23 ديسمبر، 2024 5:13 ص

عندما يتكلم الجندي المجهول – 12

عندما يتكلم الجندي المجهول – 12

الحلقة رقم – 12 –
كان يوم 20/8/1991م ليس يوما عاديا كباقي ألأيام. يوما له طابع خاص في حياة أسرى كرند على العموم. شيئا لم نألفه من قبل. دون سابق إنذار جاءت عدة سيارات كبيرة – باصات –. قفزت قلوبنا جميعا وأعتقدنا بأنهم سوف ينقلوننا الى بلدنا. تجمعنا تحت الشمس المحرقه..كل شخص يريد أن يقفز الى داخل السيارة قبل رفيقه. جاء المسؤول وراح ينظر الى وجوهنا الكالحه من شدة الحر والتراب والجوع والعطش، قال بصوت مرتفع:

…” سوف نأخذكم كل يوم الى الحمامات … حمامات السوق…هي حمامات نظيفه وتحتوي على ماء بارد وحار سيذهب فوج بعد فوج…أي بالتعاقب”. وتدافع الجنود ألأسرى غير مصدقين مايجري في ذلك اليوم الفريد في حياتنا جميعاً. وراح يصرخ بصوت مرتفع:

…” الفوج ألأول فقط يتقدم”. وحينما إمتلأت السيارات نادى على ألأفواج ألأخرى. لم أستقل سيارة منذُ خمسة شهور ولم أشاهد أي بشر من الناس سوى الجنود ألأسرى طيلة تلك الشهور.دخلنا الحمام كل خمسه مع بعض. ووقفت لأول مره منذ خمسة شهور تحت الدوش الحار. يالهي كم أن الماء لذيذ!!!. كنا نتسابق للوقوف تحت الدوش كأننا مخلوقات شيطانية قادمة من كوكب أخر. نتخاصم لأختطاف الصابونة من بعضنا البعض..والبعض يدفع البعض ألأخر للوقوف أطول فترة ممكنة تحت الدوش. البعض يضحك بصوت مرتفع كأنه مجنون من الدرجة ألأولى. وأنتهت الحفله الجهنمية في لمح البصر.وركبنا السيارات مره أخرى لنعود الى قبورنا وجحيمنا اليومي.كم كنت متشوقا لسيكاره واحده..سيكارة واحدة فقط.. ولكن من أي لي أن أحصل عليها؟؟؟. لو قال لي شخص ما في تلك اللحظه” أعطيك سيكارة واحده ألأن على أن تعيدها لي حينما تعود يوما ما الى بلدك..بعشرة أضعاف..أو لنقل مئة علبه لوافقت فورا.” . نظرت من خلال نافذة السيارة التي لاتزال واقفه.كانت أفواجا من الماره من تلك لمدينة الصغيرة تنظر الينا..الناس لايعرفون من نكون؟ هل نحن سجناء؟ هل نحن مختطفين؟ هل نحن أسرى؟ ولولا الحياء والخوف من العقوبة القاسية لصرخت بأعلى صوتي” أيها الناس في هذه المدينة..نحن محتجزين بلا ذنب.. نحن نتضور جوعا.. الرحمه..نريد قطعه من الخبز أو قطعه من الخضراوات..أو سيكارة واحدة فقط..”.

راح الجنود المكلفين بحراستنا يدفعون الجماهير المتسائلة عن هويتنا أو من نكون؟ نمت تلك الليلة والى جواري أبا مريم ..كئيبا أفكر بذلك النهار وكبف إنتهى؟ رحت أستعيد إستذكار جميع الصور التي التقطها ذهني منذ لحظة دخولي تلك المدينه الصغيرة وحماماتها وذلك الماء الحار المتدفق بلا إنقطاع. أه أيها الماء المتدفق كم أنت رائع! كم أنت عظيم! ثم إستذكرت ُ صوراً لأطفال كانوا يركضون خلف سياراتنا ونساء يحملن حقائب صغيرة ذات ألوان مختلفة ورجال يرتدون قمصاناً نظيفه وأحذية جلد.كل هذه ألأشياء التافهة كانت بالنسبه لذهني وروحي أشياء عجيبه كأني لم أر مثلها طيلة حياتي. كانت تلك الليلة فريده من نوعها فقد كان المعسكر من أقصاه الى أقصاه يعمه السكون والهدوء التام . كان جميع ألأسرى المعذبون في ألأرض يرقدون بحزن وفرح في نفس الوقت بسبب ذلك النشاط غير المتوقع . خمسة أشهر في ألأسر بمثابة يوم واحد لأن جميع ألأيام تمر واحدة متشابهه ليس لها لون أو طعم محدد. نسيتُ أن أذكر أنه في بداية الربيع جاءت ماكنة حراثه وراحت تحرث ألأرض المحيطه بالغرف القذره التي كنا نسكن فيها. بدأت الماكنه تهدر بصوتها المألوف وهي تشق ألأرض. كان المشهد بالنسبة لنا غريباً..ممتعاً..لم نر شيئا مثل هذه الماكنه منذ زمن بعيد. كان سائقها يرتدي الملابس الكرديه. تجمعنا حوله ننظر اليه وهو يشق ألأرض بماكنته. بعد يومين جاءت مجموعة من الرجال وراحت تبذر ألأرض ببذور الحمص. فرحنا فرحا عظيما فقد هجمنا على تلك الحبوب بعد ذهاب الفلاحين. رحنا نلتقط تلك الحبوب ونمضغها بصعوبه وكأننا بركان من الحشرات الهائجه. مسحنا تلك ألأرض وأصبح ألأنسان يفتش تفتيشا دقيقا كي يجد له حبه واحدة فقط. وأنتقل الخبر الى الفلاحين المساكين فجاءوا مسرعين فلم يجدوا حبه واحده من تلك البذور.إستشاطوا غضبا وراحوا يسبون ويشتمون ويلعنون وعادوا من جديد يبذرون ألأرض ووضعوا حارسا كي يحمي ألأرض من الديدان البشرية. نجح الفلاحون الى حد ما في حماية أرضهم من الزحف البشري الجائع. كان بعض ألأسرى يهجمون في جنح الليل ويسرقون قليلا من الحبات الظاهره فوق سطح ألأرض.سقطت ألأمطار الغزيرة على تلك الحبات وتدفقت ألأرض ألأرض خضراء بعد مدة من الزمن وأرتفعت سيقان الحمص. أخذتُ أنظر الى المحاصيل النباتية الخضراء وأنا أفكر مع نفسي وأقول” ياالهي..لقد مضت دورة حياة كاملة وأنا لاازال في هذا المكان القذر” وجاء الحصاد وبدأت جموع الفلاحين تحصد نبات الحمص بعد أن أصبحت سيقانه صفراء كأنها سيقان الحنطه عند الحصاد. أرعبني منظر الحصاد فقد أحسستُ أن الزمن يمضي سريعاً وأنا هنا كأنني جماد لاأقوى على الحركة. حركة الحياة تؤدي دورتها الطبيعية في حين أن دورة حياتنا معطلة عن الدوران. الحياة في كرند رتيبه وقاسية جدا. يحس ألأنسان أن المساحة الواسعة التي يُسمح لنا بالتجوال فيها تشهد قصصا عديدة كل يوم. كل مجموعة تحاول أن تجد لها مهربا للخلاص من الزمن الكئيب وتحاول أن تقضي على رتابة الحياة اليومية عن طريق ممارسة نوع خاص من النشاط. تجد مجموعة رياضية قد إختطت لها ساحة كرة قدم وراحت تلعب ليلا ونهارا كي تمضي الزمن الصعب ومجموعة أخرى راحت تقرأ القرآن بصورة مستمرة ومجموعة أخرى إفترشت ألأرض وصنعت لها سوقا تبيع فيه أي شيء يقع في يدها. أما المجموعة ألأخيرة فقد صارت تسير كل ساعات النهار في حركة دؤوبه لاتتوقف إلا عند النوم. أما أنا فقد وجدت لي طريقه لقضاء الوقت ألا وهي قراءة القرآن في مكان خاص بي. عثرت على عدد من العواميد الحديدية النحيفه وصنعتُ لي …كبره…كما يقولون في اللهجه الدارجة حيث ثبتت العواميد بالقرب من مزرعة الحمص القريبة جدا من الغرفة التي أسكنها مع زملائي. غطيتُ تلك العواميد ببطانية كنت قد حصلت عليها بطريق الصدفه. كان المكان صغيراً بيد أنني شعرت براحة تامه وخصوصية مطلقه. كنت أستعير المصحف من ألأخ نبيل المصري…هذا الشخص نبيل ألأخلاق ويتمتع بأنسانية عالية لم أجد مثيلها في أي شخص عراقي هناك. أتمنى أن أصف ذلك الشخص بكل دقه ولكنني مهما حاولت فأنني أقف عاجزا أمام نبله وصدقه وأخلاصه وأخلاقه العظيمه.هذا الشخص هو قصه كامله بحد ذاتها. يشكل لوحده تاريخ طويل من العذاب ألأنساني الحقيقي. جاء من مصر الى العراق طلبا للرزق مع شخص أخر أسمه صلاح وسكنا مدينة كركوك كعمال في أحد معممل البلوك وحينما إشتدت ألأزمه وأشتد القصف شعرا بالخوف وخطورة الموقف فجاءا الى السليمانية ومن هناك أجبرهما ألأكراد على دخول البلد الذي نحن فيه مع خمسة آلاف رجل عسكري. كان نبيل من عائلة فقيرة ووالدته متوفية . هذا ماكان يخبرني به دئماً. متدين من الدرجة ألأولى. كان قد جلب معه قرآن من مصر وظل يحتفظ به سنين طويلة. كنتُ أستعير القرآن منه وأجلس في عريشتي، أي الكبره وأقرأ ساعات طويله. ختمت القرآن عدة مرات، وعندما يتسلل ألأنهاك الى جسدي يأتي ويجلس قربي ويبدأ هو بتلاوة القرآن. كان كريماً لدرجه لايمكن مقارنتها مع أي شخص عراقي هناك.

في إحدى المرات وعندما نفذت نقودي ولم أعد قادراً على شراء سيكاره واحده ..نظرتُ اليه قبل مغيب الشمس في ذلك اليوم الشتائي وقلتُ له بحياء شديد:

…” أخ نبيل أنا محتاج سيكاره واحده فقط..كيف أتمكن من الحصول عليها؟ الكل هنا يبيعون السكائر ولكنها باهضة الثمن وليس معي ديناراً واحداً”. نظر نحوي بحنان أخوي وهو يقول:

…” لاتهتم إن الله كريم….إبق هنا وسوف أعود بعد قليل”. كان هو لايدخن وبعد دقائق قليلة عاد وهو يقول بسخاء لاينتهي:

…” تفضل هذه علبة كاملة من السكائر..حاول أن تقتصد بها”. نظرتُ اليه والى العلبة وأنا لاأصدق ما أرى. شعرتُ أنه كان قد وصل الى أعلى درجات الكرم في التاريخ ألأنساني المعاصر..أحسستُ أن تلك العلبة تساوي شيئاً ثميناً جداً في زمان ومكان ما. طوقتني الذكريات وعصفت بي ألأحلام القديمة وكيف كنتُ أدخن سيكارة مارلبورو وأنا جالس في فندق الرشيد مع أحد الصحفيين ألأجانب أتبادل نعه أطراف حديث طويل حول مواضيع مختلفة…أو عندما كنت أدخل ألأسواق الحره وأشتري ماأريد من أي نوع من أنواع السكائر. دون وعي قلتُ له” إنشاء الله سوف يعوضك الله عن هذه أضعافاً مضاعفه”. إبتسم بهدوء قائلاً:

…” لاتهتم ياأخي..المسلم أخو المسلم..وطالما لديّ نقود فسوف أشتري لك علبة سكائر كلما نفذت واحده”. شعرتُ بقشعريرة وأنا أستمع لهذا الكلام. عادت لي كافة صور المصريين في العراق.أنا شخصياً كنت أحمل لهم صوراً متحفظه وكنت أعتبرهم من الدرجة الثانية..ولكن تصرفه النبيل معي جعلني أعيد النظر في تصوراتي الخاطئه. وأستمر يشتري لي علبه بعد أخرى دون أن أطلب منه ذلك..يالهذا الكرم النادر!!!.

أما صلاح المصري فهو ألأخر مثال الرجولة والحب ألأخوي الصادق وألأنسانية التي ليس لها حدود. في إحدى المرات كنت جائعا لدرجة الموت. لو طلب مني شخصاً ما أن يقدم لي قطعة صغيرة من الخيار أو الطماطة على أن أعيدها له بمقدار عشر كيلوات عندما أعود الى البلد لوافقت على الفور.كان بعضهم يتاجر بالخيار والطماطه حيث يشتري من ألأيرانيين ويبيعها في السوق الذي تحثت عنه سابقاً. كنتُ أنظر الى الذين يفترشون ألأرض وقد وضعوا أمامهم مقدار ئيل من الخيار والطماطه وكل جندي يصرخ بطريقه بائسه:

…” خيار تازه..طماطه حمره..”. كنت أنظر اليهم وأتحسر من ألألم النفسي والجوع الشديد الذي لايرحم أبداً. تمنيت أن يكون لدي قليل من النقود كي أعمل طبق صغير من السلطه مع الرز عند الساعة الثالثه عصرا. كان مشهد الباعه يثير في نفسي شفقه وتعاسه أكثر من تعاسة الجوع والحرمان…فهل هذا هو الجندي العراقي الذي إشترك في معارك طاحنه لاتعد ولاتحصى؟ إنه المصير المحتوم. يالسخرية القدر ويالقساوة الزمن الصعب. لاأدري هل أنظر الى بؤس هؤلاء الذين كانوا ضحية معارك صدام التي لاتنتهي أم أنظر الى الى حالتي المزرية التي وصلت الى هذه النقطه البشعه في تاريخ الانسان البشري وسقوطه صريع الظروف الصعبه والفاقه التي لاترحم؟ من بعيد شاهدت صلاح وقد وضع يداه في جيبي قمصلته..تقدمت نحوه في حياء كبير وبادرته بالقول:

…” صلاح لدي شيء أريد ان اقوله لك وأرجو أن لااسبب لك بعضا من ألأحراج”. وقف قربي وراح ينظر اليّ وقد ظهرت على شفتيه إبتسامه هادئه وهو يقول:

…” تفضل…قل ماتشاء وأنا تحت أمرك”. بسرعة البرق أخرجتُ هويتي المدنية الصادرة من وزارة ألأعلام …دائرة ألأعلام الخارجي وقلتُ بأرتباك:

…” لاحظ، هذه هويتي إقرأها جيداً ..لم يشاهدها أي إنسان حتى هذه اللحظة.إحفظ ماكُتب فيها. أنا محتاج خمسة دنانير لغرض شراء قليل من الطماطه. أكاد أموت من الجوع وإذا عدنا الى العراق سوف أعطيك عشرة أضعاف ماتعطينني.إذا ذهبت الى العراق قبلي سأعطيك عنوان شقيقي الكبير وقل له بأنك تطلبني خمسون ديناراً .. سوف يعطيك المبلغ فوراً”. ظهرت في عينيهِ مُسحه من الحزن وقال على الفور:

…” إخفِ هويتك ولاتجعل أي إنسان يراها ..هذه الهوية سوف تسبب لك مشاكل إن إطلع عليها أحد هنا. خذ هذه خمسة وعشرون ديناراً إنها هبه لك . إذا إحتجت لمبلغ أخر في المستقبل لاتتردد في طلبه مني…أنا أخوك ونحن في شده”. سلمني المبلغ وذهب دون أن ينتظر مني جواباً. نظرتُ الى الورقه من فئة الخمسة وعشرون ديناراً. كانت أصلية كما يُطلق عليها في ذلك المكان. شعرتُ عندها بأنني أمتلك الكره ألأرضية كلها. تقدمتُ نحو أحد الجنود الباعة وقلت له” إعطني بخمسة وعشرون دينارا طماطه وخيار”. ظل الجندي البائس مثل بؤسي ينظر الى الورقه غير مصدقاً أن إنسان يشتري منه كل هذه الكمية وفي لحظة واحده.حينما طال تدقيقه في الورقة النقدية صرختُ به:

…” لا تخف إنها ورقة أصلية وليست طبع”.

بسرعة متناهيه راح يحسب لي عدداً من قطع الخيار والطماطه. وضعت البضاعة في كافة جيوبي وركضت نحو أحدى الصخور القريبة. إتخذتُ منها مكاناً أميناً كي لايراني أحد الزملاء الجائعين. نظرتُ ذات اليمين وذات الشمال كي أتأكد من عدم وجود شخص ما ينظر الي وبالتالي أضطر لتقديم واحده له. بدأتُ أخرج الواحدة تلو ألأخرى وألتهمها التهاماً كأنني لم أذق هذا النوع من الخضراوات في حياتي. عندما أنهيتُ القطعة الأخيرة شعرتُ بأمتلاء معدتي وشعرت برغبة شديدة للنوم. إستلقيتُ الى الخلف ووضعت يدي فوق عيناي كي أمنع أشعة الشمس من التسلل الى عينيّ. فجأةً راحت دموعي تنهمر لتغطي الوديان والسهول الممتده في هذه الغربه التي لاتنتهي أبداً. عادت الذكريات القديمه تهجم على روحي وتوقظ في ذاتي أشجاناً لاتنتهي. في اليوم التالي كنتُ جالساً في ” كبرتي” أي السقيفه التي صنعتها لي في الهواء الطلق. كنتُ أقرأ القرآن وكان بعض الجنود العراقيين يلعبون كرة القدم على مسافه قريبه مني والبعض ألأخر يقف عند الخط ألأبيض لساحة كرة القدم ينظرون الى اللاعبين وهم يركضون بصعوبة بسبب نقص المواد الغذائية. من بعيد كان هناك جنديا إيرانياً – الحرس –، لاأدري لماذا تقدم نحوهم في حين أن مكان حراسته يجب أن يكون عند ألأسلاك الشائكة أو عند باب النظام. صاح على اللاعبين والمتفرجين أن يتفرقوا ولكن أحاً لم يُعرهُ أي إهتمام..وبدون أدنى حذر صوب الحارس فوهة بندقيته وكأنه كان يريد إخافتهم. وهدرت طلقه من بندقيته وصاح أحد المتفرجين بأعلى صوته وسقط على ألأرض مضرجاً بدمائه. لقد مزقت الطلقه قدمه اليسرى. ركض اللاعبون نحوه كي يحملونه صوب باب النظام حيث يتواجد رئيس الحرس وإرتعب الجندي الذي أطلق الرصاص. لم يُصدق ماكان قد حدث وراح يصرخ بأعلى صوته” لم أقصد أن أُطلق الرصاص..لم أقصد أن أطلق الرصاص”.أما أنا فقد أصابني الرعب فقد مرت الطلقه قريباً من مكان تواجدي.حملت المصحف الكريم وركضتُ نحو الغرفه التي أسكنها مع زملائي خوفا من حدوث إطلاقه أخرى.ظل المسكين يصرخ من ألألم وهو ممدد فوق التراب تلفح وجهه الشمس والجنود ألسرى يحيطون به لايعرفون ماذا يفعلون.جاء الجنود ألأيرانيون يركضون مذعورين لحدوث تلك الضوضاء.حملوه الى الغرفه القريبة من باب النظام وبعد فترة نقلوه الى المستشفى. بعد شهر أو أكثر عاد وهو يمشي على عكازه..كانوا قد قطعوا قدمه اليسرى.ظل يعاني من عذاب لاينقطع حتى عودته الى العراق.

كانت هناك ظاهره غريبة لم أُشاهدها طيلة حياتي في بلدي ألا وهي ظاهرة القمل..ياالهي! القمل في معسكر كرند لاينتهي أبدأً. كان القمل يمشي على جدران الغرفه في خط يشبه سير النمل. حاولنا عدة مرات التخلص منه إلا أننا فشلنا في ذلك. أخيراً إضطررنا الى إشعال نيران كثيفه داخل الغرفة وحملنا عيداناً خشبية متوهجه وشرعنا نُحرق الجدران الواحد تلو ألأخر.أما مشكلة الماء فقد كانت صعبه جدا جدا، في البداية كنا نشرب من ألأبار المحفورة قديما. بعدة مدة من الزمن بدؤا يرسلون لنا سيارة حوضية وكنا نقف في طابور طويل كي نحصل على حصتنا من الماء. فجأة تحول سائق السيارة الحوضية الى تاجر من الدرحه ألأولى. كان الجنود ألأسرى يعطوه نقوداً كي يجلب لهم البضائع التي يحتاجونها لبيعها في السوق المحلي الذي شيدوه في كرند.يوما يعد أخر كانت حالتي تسوء فقد أصبحت ألاسعار ترتفع وأنا لااملك أي مبلغ من المال. في يوم من ألأيام إحتجت سيكارة واحدة فباعني إياه المدعو” …………” بدينارين وبعد ساعات أخذ يطالبني بالثمن لأنني في البداية أخذتها منها بالدين المؤجل. هذا الشخص تحول الى تاجر من الدرجه ألأولى، فقد جاءت والدته من العراق لزيارته. هنا وبين قوسين كما يقولون ..ينبغي التوقف قليلاً أزاء هذا الحدث الجبار الفريد من نوعه في العالم.لقد ذُهلتُ لهذا الحدث كما ذُهل الكثيرون أمثالي.!!. كيف تستطيع إمرأه أن تخترق كل هذه المساحات الوعره الشاسعه وهذه ألارض التي يبدو أن ليس لها نهايه وبالتالي تأتي لزيارة ولدها.شعرتُ أنني يجب أن أقف لها إحتراماً وإجلالاً..لايمكن أن أقول عنها سوى..أنها إمرأه فولاذية حديدية لايمكن أن تجاريها إمرأه في العالم.بوركت أيتها ألأم التي ضحت بكل شيء كي تصل الى ولدها.إنها قوة ألأمومة الكامنه في قلبها.كانت قد تنكرت بزي ألأكراد كما يبدو أنها دفعت أموالاً طائلة كي تصل الى أقصى ألارض وفي ذلك الظرف الصعب. كانت قد أعطت ولدها سكائر كثيرة وأشياء أخرى. راح يشتري مواد متنوعه ويبيعها في السوق. لقد إرتبط مصيري بهذا الشخص لحين عودتنا الى البلد عام 2001..وحينما أصل الى معسكر برندك سوف أذكر هذا الشخص في أحداث أخرى عندما أستعرض بعض ألأشخاص الذين كانت لهم علاقه بحياتي هناك.

عندما جاء يوم 26/8/1991م تحولت الحياة في كرند الى شيء أخر. جاءت السيارات..سيارات مختلفه وفرحت القلوب وطارت ألأنفس في مساحات فضائية واسعة من السرور وألأبتهاج. أخبرونا بأننا سوف نعود الى البلد” هذا ماقالوه لنا”. وبين مصدق ومكذب صعدنا السيارات وكل واحد منا يحلم أحلاماً ليس لها حدود. وإنطلقنا ليلاً نشق عُباب الهواء ونقطع مسافات شاسعة جداً من الطرق المختلفه..مرت بنا سهول ووديان لاحصر لها. حينما أشرقت الشمس وجمت القلوب وتحطمت ألامال وذابت ألأحلام وتلاشت كل فرحه طفت على سطوح القلوب الحائره. توقفت السيارات أمام أحد المعسكرات وبقينا ننتظر عدة ساعات. كنا نشاهد منتسبي المعسكر من الضباط والمراتب يدخلون من باب المعسكر وقد جاءوا لتوهم من بيوتهم. لاأحد ينظر الينا وكأننا نكره تماماً أو ربما أنهم كانوا قد إعتادوا على هذا المشهد طيلة سنين. فجأةً سمعتُ أحد الزملاء” جعفر” وهو يجلس في المقعد الخلفي يقول بصوت ساخر” نكوع..والله العظيم نكوع”. حاولتُ أن أفسر هذه العباره مع نفسي دون الرجوع الى أحد ألزملاء.وفي النهايه عرفت أن معناها هو اننا سنبقى في هذ المكان سنوات طويلة ولن نعود الى بلدنا الا بمعجزة.وكان صادقا في تحليله فقد خرجنا من المكان بعد عشر سنوات.

ترجلنا من السيارات وبدأنا نسير داخل المعسكر الموحش. كان معسكرا للاسرى من حرب الثمانينات. كانت خاوية تماما فقد رحل عنها سكانها. شاهدنا آثارهم هناك. آلاف من الاوعية المعدنية والبلاستيكية تكومت في تلال غير مرتبه. حقا ان منظر تلك الاواني يثير في قلب الانسان نوعا من الحشرجه والخوف.يالهي هذه اطلال الاسرى المساكين الذين قضوا اجمل سنوات حياتهم في هذه الاماكن. شاهدنا ذكريات كثيرة خطت على الجدران وهي تحكي معاناة جيل كامل كان قد عانى الشيء الكثير. إذن هذه هي النهاية. معسكرات متشابهه وحراساً وجنوداً وأسلاكاً متشابكة. تجمعنا على شكل طوابير طويله وجاء الحراس كي يُسكتوا ألأصوات التي كانت تدمدم ..تسأل عن مصيرها المجهول. وجاء السيد ألآمر بسترته العسكرية المفتوحة من ألأمام وجاء معه رجل طويل القامه مدني وراح يترجم لنا مايقوله ألآمر.قال ألآمر:

…” سوف نقدم لكم خمس سكائر في اليوم الواحد. وجبة طعام حاره أيضاً..وفراش وسرير. من يحاول الهرب سنطلق عليه الرصاص في لحال. من يحاول التقرب الى الجنود سوف يعاقب.من يحاول أن يحدث شغب وإضطراب سوف يعزل في مكان لوحده”. وراح المترجم يضيف من عنده مايشاء لأننا لانجيد لغتهم. فجأةً قال ألآمر:” كل واحد منكم مسؤول عن نفسه ولايجب أن يتدخل في شؤون ألأخرين. ألأن سلموا هوياتكم وبطاقاتكم الشخصية..يجب أن لا تبقى ورقه واحدة في جيوبكم. سوف نعيدها اليكم حينما تعودون الى بلدكم”. وبسرعة البرق أخفيتُ هويتي المدنية في سروالي الداخلي وأعطيتهم دفتر لخدمة العسكرية كما فعل باقي الجنود ألأسرى. ظلت الهوية في سروالي الداخلي مدة من الزمن الى أن إضطررتُ لتسليمها حينما نقلونني الى السجن ألأنفرادي الخاص الذي سأتحدث عنه لاحقاً. تم توزيعنا على …البخشات…أي المعسكرات وكان نصيبي معسكر” جهان أره”. معسكر قديم يتكون من قاعتين ضخمتين..عددنا 750 شخص. كان مزدحم جداً وكل شيء فيه مزعج ويثير القرف.كل حركة تريد القيام بها لا تستطيع إلا بشق ألأنفس. مضت ألأيام ألاولى قاسية مضطربه فالوقت كله موزع مابين الكفاح من أجل الحصول على ” سطل” من الماء والحصول على خمس سكائر والركض خلف موزع الشاي من أجل الحصول على قدح صغير. فجأةً وجدتُ نفسي أُدرّس مادة اللغة ألأنكليزية لبعض الزملاء المقربين، فقد رجاني بعضهم لقضاء ذلك الوقت المرعب المقيت.وجدتُ سعادة بالغة في بداية ألأمر للقيام بذلك العمل.كان هدفي نبيلاً جداً. لم أكن أعلم أن الحياة هناك قد بدأت تتحول الى شيء أخر. كنت أعتقد أن جميع ألأفراد الذين يعيشون معي طاهري القلوب . لم أكن أتصور أن ألأشخاص هنا متلونين وكل واحد يبحث عن مصيره حتى لو كان على حساب ألأخرين.وجاءت الطامة ألكبرى. الليلةِ التي تم فيها القبض على البريء.

كنت مستلقياً على فراشي في ظهيرة أحد ألايام حيث وصلت درحة الكآبه الى ما لانهايه. جاءني أحد الزملاء المقربين وهو يقول بذعر” إنهض. ضابط ألأستخبارات ذكر إسمك مع بعض ألأشخاص ألأخرين”. نهضت مذعوراً على الرغم من درجة ألأعياء التي كانت تسيطر على كل عضو من أعضاء جسدي المنهك.أحسستُ أن ثمة خطر ما يلوح في ألأفق. توجهت الى الباب الرئيسي . كانت مجموعة من ألاسرى قد إصطفت بصمت حيث يقف رجلاً ضخم الجسد. كان يقف الى جانبه شاب قصير القامه” سامحه الله” إسمه “قاسم الزاهدي”. حينما وقعت نظراتي عليه قفز قلبي من الهلع وشعرتُ أن ألأمر لايخلو من الخطوره والجدية في مجريات سيل ألأحداث. حينما وقفتُ الى جانب بقية ألأسرى همس الشخص المذكور آنفاً في أذن ضابط ألأستخبارات. نظر اليّ ألخير وحاول أن يجعل نظراتهِ تبدو طبيعيه ولكنني أدركتُ منذ اللحظةِ ألأولى أنه قد وجد في وجهي شيئاً ما. بعد قليل قال الضابط” إنصرفوا ألأن..عودوا الى قاعاتكم”. كان الشاب القصير يحمل كل معاني الحقد ..لقد سمعتُ الكثير عن هذا الشخص فقد قال لي أحدهم بأنه كان قد إغتصب إحدى قريباته وفر من العراق كي يتخلص من ألأنتقام من أهل الفتاة. كان يحاول إيذاء ألأسرى بأي طريقه كي يكتسب ثقة الجانب ألأخر. لقد ركزّ عليّ هذا الشخص وكنتُ مرات عديده أدرّس صديقه المدعو” سدير”. لقد حذرني منه بعض ألأصدقاء ولكنني لم كنت لاأهتم له مطلقاً طالما إنني لم أرتكب أي خطأ يجعلني أتعرض للخطر—أو هذا ماكنتُ أتصوره—

عدتُ الى فراشي تتقاذفني الملايين من ألافكار والشكوك والهواجس المرعبه. لم أستطع تناول طعام الغداء في ذلك النهار. لم أعد أطيق أي شيء.أحسست بأقتراب ساعة الصفر. لم أعد أر نفس ألأشخاص الذين يدخلون القاعة الكبيرة. كنت أشاهد أشباحاً قد تمزقت صورها الحقيقية وتحولت الى هياكل عظمية تسير هنا وهناك بلا هدف. منذ تلك اللحظة فقدت طعم ألأستقرار. في البداية حاول بعض ألأصدقاء المقربين تخفيف حدة التوتر التي كانت تعصف بي. حاولوا تهدئة الطوفان الهائج في أعماقي الدفينه إلا أن كل محاولاتهم باءت بالفشل الذريع. كان نداء ألأحساس الخفي داخلي يزداد ويتفاقم كلما تقدمت ساعات ذلك اليوم.إحساس مروع ومخيف. وجاء ألأنذار ودقت نواقيس الضياع عندما بدأ الليل يزحف مغطياً ألأفق بأشرعته الداكنه.

يتبع…..