عندما جلسنا خاف تلك الصفوف الدراسية كانت السماء قد شرعت ترسل أمطارها الغزيرة جدا وكانت ألأرض موحله جدا. شعرتُ بالمياه تنسل من خلال ملابسي العسكرية فتستقر في داخل جسدي. كانت أجسادنا ملاصقه لبعضنا البعض. بقينا على هذه الحالة أكثر من ساعة. كانت أفواج ألأكراد قد دخلت المدرسة وأستقرت داخل الغرفة المخصصة لأدارة المدرسة…وجاءت رائحة الدخان من جراء إضرام النار في كل قطعة آثاث داخل الصفوف.إزدادت الطلقات النارية بشكل مرعب وشعرتُ أن الموت قد أصبح على بُعد خطوات منا. لحظات عصيبة جدا. تمنيتُ أن تنفذ عدة طلقات قلبي كي أتخلص من ذلك ألاضطراب النفسي الذي كان قد سيطر على كل عصب من أعصابي. دون وعي مد أحمد يدهُ ومسك يدي وهو يقول بهلع تام:
…” إمسكني جيدا..فلنمت معا..إنها النهاية..”. جاءت صور من الحياة التي كنت قد عشتها منذ طفولتي حتى لحظة ألأحتظار تلك. جاءت صور متفرقة من المدرسة ألأبتدائية حتى لحظة تخرجي من الكلية..لمحات من خدمتي في الجيش..أحلامي الكثيرة التي كانت تراودني في الزمن الماضي..وفي النهاية قلت لنفسي:
…” سأفكر بأطفالي الثلاثة الصغار قبل أن ألفظ أنفاسي ألأخيرة. تخيلتهم كيف ينامون مع والدتهم في غرفة واحدة؟ وكيف أن زوجتي كانت تُرضع طفلتي الصغيرة.ياالهي كيف ستتحمل زوجتي نبأ موتي؟ كيف ستربي أبنائي؟ ومن أين ستنفق عليهم؟. لم أترك لها سوى عشرة دنانير..ومادا ستفعل بهذه الورقة الصغيرة في أمواج الحياة الصعبة؟ سالت دموع حاره غسلت خدي الملتهب حرارة وإضطراب، وفي النهاية حاولتُ أن أطرد تلك الصورة المؤلمة وأفكر بواقعية الظروف المحيطه بي..وهل ستدوم سلسلة الحياة هنا أم سيتقطع جسدي الى أجزاء متناثرة كما حدث لبعض من أصدقائي في صحراء الكويت من جراء الغارات المرعبة لتلك الغربان السوداء التي تعود الى القوات ألأمريكية والدول المتحالفة معها؟؟……..
الفصل الثاني.
تفاقم ألأوضاع
………………..
ونحنُ نتخبط في ظلال الحيرة والتردد واليأس ونتداول بصوت هامس…هل نستسلم للقدر أم نبقى على جلستنا خلف الصفوف الدراسية وتحت زخات المطر التي لاترحم وإزدياد أصوات الطلقات النارية المنصبه على المدرسة—أقصد وحدتنا العسكرية–، سمعنا فجأة صوتا مالوفا لأحد الجنود الذي كنا قد فقدنا تواجده معنا منذ لحظة تسلقنا سطح المدرسة. كان يصرخ بصوت مرتفع ظهرت عليه نوبة إضطراب واضحه. ظل يصرخ ويقول:
…” أحمد..علي..جاسم..إخرجوا ..لن يقتلوننا..لقد أقسموا لي بأن أي شخص لايقاوم سوف يمنحون له حياته.ليس امامكم طريق أخر. المدرسة محاصرة بآلاف ألأكراد.”
همستُ في أُذن زميلي أحمد الذي إزدادت يده ظغطا على يدي وكأنه قد تأكد من أن الموت قد بدا زحفه بشكل جدي.
…” ماذا تقول؟ هل نخرج؟ وماذا عن هذا الرفيق الحزبي الذي يجلس الى جوارك؟ أعتقد أنهم سوف يمزقون جسده؟
همس أحمد بصوتٍ خافت:
…” فلننتظر قليلا..من يدري قد نجد طريقا آخر للخلاص.”
إزدادت ضربات قلبي لتلك اللهجه الغريبة التي كان أحمد يتفوه بها.شعرت أن تلك الليلة ستكون أخر يوم معه. كان جسده يرتعش بشكل لايُصدق. دون سابق إنذار سحبني من يدي وهو يصيح بأعلى صوته:
…” إذا لن يقتلوننا سوف نخرج..هل سمعتم؟ سوف نستسلم إذا أعطوننا كلمة صادقة بالبقاء على قيد الحياة”.
…” نعم.نعم..لن يقتلوننا…هم أكدوا لي ذلك”. كانت تلك العبارة تصل الينا من ساحة المدرسة التي إمتلأت بالمياه من جراء ألأمطار الغزيرة. بل تردد سحبني بعنف قائلا:
…” فلنذهب…أما الحياة أو الموت…فلنتخلص من جحيم الخوف والقلق.”.
حينما أصبحنا داخل ساحة المدرسة كان الشخص الذي طلب منا الخروج واقفا والى جانبه أكراد كثيرون مدججين بالسلاح لم يحلقوا أذقانهم لشهور طويلة وأحزمة الرصاص تلتف حول رقابهم وأجسادهم كأنها افاعي سامة في جنح الظلام.
بنادقهم غريبة تختلف عن السلاح داخل الوحدة العسكرية التي كنتُ أخدم فيها. مخازن عتاد مدورة الشكل. أرعبني منظرهم بشكل لايُصدق. دفعنا أحدهم وهو يقول:
…” أدخلوا ذلك الصف الدراسي ولاتخرجوا منه إلا بأمري”. شاهدتُ جنود كثيرون يجلسون على ألأرض.كانوا من وحدات عسكرية مختلفة. شاهدت أحدهم يفتش في حقيبتي فرحا لأنه كان قد حصل على شيء ثمين. حينما سألته عن تلك الحقيبة قال بأنه وجدها في احد الصفوف الدراسية. إختطفتها منه مخبرا إياه بأنها حقيبتي وقد تركتها حينما تفاقم الوضع وساءت الحالة. شعر بحزن شديد وغضب دفين لأنه فقدَ كنزهُ الثمين الذي كان قد عثر عليه في خضم الرعب والذهول.باصابع مرتعشه بحثت عن أشيائي فوجدتها في مكانها. تنفست الصعداء لأنها تحتوي على أشياء ثمينة جدا بالنسبة لي كنت قد جلبتها من البيت. حينما تأكدتُ من وجود جميع ألأشياء وضعتها قرب صدري كأنني أحضن طفلي الصغير. كان الجنود يُقادون الينا بين فترة وأخرى من مناطق مختلفة. بؤساء القى بهم الدهر القاسي في هذا ألأتون المرعب. إزدادت زغاريد النسوة وهن يُصفقن في الشوارع القريبة من المدرسة وإزدادت الطلقات النارية من النوع ـــ المذنب ــ . فجأة هدأ كل شيء بناءا على إشارة كان أحدهم قد أعلنها في الفضاء، يدل على ان المنطقة التي نحنُ فيها قد أصبحت أمينة وتم السيطرة عليها من كافة الجوانب.
إنبثق الصباح وأشرقت شمس جديدة لم أشعر لها طعما كما كان ذلك بالأمس. أحسستُ أنني في مكان أخر وحياة أخرى…غريب تماما في بلدي.نظرتُ الى الملازم ألأول ” نبيل” فلم أُشاهد نجماته التي كانت قابعة على كتفيه بشموخ حينما شاهدته لأول مرة في صحراء الكويت. شحب وجهه وتحولت نظراته الى نظرات خوف وقلق وإضطراب. عندما سالته عن عدم وضع نجماته الجميلة قال بصوتٍ هامس:
…” باالله عليك إترك هذا الموضوع منذُ هذه اللحظة. إنهم يبحثون عن الضباط ورجال ألأمن وألأستخبارات. منذُ هذه اللحظة أنا جندي مثلك ولاتُخبراي إنسان عن رتبتي لأن ذلك سوف يؤدي بحياتي الى التهلكة.”وحينما اشرتُ الى حذائه ألأحمر الخاص بالضباط وبدلته العسكرية المرتبه جدا قال بأضطراب:
…”لا يهم سأتخلص منهما حالا.فقط الزم جانب الصمت وتظاهر بأنك لا تعرفني منذ هذه اللحظة.”
جلستُ على ألأرض متهالكا محطم النفس وراحت أفكاري تبتعد الى الوراء قبل خمسه وأربعين يوما….تذكرت اللحظة التي دخلت فيها هذه الوحدة العسكرية وكيف قطعت مسافة اكثر من ثلاثة كيلو مترات وسط صحراء مخيفة وذات سماء ملبدة بالغيوم…والطائرات ألأمريكية تحوم بشكل مرعب كأنها غربان سوداء تريد ألأنقضاض على أي شيء أمامها. كنتُ مع مجموعة من الجنود جئنا من مدرسة القتال”…..” كي نلتحق الى قطعاتنا في صحراء الكويت..في العشرين من كانون الثاني عام واحد وتسعون. كان الجندي الذي يعمل في قلم الوحدة قد إستلمنا من مقر الفرقة”…..” ورافقنا الى اللواء”…..” . كان يطلب منا أن نركض وسط الصحراء كي نتخلص من الطائرات. بين فترة وأخرى يأمرنا بصوت أجش ان نستلقي على ألارض كلما شاهد طائرة تحوم في الفضاء الفسيح تبحث عن هدف عسكري. أخبرنا بأننا سوف نصل الى مقر الوحدة في غضون ساعة ونصف إذا إستمرينا في الهرولة. كانت الرمال تعصف بوجوهنا وذرات الرمال الصغيرة ترتطم بنظارتي الطبية بشكل مسموع. ونحنُ نركض كان يسألني عدة أسئله عن
حياتي وعن أشياء اخرى. . فجأة قال لي بانه سوف يحاول إقناع آلآمر لتنسيبي الى المكان الذي يعمل فيه وهو قلم الوحدة. لاأدري لماذا فعل هذا؟ هل أن مظهري كان يختلف عن بقية الجنود أم انه تعجب حينما قلتُ له بأنني كنت مترجما في دائرة ألأعلام الخارجي قبل إستدعاء مواليدي لخدمة ألأحتياط. سمعته يقول لي بفخر بأنه خريج ثالث متوسط.
في اللحظة التي إقتربنا فيها من الموضع الدفاعي للسيد آلآمر تغيرت لهجته وتحول الى إنسان صارم وراح يعطي أوامره لنا بالوقوف بنظام الى أن يدخل موضع السيد آلآمر كي يخبره بوصولنا. وضعنا حقائبنا على ألأرض وعدلتُ من وضع نظارتي الطبية وبقيتُ أنتظر مع بقية الجنود. في غضون لحظات قليلة خرج السيد آلآمر. شاهدتُ خلفه الملازم ألأول نبيل.دققت النظر اليهما. كانت العلامات المرسومة على وجه آلآمر تدل على أنه لم يذق طعم النوم منذ فترة طويلة من الزمن. كان يضع قمصلة عسكرية على كتفيه وسيكارة في يده اليمنى. شعرتُ بالقلق بعض الشيء دون أن أجد تفسيرا لذلك. شرع السيد آلآمر يتحدث بطريقة ودية وكأنه يريد أن يزيل جزءا من ألأضطراب الذي شاهده فوق وجوهنا جميعا.
…” أهلا بكم في لوائنا التابع الى الفرقة الثانية…هذه هي جبهتنا”. وراح يمد يده الى عدة جهات بعدها أضاف قائلا:
…” نتوقع أن ياتي العدو من هذا الجانب ولذلك ترون بأننا وضعنا كل هذه ألأسلاك وألأعمده الحديدية الطويلة المدببه. إذا هبط ألأمريكان من الطائرات هنا في إنزال جوي فأن هذه ألأعمده الحديديه المدببه سوف تمزقهم إربا إربا قبل أن نطلق عليهم طلقة واحدة، ولوأنني متأكد بأنهم سوف يموتون في الجو قبل ان يصلوا الى هذه ألأعمدة.” شعرتُ وكأن قبضة فولاذية تعصر قلبي لأنني تأكدتُ أن الوضع خطر جدا ونحن قادمون على معاناة وموت حقيقي.إذن سوف أقاتل ألأمريكيين مباشرة. لقد قابلتُ أمريكيين وأمريكيات كثيرون أثناء عملي المدني كمترجم ومرافقا لشبكات التلفزة العالمية. لم يخطر في ذهني يوما ما أن شيئا كهذا سيحدث على أرض الواقع.
عدتُ للأنتباه حينما راح السيد آلآمر يسال كل جندي منا عن أسمه وعن وضعه الصحي والنفسي وعندما جاء دوري ظل يحدق في وجهي ثم قال:
…” من أنت وما هي حالتك الأجتماعية وهل أنت خريج” أخبرته بكل شيء عن نفسي وعن وضعي ألاجتماعي والعملي ولكنه ضحك معلقا حينما قلت له بأنني كنت جنديا غير مسلح وأن لجنة شرحبيل الطبية جعلتني جنديا مسلحا دون أن تفحصني.
…” وأنا كذلك ضابطا غير مسلح ولكنني فجأة أصبحت مسلح..إنها الحرب التي تجعل كل شخص مسلح بين عشية وضحاها”. وراح يضحك بأستهزاء.عندها شاهدت الجندي الذي يعمل في قلم الوحدة يهمس في أذن الملازم ألأول نبيل ويؤشر علي. دون تردد همس الضابط في أذن السيد آلآمر. نظر الي ألأخير وهو يقول:” إذهب أنت الى قلم الوحدة”. وراح يوزع بقية الجنود الى الفصائل والمواضع الدفاعية المحتلفة. عادت الي كل تلك ألأحداث في غضون ثوانٍ قليلة وأنا أنظر الى ذلك الضابط الذي كان قد تخلص من نجماتهِ كي يحافظ على حياته. مجاميع كثيرة من ألأكراد تدخل وتخرج من الشوارع المختلفة. جاءت عدة إطلاقات من المدافع الثقيلة بأتجاه المنطقة التي نحن فيها. نظرت الى الضابط وقلت له:
…” ما هو رأيك ياسيدي؟”. صرخ بذعر:
…” أرجوك لاتقل هذه الكلمة…أشعر أن كلمة سيدي سوف تكون السبب في موتي.إذا سمعك أحد سيخبر عني..إنسى هذه الكلمة بحق السماء..قل..نبيل فقط”. حينما هدأت ثورته وإضطرابه قلتُ له:
…” ماذا نفعل؟ سنموت بمدافع جيشنا التي يطلقها على ألأكراد”. ظل يفكر بشيء لاافهمه.
عندما إنتشرت خيوط الشمس الذهبية فوق الطرقات وأسطح المنازل القريبة ، تجمعنا قرب بوابة المدرسة الخارجية في محاولة لمشاهدة مايجري في الشارع العريض الغاص بالأكراد من كلا الجنسين…وحتى ألأطفال كانوا يحملون الهراوات والقطع الحديدية الطويلة وكأنهم هبوا جميعا لمساعدة آبائهم. أمرنا أحد ألأكراد بالدخول الى رواق المدرسة وعدم ألأقتراب من البوابة الخارجية. كان يُشهر بندقيته نحونا وكانه يريد أن يُثبت لنا شجاعته التي هبطت عليه فجأة بعد أن كان قبل يوم في احدى المغارات الجبلية كأنه فارة صغيرة تخشى إخراج رأسها كي لايقتنصها هر كبير متوحش.
بعد لحظات قصيرة شاهدتُ موكبا مرعبا جعل الدماء تتجمد في عروقي…صُعِقْتُ لذلك المشهد وشعرتُ أن كل عضلة من عضلات جسدي تنكمش بطريقة غير طبيعية. كان السيد آلآمرــ النقيب باسم ـــ مكبل اليدين وإثنان من ألأكراد يسحبانه ومجموعه أخرى من ألأكراد تسير خلفه. .كانوا يصوبون بنادقهم الى ظهره تحسبا الى أي شيء طاريء. فقدتُ توازني..لم أعد أحتمل المشهد فصرختُ باعلى صوتي:
…” إنه السيد آلآمر…إنه ألسيد آلآمر….”
التفت الى جهة الصوت مذعورا وقال للأكراد بصوت جهوري:
…” أؤلئك جنودي..إسألوهم..أنا لم أفعل اي شيء لكم..أقسم لكم إنني لم أفعل لكم أي شيء”. حلت بنا الكارثة عندما إلتفت ألأكراد الينا.
يتبع…….