي كم كنتُ فخوراً بها. كان بعض المقربين مني ينظرون اليها وكأنني كنتُ قد حصلت على سيارة مرسيدس . حاول بعض الزملاء أن يشتريها مني بعدد من السكائر لكنني رفضتُ بشدة. ربما يسخر القاريء من هذه الأحداث البسيطة لكنها بالنسبة لشخص عاش الحرمان بكل تفاصيلة تمثل شيء كبير وليست تافهة . إستمر العمل أكثر من خمسة عشر يوما وغض الحرس المكلف بحراستنا الطرف عنا بعض الشيء ورحنا ننقل أشياء كثيرة وزادت كميات الأدوات والأواني البلاستيكية التي بحوزتنا . كان العريف المسؤول عن مراقبتنا يقول بتهكم ” لا أدري لماذا تجلبون كل هذه الأشياء ؟ ستنتقلون الى هذا المكان الذي تفرغونهُ الآن وستتركوا كل الأشياء هناك فماذا كل هذا العذاب؟ ” . في صباح أحد الأيام جاء آمر المعسكر وبدا يقول ” ..اتركوا كل شيء هنا . كل واحد يأخذ معه إناء واحد , ملعقة واحدة, بطانيتين , دوشك واحد ووسادة واحدة فقط . ستنتقلون الى المكان الذي نظفتموه ” . وجمت القلوب وتحطمت كافة المعنويات وسيطر علينا يأس قاتل وحزن دفين . شرعت الرحلة الجهنمية تفتح أشرعتها لنا من جديد . كانت عملية الأنتقال الى المكان الجديد بمثابة عذاب لاينتهي . مكثنا في المكان الجديد عام كامل تخللته أحداث محزنة وسمعنا أخبار كثيرة عن العودة ولكن لم يتحقق أي شيء وظل عامل اليأس يدور حولنا طيلة ساعات الليل والنهار . بالنسبةِ لي شخصيا عشتُ حياة جديدة تختلف نوعا ما عن حياتي في المعسكرات السابقة فقد شرعتُ بكتابة روايات طويلة أهرب من خلالها الى عالم وهمي إفتراضي أنسى من خلاله كل لحظة من لحظات المعاناة التي أدور فيها طيلة الليل والنهار . سبع روايات – كل واحدة أخذت مني وقت وجهد طويل جدا ولحظات عذاب ودموع لاتنتهي. بعض الزملاء المقربون مني كانوا يتلاقفونها برغبة شديدة ولهفة عالية فقد كانوا يجدون فيها تنفسا عميقا وخروجا عن الواقع الأليم الذي يتخبطون فيه. ملاحظة هامة : لو كانت هناك روايات عربية متوفرة في ذلك المكان لتلاقفها الجميع . تمنيت أن أحصل على مليون كتاب أدبي أو رواية هناك لعدت الى الوطن وأنا أعظم أديب وروائي على وجه الأرض ولكن كل شيء هناك محرم لانستطيع الوصول اليه . سنوات واشهر وايام وساعات مرت كأنها بلا ثمرات . كانت أغلب الروايات التي كتبتها تتحدث عن المشاعر الانسانية والحب الدفين والمغامرات بين بين البنات والأولاد. عندما كنت أنهي واحدة يقول لي بعضهم متى تبدأ الثانية؟ من الروايات التي كتبتها – الرحلة الجهنمية, الأستاذة والتلميذ, الجنس الآخر, مرة كانت هناك قرية, وغيرها. ربما يسأل شخص عن كيفية حصولي على الأقلام والأوراق – هذا لوحده يتطلب فصل كامل لأن الحديث عنه يحتاج عشرات الاوراق.
في يوم من أيام الشتاء القارص البرودة جاء الآمر يحمل أوراق وتجمعنا حوله . قال ” ستذهبون غدا لزيارة الضريح المقدس ومن هناك سترحلون الى وطنكم.” لم نصدق كلامه في البداية واعتقدنا أنه يحاول رفع معنوياتنا كما كان يفعل بين الحين والآخر . بعد قليل طلب مجموعة منا أن تذهب معه لكي يجلبوا الملابس الخاصة بالسفر . إرتعبنا حينما تأكدنا أن الموضوع أصبح جدي وليس مزحة. راح البعض ينتحب بصوتٍ مسموع والبعض الآخر ينثر الحلوى- قطع صغيرة من القند أي سكر – كانت لحظات لايمكن أن تمسحها مصائب الزمن مهما كانت ثقيلة. تحركت الحافلات بأتجاه الأمام الرضا عليه السلام وأنا لازالت غير مصدق ماكان يجري . من خلال مطالعاتي الدينية والتاريخية أستطيع أن اقدم للقاريء نبذة مختصرة عن هذا الأمام ..هو ” أبو الحسن علي بن موسى الرضا (وُلد في المدينة المنورة في 11 ذي القعدة 148 هـ وتُوفِّي في طوس في صفر 203 هـ) هو ثامن الأئمة الاثنا عشر. لقب بغريب الغرباء كونه دفن في بلاد فارس بعيدًا عن أرض أبائه العرب . ولد الإمام الرضا في المدينة المنورة، ومنها انتقل إلى خراسان بضغط من المأمون لمنحه ولاية العهد مكرهاً. وفي طريقه وهو في نيسابور روی حديث سلسلة الذهب. اشتهرت مناظراته التي كان يعقدها المأمون بينه وبين كبار علماء الأديان والمذاهب الأخرى. استمرّت إمامته 20 عامّاً. توفّي بـطوس مسموماً علی ید المأمون، ودفن بمدينة مشهد، وصار مرقده مزاراً تقصده الملايين من مختلف البلدان .” كان الطريق طويل جدا من مكان انطلاقنا باتجاه الهدف المنشود . سبعة عشر ساعة ونحن جالسون في الحافلة تشق بنا مناطق لاأعرف من أين تبدأ والى أين تنتهي. في البداية كنا منفعلين نحاول أن نركز على أي منطقة نمر فيها ولكن تقدم الساعات وزيادة التعب الذي سيطر على الجميع جعل الكثير من الزملاء يسترخون في مقاعدهم صامتين كصمت الأموات. أخيرا هدأ الجميع ولم يعد هناك أي صوت سوى هدير محرك الحافلة وهو يشق البراري والجبال والسهول والوديان . لم تغمض عيناي لحظة واحدة على الرغم من الأرهاق الشديد الذي كنت أسبح فيه . أردت أن أسجل في ذاكرتي أي حدث قد يحدث على الطريق الطويل . وأنا أرسل نظراتي بعيدا جدا من خلال النافذة المغلقة ترائت لي كل صور الحياة التي مررت بها في أرض التيه وراح ذهني يستحضر كل لحظة من لحظات العذاب التي خطت تاريخها في روحي وقلبي وذاكرتي …هل يعقل أنني عشتُ كل تلك السنوات بعيدا عن الأحبة والعائلة والأصدقاء وفي لحظة لم تكن في الحسبان ينتهي كل شيء وأجد نفسي مع كل هذه الأجساد المرهقة نتجه نحو الوطن ..نحو الأحبة والعوائل التي فقدناه منذ أحد عشر عاما ولانعرف كيف عاشوا وكيف صار كل واحد منهم. شيء يلتهب في صدري ولكن لمن الشكوى غير الله سبحانه وتعالى. إنتهت الزيارة بنجاح . عند الحدود جاء الصليب الأحمر . فتيات أو سيدات يتكلمن اللغة الأنكليزية . وقفنا في طابور طويل . تكلمت معي إحدى مندوبات الصليب الأحمر وسألتني فيما إذا أريد البقاء في ذلك البلد أو العودة الى بلدي. كان جوابي العودة الى ارض الوطن. كل شخص اختار الطريق الذي يراه مناسبا له وتبادلنا العناوين وأرقام التلفونات على أمل أن نلتقي يوما ما .
كانت الساعات الأخيرة في تلك المنطقة القريبة من الحدود من أشد وأحرج الساعات التي مررتُ بها خلال تلك السنوات العجاف. كان العلم العراقي يتراى لنا من بعيد يرفرف مع النسيم الهاب على أرض بلدي الجميل. قطعة من قماش تحمل في مضمونها كل معاني التاريخ والنضال على مدى الزمن . تقدم الزمن وغابت الشمس وغابت معها كل معنوياتي . كنت أخشى أن يعيدوننا الى نفس المكان الذي كنا فيه كل تلك السنوات المرعبة . كنت أخاف من المجهول ومن شيء ربما يحدث يطمر كل أمل قابع في نفوسنا . إقترب مني الزميل ابو فيروز كان مضطربا بعض الشيء وحطت على وجهه هالة من كآبه واضحة. حاولت اقناعه بالعودة معنا الى أرض الوطن وحاول هو أن يقنعني بضرورة البقاء معه في تلك الأرض. كانت أهدافنا مختلفة وأفكارنا متباينة في محطات كثيرة ولكن مع هذا كان من أقرب الناس الى قلبي . هذا الرجل حكاية كبيرة لوحده قصص متشعبه جدا ولكن مع هذا لا أستطيع الحديث عنه بالتفصيل احتراما لكلامه . طلب مني أن لا أذكر عنه أي شيء لكنني سأكون مضطرا للحديث عنه بصورة مقتضبة كي لايتلاشى من ذاكرتي. كانت لديه أسباب شخصية كثيرة تمنعه من عدم الرجوع الى الوطن . توجهنا نحو الحافلات وودعت أبا فيروز الى الأبد . تحركت الباصات وتحركت معهن مشاعري وطفق قلبي يضرب بعنف شديد . هل صحيح أن الأمل المفقود بدأ يتحقق؟ هل صحيح أن السراب الوهمي راح ينشر خيوطه بوضوح عبر الحدود الممتدة مابين البلدين ؟ هل صحيح أن سنوات القحط والجفاف ستعود خضراء ؟ في اللحظة التي دخلنا فيها أرض الوطن الحبيب تلقفتنا ألأيادي تقودنا نحو حافلات بلدنا التي كانت تنتظر قدومنا منذ الصباح. كنا صامتين داخل السيارة كأننا قدمنا من كوكبٍ آخر. عشرات الأفكار تتقاذفني هنا وهناك وهاله من تساؤلات تحيط بي من جميع الأطراف. على حين غرة تلبدت سماء روحي بغيوم الكآبة المطلقة . وجدتُ نفسي أفكر بالحياة من جديد ..حياة كنتُ قد نسيتها تماماً . ” ياالهي لقد تركت لزوجتي وأطفالي عشرة دنانير فقط يوم 16-3-1991 حينما التحقتُ الى وحدتي العسكرية في ذلك اليوم . في هذه اللحظة لا أملك فلساً واحداً فكيف سأدخل البيت بلا نقود وكيف سنعيش وماذا سأشتري لأولادي؟ ” . تعبتُ من التفكير بموضوع الحياة والمعيشة وكل مايتعلق باحتياجات البيت وسلمتُ أمري الى الله . ترجلنا من الحافلات لانعرف ماذا نفعل. فجأة وجدنا ضباط برتب عالية ومراتب لاتعد ولاتحصى وحركة ملحوظة في وحدة عسكرية لا أعرف أي موقعها سوى أنها تابعة الى محافظة ديالى . رحبوا بنا جميعا وكانت هناك وليمة عشاء فاخرة تنتظرنا واكلنا وشبعنا . بعدها وقفنا في طابور طويل كل واحد ينتظر دوره للدخول الى الطبيب المختص لفحصنا جميعا . كل شخص يتم فحصه يذهب الى طابور آخر لأستلام نقود كثيرة هدية من رئيس العراق . وأنا اخرج من غرفة استلام النقود شكرتُ الله كثيرا ورحت أردد مع نفسي – لقد حُلَتْ مشكلة المعيشة لفترة من الزمن وسأشتري لأولادي الشيء الكثير. – بعد منتصف الليل انطلقت بنا الحافلات مرة أخرى واخترقنا شوارع بغداد الجميلة . لم أصدق مطلقا بأن هذه الشوارع تحتضنني من جديد . لدي فيها ذكريات لاتنتهي أبداً . فجأة هجم على ذهني تفكير جديد في اللحظة التي توقفت فيها الحافلات أمام البناية المخصصة لأستلام الأسرى . ” أين سأذهب ومن سيأتي لأستلامي من الأقرباء وكيف سأذهب الى البيت ؟ ” . قررتُ أن أترك التفكير بكل شيء على أن أظل في الدائرة المخصصة لأستلامنا ولايهم متى وكيف سأصل البيت طالما أنا في بلدي . كانت هناك أفواج غفيرة من البشرتنتظر عند البوابة الرئيسية للمبنى وكل عائلة تحاول أن تعرف أي شيء عن ولدها المفقود أو المختفي في الحروب المتعاقبة . تحول الليل الى مايشبه النهار وكأن شوارع بغداد قد تفجرت بشراً من مختلف الأعمار . بقيتُ أسند جسدي الى الكرسي المريح وكأن الأمر لايشملني فأنا متأكد أن أحداً لاينتظرني مع المنتظرين . سأترك الأمر يسير حسب القنواة الرسمية المتبعة لتسليم الأسير الى أهلهِ .
بعد لحظات سمعتُ طرقات قوية على النافذة القريبة مني لكنني لم التفت الى مصدر الصوت لأنني ظننتُ أن أحد الأشخاص يريد أن يسألني عن شخص ما إلا أن الضربات إزدادت على النافذة ..إلتفتُ الى مصدر الصوت , فجأة شعرت كأن تيار كهربائي يخترق جسدي . سكتُ لحظة من الزمن بعدها صرختُ بأعلى صوتي ” حسن …حسن …حسن….لا أصدق هذا ” . كان حسن من أقرب الناس الى روحي فهو صديق الطفولة وأبن خالي . كان هو الآخر قد ضاع أو فُقد أثناء الحرب في الثمانينات . كان ضابطا في الجيش . بكيتُ كثيرا حينما سمعت بخبر ضياعه عام 1988 . كانت لديه بنت واحده عمرها اسبوع واحد حينما ذهب مع الريح . عندما إنتقلنا الى معسكر ” …….” كل واحد منا كان يبحث في الجدران ويدقق في الاسماء المذكورة لعله يعثر على شخص يعرفه . سمعت ان احدهم وجد اسم ابن اخيه وقد بكى كثيرا لانه كان يعتقد انه كان قد مات دون ان يعثروا على جثته . أخبرت الجميع أنه من يعثر على اسم حسن سأعطيه كل سكائري وهي أعز ما أملك في أرض الجحيم . عندما ترجلنا من الحافلة صرخ حسن بأنه سينتظرني عند البوابة الرئيسية . في لحظة خروجي من المبنى بعد إجراء الاشياء الروتينية من تسجيل الاسم وغيرها تلقفني بالأحضان وهو يتحدث بلهفة ” كنتُ أتصور بأنني سأجدك في لندن أو باريس أو أي دولة أخرى ولكنني لم أتصور مطلقا أن تكون في المعسكر المجاور لمعسكرنا ..أي تصادف هذا ؟ لقد عدنا قبل سنتين وكانت صدمتي لاتوصف حينما عرفت أنك تحتضر خلف الحدود . ” قبل أن نغادر المكان جاء شاب طويل وسيم وهو يصرخ بي ” هل تعرفني؟ ” نظرتُ اليه بدقة وحاولت إسترجاع كل ذكرياتي القديمة لكنني فشلت. ضحك وهو يقول ” أنا إبن شقيقتك الصغرى ” . صرخت بجنون ” ماهر ..ماهر…يا الهي لا اصدق هذا ..كنتَ طفلا حينما ذهبتُ الى طريق البؤس والشقاء…” ورحتُ أقبلهُ بشغف . سحبني ماهر من ذراعي وهو يركض ويقول ” ..اركض خالوا ..اركض ..سيمزقون ملابسك ..الناس متعطشون للسؤال عن أبنائهم ..” وبالفعل تجمعت حولي أعداد غفيرة من النسوة وهن يسألن عن أبنائهن بشغف وقلوب تكاد تحترق من الشوق لمعرفة أي شيء عنهم . صرختُ بأعل صوتي ” نحن لسنا من ضحايا حرب الثمانينان..نحن ضحايا حرب الخليج..عدنا جميعاً .” تراجعت النسوة يبحثن عن ضحية أخرى . سحبني ماهر بقوة نحو سيارتهِ القريبة من الشارع العام. شدة لهفتي وفرحي بمشاهدة – حسن – أنستني كافة الأخبار الحزينة التي صبها علي حسن في لحظالت العودة من ذلك المكان الى البيت . والدتي توفيت بعد شهرين من إختفائي . زوجة حسن طلقتهُ وتزوجت رجل آخر متزوج ولديه أطفال منها الآن . أحد ألأشخاص من حامية المسيب إسمه – هادي منصور – احتال على شقيقي وسرق منه نقود مدعيا أنه يستطيع أن يعيدني من أرض التيه مقابل ذلك المبلغ. والدة زوجتي توفيت هي الأخرى بمرض خطير . شقيق زوجتي مات هو وكذلك زوجته. سيل من الأحداث الصغيرة والكبيرة كانت قد حدثت وأنا أعيش خلف الحدود.. سنين لاتقدر بثمن ولايمكن أن تعوضها أي حركة من حركات الحياة لاحقا .
أردف حسن قائلا بعد فترة صمت وجيزة ” لاينبغي عليك الذهاب الى البيت وأنت بهذه اللحية الطويلة.. ستذهب معي الى بيتنا كي تحلق ذقنك وتستحم لتعود الى زوجتك بنفس الهيئة الوسيمة التي كنت عليها قبل الرحيل الى عالم الضياع . ” دخلتُ بيتنا في حدود الثانية بعد منتص الليل وكان زوجتي مذهولة لمشاهدتي . لم تتصور أنها ستراني بعد كل تلك السنوات الطويلة . لم أعرف أولادي في البداية فقد أصبحوا مراهقين . توالى الأقرباء على بيتنا في تلك الليلة . وصلت اليهم الأخبار في لمح البصر . تحول الليل الى صباح وطالت القبلات الحارة وتفجرت الدموع شلالات لاتنضب وكان ذلك العرس الكبير .
يتبع ……..