الحلقة رقم – 20 –
بين عشيةٍ وضحاها أصبحنا زملاء من الدرجةِ الأولى . كنا نستأنسُ ببعض حينما نجلس ساعاتٍ طويلة نتحدثُ عن أشياء مختلفة . مما زاد في تقربنا لبعض كوننا متخرجان من نفس الكلية ونفس القسم ولكنه سبقني بسنواتٍ قليلة. كنتُ أجد فيه ضالتي المنشودة . كأنني وجدتُ حُلماً كان قد ضاع مني إلى الأبد. كنا نستذكر مواقف كثيرة حدثت لنا في الكلية ونتحدث عن هذا الأستاذ وتلك الأستاذة وعن أشياء لا تعد ولا تحصى. كان وجودهُ معي قد خفف عني كثيرٌ من الأعباء النفسية التي كنتُ أرزح تحت طائلها. الحق يقال كانت له طريقة ساحرة في الحديث يجعل السامع ينشدُ إليهِ بكل إنتباه. لو تحدثتُ عنه بكل التفاصيل لأحتجتُ إلى مئات الأوراق التي لا تنتهي أبداً. كان يفهم ما أريد البوح به من مشاعر الحب والكراهية والأمل المفقود وكل شيء يتعلق بالحالةِ النفسيةِ التي كنت أمر بها بين فترةٍ وأخرى. تأسفتُ كثيراً لأنني لم أتعرف عليهِ في الحياة الطبيعية التي كنت أحياها يوما ما في زمن الحرية ….لكان لي عوناً في مسائل لا يفهما إلا من تبحّر في قراءة الروايات العالمية وكتب الأدب الراقية.
كنا نتحدث طيلة الوقت باللغة الأنكليزية لدرجة أن أغلب الزملاء كانوا يشعرون باضيق والضجر منا لأنهم كانوا لايفهمون ما نقوله. ولكي لا أكون بعيداً عن الحقيقة فقد إستفدتُ منه أشياء كثيرة من الناحية الثقافية والتعليمة. كانت لغته الأنكليزية قوية جداً لأسباب شخصية ليست لها علاقة بالدراسة الجامعية لأنه كان قد إكتسبها من البيت بسبب المستوى التعليمي الراقي الذي كانت أسرته تتمتع به. من الطريف ــ كما ذكر لي يوماً ما ــ أنه كان قد قرر إتقان هذه اللغة الأجنبية ، كان والده يتحدث مع والدته باللغة الأنكليزية أمامه حينما يريدان مناقشة موضوعاً ما كي لا يفهمه. كان ينظر إليهما بتعجب ورغبة للغور في أعماق الحديث الذي كان مطروحاً للمناقشة أمامة . قرر أن يخترق هذه اللغة بكل تفاصيلها كي يتوصل إلى كل المضامين التي يتحدث بها والداه.
بدأنا نأكل مع بعض نحنُ الثلاثة ” هو أنا وعلي دولي”. كان ذكياً في إتخاذه من علي دولي صديقاً له…فلنقل علاقة نفسية متبادلة بين الطرفين كل واحد منهما كان يبحث عن هدف مفقود . وجدت نفسي بينهما لسبب قد يكون له أيضاً إرتباط بالحالة النفسية أيضاً . أردتُ أن أكون بالقرب من أبو فيروز لأسباب تتعلق بالمشاركة الوجدانية لأنه يختلف عن كل المتواجدين في المكان المخيف. كان يفهمني وأفهمه وأشعر أن هناك قواسم مشتركة كثيرة بيننا . أما فيما يتعلق بالأخ علي فقد كان تواجده مع الشخص الأول هو الذي جعلني أكون معه على الرغم من عدم وجود أي شيء على الأطلاق يربطني به. الحق يُقال كنتُ أتضايق أحياناً من وجوده معنا لأننا لا نستطيع أن نحصل على الخصوصية المطلقة التي ننشدها في ذلك المكان. هنك شيء آخر وهو أننا لا نستطيع الحديث باللغة الأنكليزية حينما نجلس نحن الثلاثة لأنه لايفهم ما نقول وهذا يجعل من الأمر محرجاً لكل الأطراف. لم يستطع صديقي أبو فيروز التخلص منه لأسباب تتعلق به شخصياً . .. منها أنه كان يستفيد من وجوده معه كثيراً . كان علي الدرع الحصين الذي يقف في طريق أي شخص يحاول إيذاء صديقي. في ذلك المكان كان البعض يتكاتف مع البعض الأخر من أجل تأمين الحماية لبعضهم البعض . عالم مخيف يحمل في طياته أخطاراً قد تحدث في أي لحظة قد تُعرض الحياة إلى الخطر الحقيقي.
كان علي يتخذ من الصديق أبو فيروز صديقاً لأسباب تتعلق بالحالة النفسية. كان يقول لي ” حينما تريد أن تتخذ صديق فعليك أن تتخذ الأفضل” . وكان الصديق المذكور هو الأفضل في أشياء كثيرة. لذا كانت هناك دوافع خفية لكل واحد منا أن يكون قريباً من الآخر. هذا هو سر الحياة. البعض يبحث عن البعض الآخر حينما تتلاقح المصالح مع بعض من أجل الوصول إلى الهدف المطلوب. كان علي شاباً ضخم الجسد شديد السمرة مستعد للقتال مع أي شخص يحاول إزعاجه ولكن بالمقابل له قلب طيب جدأ وكريم إلى أعلى درجات الكرم ألأنساني. تستطيع أن تأخذ ملابسه التي لايملك غيرها إذا قلتَ له بأنك بردان وفي حاجةٍ إلى ملابس. كان يحترمني بدرجةٍ أشعر بأنني لا أستحق كل ذلك الأهتمام. كان لديه خادم في ذلك المكان ــ غريب ذلك الزمن ــ الكل يبحث عن شيءٍ مفقود وقد يجدهُ في شخصٍ يكوّن من خلاله فسحه من الأمل تساعده على ديمومة البقاء في تلك الغابة المرعبة التي كنا نحيا فيها.
حينما تقدمت السنوات ونحن لا نزال نسكن تلك الفسحة المنسية من التاريخ راح صديقي يدرس اللغة العربية بشكل مفصل عن طريق المصادر القليلة المتوفرة هناك وأصبح لايجاريه شخص في تفاصيل اللغة ومطباتها التي لاتنتهي. بعدها جاءت مرحلة جديدة في حياته وحياتي. راح يكتب مسرحيات ويقوم بتمثيلها مجموعة من الأشخاص الذين يبحثون عن الحظوة لدى المسؤول كي لا ينساهم حينما تكون هناك فرصة للعودة إلى البلد أو الخروج كلاجئين في دولةٍ ما. كانت المسرحيات التي يكتبها في البداية بسيطة تتناسب ومستوى الممثلين الفقراء من الناحية الثقافية. في يوم من الأيام طرح علي فكرة الأشتراك في مسرحياته على أن ينسب إليّ الدور الأول في كل مسرحية يكتبها. في البداية تصورتُ أنه يمزح معي لأنني لم أفكر يوما ما بالأشتراك بأي شيء من هذا القبيل لعدة أسباب منها : من يدخل في هذا النشاط الثقافي معناه أنه يدخل في الصف المعارض للحكومة العراقية في زمن صدام … يصبح مكروهاً من قِبَلْ أؤلئك الذين يكنون الولاء المطلق للسلطة العراقية.
في البداية رفضتُ مقترحه لأنني لا أريد أن أضع نفسي في موضع خطر حينما نعود. قال لي بصراحة مطلقة” إسمع ياصديقي ، من يشارك في هذه النشاطات الثقافية سيكون له تقدير لدى المسؤول وقد تكون سبباً للخروج من هذا الحجيم الذي لا ينتهي. نحن لا نصنع صاروخاً ولا نعتدي على أحد. نحن نقضي بعض الوقت في شيء يجلب السعادة للمتواجدين هنا ولن نؤذِ أي أحد.” بعد تفكير طويل وافقت على مقترحه مع العلم أنني لم أشترك يوماً ما في تمثيل أي شيء حينما كنت في مراحل الدراسة المختلفة. كتب مسرحية شعرية صعبة تتحدث عن فلسطين والطريق إلى غزة. كان دوري في المسرحية دور البطولة وعدد الأوراق التي تخصني تقريباً عشرون ورقة . كت أقرأ بمعدل ست ساعات يومياُ . الحق يقال كانت الكلمات التي كتبها ساحرة كأنها كنز أدبي لايمكن التخلي عنها. أحببتُ تلك المفردات وتناسقها في الأبيات الشعرية الرائعة. وقلتُ لنفسي حتى لو أنني فشلتُ في التمثيل فأنها ستكون لي رصيداً دبياً رائعاً.
وبدأت البروفات ـ كنا نتدرب كل ليلة بعد صلاة العشاء في غرفةٍ صغيرة وكان البرد قاسياً جداً. كان يتابع حركات كل شخص منا وطريقة لفظ الكلمات ومتابعة مخارج الحروف. كان مخرجا جيداً على الرغم من أنه لم يدرس الأخراج المسرحي. كان يشجعني كثيراً ويؤكد لي مراتٍ عديدة بأنني سأكون الأفضل بين جميع الممثلين. جاءت لحظة الصفر وراح الزملاء يبنون مسرحاً خاصاً داخل القاعةِ التي ننام فيها. خرج بعض الزملاء بأمر المسؤول عن المكان الذي كنا فيه لجلب أعداد كثيرة من الأخشاب والأسرّة الحديدية من المخازن المجاورة لمعسكرنا . كان عدد كبير من الأشخاص يخرجون لجلب الخشب والحديد وتحول المكان إلى ورشة عمل عجيبة . كنت أنظر إلى الزملاء وهم يبنون المسرح . راودني شعور غريب وكأنهم كانوا يبنون لي بيتاً . أحسستُ وكأنهم يعملون كل ذلك لي فقط. كان كل المشاركين في المسرحية لا يحملون شهادات إلا ما ندر كالشهادة الأعدادية أو المتوسطة. الكل كان ينظرلي بتعجب….بعضهم يقول بأنني إنخرطت في صفوف المعارضة والبعض ألأخر يقول بأنني أبحث عن وسيلة للخروج من هذا الجحيم وبعضهم يتوعد في داخله من أنه سوف يخبر السلطات العراقية عند العودة بأنني أصبحت في الخط المضاد للسلطة العراقية وأشياء كثيرة أخرى.
كان هناك هدفاً في داخلي يحثني للعمل بشكل مستمر في المشروع الثقافي الذي عرضه علي أبو فيروز ألا وهو الخروج من هذا المكان دون أن أسبب أي ضرر لأي شخص مهما كان. وجلب لي المخرج ملابس أنيقة من المسؤول …ملابس لم أرَ مثلها منذ زمنٍ بعيد. في اليوم التالي حضر المسؤول وعدد من الجنود كي يشاهدوا العرض المسرحي . جلس كافة الأسرى على الأرض بعد أن فرش كل واحد منهم بطانيته وجلس فوقها. جلس المخرج أبو فيروز خلف الستارة وهو يحمل النص الأصلي كي يملي على أي ممثل قد ينسى جزءاً من دورهِ. توكلت على الله قبل الدخول إلى الخشبة.. كان قلبي يخفق بقاقٍ ورهبة لم أر لها مثيلٍ من قبل. لأول مرة في حياتي أواجه هذا الحشد الكبير من الناس الغرباء عني في كل شيء. كان إمتحاناً عسيراً بالنسبةِ لي. البعض كان يدعوا لي بالتوفيق والنجاح والبعض البعض الأخر يتمنى في قرارة نفسه أن أفشل كي لا أعاود الكرة مرة أخرى.
قفزتُ إلى المسرح، لم أنظر إلى الوجوه الجالسة على الأرض. كنت أحدق في الفضاء الداخلي للقاعة الكبيرة. بدأتُ أتلو الشعر بطريقةٍ مسرحية كما رسمها لي المخرج وحركاتٍ مضبوطة ونهايات جملٍ صحيحة مئة في المئة . كنتُ أسكت حينما يأتي دور ضياء ” رجل القوات الخاصة يوماً ما ” وأرد عليهِ حينما يسكت. كانت محاورة رائعة بيننا . فجأةً سكت ضياء في حين كان عليه أن يستمر في الحديث. كانت من أقسى اللحظات الحرجة لكلينا . نظر في عينيّ كأنني يستجدي مني شيئاً لا يقدر بثمن. عفت أنه كان قد نسي السطر الأخير. كان وجهه يتصبب عرقاً وتحول لونه إلى أحمر كالدم. فارسٌ أوشك على السقوط في الهاوية إلى الأبد. وفي لحظة الرعب تلك مددت له يد العون بطريقةٍ لم يتوقعها أبداً. أنا لا أقول بأنني رجلٌ خارق ولكن كان هذا هو واقع الحال. كنت قد حفظت كل دوره أثناء البروفات التي إستمرت تقريباً شهراً كاملاً. قلتُ له بهدوء الكلمة التي كان يبحث عنها بطريقة الهمس كي لا يسمعها المشاهدين . إستعاد وعيهِ وتذكر بقية الأبيات الشعرية وراح يتلوها من جديد بطريقة رائعة . عادت الدماء إلى وجههِ من جديد وسيطر على الموقف وكأن شيئاً لم يكن. كان الجمهور صامتاً صمت الأموات. إنتهت المسرحية ونزلنا من خشبة المسرح. ركض إلي ضياء يقبلني وكأنني أنقذت حياته في معركة ٍ حامية الوطيس. جاء المخرج وهو يقول لي ” ألم أقل لك ستكون الأفضل”. بدأ الزملاء يأتون إلي الواحد تلو الأخر والكل يهنئني بهذا الفوز الساحق الذي يحدث تحت أقسى الظروف التي يعيشها البشر في حقبةٍ زمنيةٍ إمتدت بلا قاع. شعرت بنشوة لم أشعر بها من قبل. وتوالت الأشتراكات في المسرحيات الواحدة تلو الأخرى. أصبحت البطل لكل مسرحية أمثلها ولم أمثل دوراً ثانوياً قط. المسرحية التي لا أشترك فيها تُعتبر مسرحية من ادرجة الثانية على قول أحد الزملاء المقربين مني.
أصبح المسؤول يحترمني كثيراً وحينما أطلب منه أي شيء كان لايعترض إلا ماندر. تطورت إشتراكاتي في البرنامج الثقافي فقد رحتُ أكتب مقالات في المناسبات الدينية والوطنية وألقيها على المسرح بصوتي. بدأت أشترك في مسابقات حفظ القرآن ونهج البلاغة وكنت أحرز نتائج ممتازة وأستلمتُ عدة هدايا ..أقلام..دفاتر.. سجادة للصلاة ..مسبحة وأشياء أخرى. كان البعض من الزملاء يأتون لي ويطلبزن مني أن أكتب لهم مقالة معينه في مناسبات عديدة كي يلقونها على المسرح وينالون من خلالها إحترام المسؤول وكي تكون لهم رصيداً في المستقبل. تعلمت اللغة الفارسية وبدأت أعطي دروساً بسيطة لبعض الزملاء. كتبتُ قصص كثيرة وبدأ بعض الزملاء يطالعونها بشغف لدرجة أن أحدهم قال لي مرة :” أريدك أن تكتب لنا قصة تحتوي على مغامرات ، قتال، جنس، دموع وكل شيء ” . لا زالتُ ذكر قسماً من عناوينها….الرحلة الجهنمية…مرة كانت هناك قرية…الجنس الأخر وغيرها. الشخص الذي كان يقرأها كان يأتي إلي ويناقشها معي طويلاً وأستمرت هذه الحالة ، حالة النشاطات الثقافية حتى أخر يوم من أيام المعتقل الرهيب.
من الأزعاجات التي تحدث لنا هناك في قبور ألأحياء التفتيش الدوري الذي يجري بين فترة وأخرى. كانت عملية التفتيش تُشكل بالنسبةِ لنا جحيماً لا يطاق. دون أن يتم إعلامنابالموضوع تهجم علينا مجموعة من الجنود وهم يطوقون كل الأبواب التي تؤدي إلى الحمامات والمرافق الصحية ثم تقف مجموعة أخرى عند باب القاعتين ويبدؤون بالصراخ وبشكل همجي وهم يأمروننا بالخروج إلى الساحةِ المفتوحة ولا يهم أن يكون الطقس بارداً أو حاراً. يبدأ البؤساء بالركض كأنهم قطيع من الأغنام يهربون من ذئاب متوحشة في جنح الليل . كل شخص يحاول أن يخفي قلمه الرصاص الذي حصل عليهِ بشق الأنفس أو يحاول جاهداً إخفاء الأوراق التي جمعها من علب السكائر الفارغة كي يصنع منها دفتراً صغيراً. ويبقى كل شخص يتضرع إلى الله أن ينقذ دفتره الصغير وقلمه القصير. سمعتُ أحدهم يصرح بحزنٍ دفين ” خذوا كل شيء عدا دفتري وقلمي ” .
وتبدأ الجموع الحزينة تُخرجُ حاجياتها في الشمس المحرقة أو الطقس البارد ونبقى ساعات طويلة ننتظر وتكاد أعصابنا تنهار في وسط النهار من التعب النفسي والجسدي. ويبدأ الجنود بعزل أي شيء يريدون عزلة بحجة أنه مخالف ” للدستور “. ومن يعود وهو لازال يحتفظ بقلمهِ ودفترهِ فهذا من أصحاب الحظ السعيد. وتعم القاعةِ كل أنواع الهرج والمرج فهذا يقول بألم أخذوا كل شيء عزيز كنت قد إحتفظت به كل هذه السنين والأخر يصرخ فرحاً لقد أقنعتُ الجندي وتركني أحنفظ بهذا وذاك.وتبقى عملية ترتيب حاجياتنا من جديد …تعب لا يضاهيه تعب . في إحدى هذه العمليات المرعبة التي كانت تجري دون سابق إنذار كنتُ جالساً وسط حاجياتي في الفضاء الخارجي وعدد كبير من البؤساء يجلسون قربي ننتظر دورنا في التفتيش وكان البرد لا يُطاق وجميع حاجياتنا مفروشة على الأرض كأننا في سوق ٍ قديم .جاء أحد الجنود وراح يُفتش في حاجياتي ، لم أهتم في بداية الأمر لأن شيئاً كهذا يُعتبر شيء طبيعي جداً. على حين غرة صرخ ” ماهذا ؟” وكأنه كان قد عثر على صاروخ أو كيس مخدرات. أخبرته بأنها مجرد ” طاقية أو عرقجين كما نطلق عليها باللهجة الدارجة” .أخبرني بغضب من أن هذه الأشياء المدنية ممنوعة هنا وأخرج قلماً وورقة وسجل إسمي ضمن المخالفين . إعتبرتُ الأمر مجرد دعابة سخيفة وربما أراد أن يستحوذ عليها .
جائني الزميل ” عبد المنعم” وقد ظهرت على وجههِ بوادر القلق لأنه هو الذي أهداني إياها بعد إحدى المسرحيات التي مثلناها سويةً. طلب مني أن أخبر الجندي عن مصدرها كي لا يسبب لي بعض المضايقات. لم أهتم للأمر وأخبرته بأنني أتحمل المسؤولية إذا كانت هناك أي مسؤولية . عند الساعةِ الرابعة عصراً حضر نفس الجندي إلى القاعة وهو يحمل ورقة في يدهِ وراح يقرأ بعض الأسماء ومن بينهم أنا.ذهبنا معه لمقابلة ضابط الأستخبارات المرعب. من يذهب إلى هذا الشخص المدعو ” محمدي ” لا يمكن أن يفلت من العقاب القاسي. أسمه يثير الرعب حقاً في قلوبا جميعاً لدرجة الموت. لا يعرف الرحمة أبداً . حينما يضرب أحد البؤساء فأنه يستخدم عصا غليظة مخيفة تجعل المضروب يصرخُ من شدة الألم.وقفنا جميعاً في الرواق الطويل المؤدي إلى غرفتهِ . نظر حامد الراعي إليّ بهلعٍ شديد وطلب مني أن أتوسل اليه أن لا يضربه لأنه لم يرتكب أي خطأ على حدِ قوله ولديه فقرات تؤلمه. كان يتكلم معي وكأنني أنا الذي سأقوم بجلده بعد قليل. كان حامد من شمال العراق وأطلقنا عليهِ لقب ” الراعي” لأنه كان يملك أغنام ويراعاها طيلة الوقت وليس لديهِ أي حديث سوى الأغنام . حاولتُ تهدئتهِ وأنني سأبذل أقصى جهدي لأتحدث مع محمدي عنه وعن مرضه.
دخل أبو نصير غرفة الضابط وكانت جريمته أنه طرز على ” فانيلته الداخلية شعار القناة الخامسة للتلفزيون الأيراني ولا أحد يدري لماذا فعل ذلك.” بعد لحظات سمعنا صراخا يخرج من غرفة الضابط. كان أبونصير يصرخ بأعلى صوته يستنجد باي أحد ولكن لا أحد يستطيع أن يفعل له أي شيء. بعد قليل خرج أصفر الوجه وكأنه شارف على الهلاك. في اللحظة التي وقعت فيها عيناي على أبو نصير قفز قلبي من بين ضلوعي …لم أخف طيلة حياتي بالطريقة التي خفتُ فيها في تلك اللحظة . دون وعي رحت أقرأ أيات من القرآن الكريم وأتضرع إلى الله أن ينقذنا من مخالب ذلك الأنسان الذي لا يعرف الرحمة طيلة توجادنا في ذلك المكان الخالي من الحياة. في اللحظة التي دخلتُ فيها غرفة الضابط وقف الأخير وهو يقول مبتسماً ” آه..أنت الشخص الذي مثل مسرحية الطريق إلى غزة، أليس كذلك ؟ لما ترتكب خطأ أمني؟ ألا تعلم أن وجود أي قطعة ملابس مدنية ممنوعة في هذا المكان؟ على حد علمي أنت رجل مثقف ولذك يجب أن تكون قدوة للأخرين. ” بسرعة البرق رحت أتحدث معه بلهجته ” ولو أنها لم تكن متقنه ولكنه كان يفهم ما أريد التعبير عنه ” . بدأت أشرح له بأننا لم نرتكب أخطاء كبيرة وأن المسامح كريم وهذه آول مرة وأن وجود الطاقية كانت لأغراض العمل الثقافي وتوسلات كثيرة . والغريب أنه وضع العصا المرعبة جانبا وقال بأنه سوف يسامحنا هذه المرة ولكن في المرات القادمة سيكون عقابنا أقسى إن تكرر الأمر معنا. فرحنا كثيراً وكأننا خرجنا من غرفة الأعدام. في طريق العودة نظر إلي حامد الراعي قائلاً ” الحمد لله لأنك تعرف القليل من لغتهِ وإلا لكان عقابنا شديد” . لم أجبه لأنني كنت في حالةٍ نفسية مرهقة.
يتبع…………………………………………………………………….