وفق قاعدة “اخلاق المجتمع انعكاس لاخلاقالسلطة” نجد في مجتمعنا العراقي وفي بعضمجتمعاتنا في العالم العربي، حيث التواضعفضيلة مقدسة، أصبحت الثقة بالنفس تُقابل بتهمة“التكبر” و“الغرور“. هذا الخلط الخطير يحوّلإنجازات الفرد إلى عُقدة ذنب، ويجعل تميّزهالشخصي أو اكتفائه بنفسه جريمة في حقالجماعة. فهل كل من يُقدر كفاءته متكبر؟
إن هذه المشكلة تنطلق من جهل مركب بين سلبيةالتدخل بشخصية الغير وبين الجهل بتفسير سلوكالتكبر وسلوك الثقة بالنفس، وهذا الجهل المركبتؤسسه النخب الرأسمالية الحاكمة داخل المجتمعبثلاثة طرق:
1. تزييف الوعي: بإقناع البسطاء بأن تقدير الذاتخطيئة ضد الجماعة، وتحويل انتباههم عناستغلال النظام الاقتصادي عبر تشويه فضائلهمالنفسية.
2. إنتاج التبعية الثقافية: تكريس فكرة أن تواضعالبسطاء فضيلة، وثقة الاثرياء او من في السلطةحقٌّ طبيعي. كمثال: الموظف الذي يطالب بحقوقهيُوصف بـ“المتكبر“، بينما صاحب العمل “واثقبنفسه“.
3. تحويل الثقة إلى رأس مال رمزي ثقافي تمنحهالمدرسة، الجامعة، الاسرة لخلق ما يسمى المستوىالاعلى. مثل: طالب يُمنح ثقة مفرطة لأن أباهمسؤول كبير، بينما يُوصم ابن العامل بأنه“متكبر” إذا تجرأ على الحلم بالمنافسة.
هذه النقاط الثلاث تجهد السلطة نفسها وتخصصالموازنات المالية في الاعلام والفن والدراساتالاكاديمية لتحقيقها. كمثال: تمجيد تواضع الفقراءك“قدوة“، وتقديس الخنوع باسم “الرضا“.
لكن لماذا تخاف النخب الرأسمالية الحاكمة من الثقةبالنفس لطبقة المجتمع الطبيعية؟
لأنهم يدركون أن الثقة وعي (غرامشي) وتمرد علىالطبقة التي تعتقد زورًا انها “اعلى“، وحين يدركالانسان أن مهاراته تخلق فائض القيمة عن جهده،يستلب هذا الفائض لصالح البرجوازية الحاكمة،فلا يبقى له إلا فتات الأجر. عندها سيسأل بحق: لمَينهب جهدي؟
ومن ناحية اجتماعية عملية نجد أن تهمة التكبرتطلق على الثقة بالنفس ناتجة عن:
1. ثقافة الخواء/ مثلا عبارة “لا تظهر ما عندك” هذهالعبارة تُربي اجيال على إخفاء تميزهم خوفًا من“العين” أو “الحسد“، فتصبح الثقة انحرافًا.
2. الخلط بين التواضع والتذلل: حيث التواضعالحقيقي هو احترام الآخرين دون انتقاص الذات. لكن البعض يريدك أن “تنكر إنجازاتك” كدليل علىادبك وتواضعك!.
3. عقدة النقص الجماعي: عندما يشعر المحيطونبنقص في أنفسهم، تصبح الثقة اختلاف وتهديدًالهم، فيُحوّلون إحساسهم إلى هجوم بصيغةالتكبر.
لذا الثقة بالنفس أن تعرف قدراتك الحقيقيةوتتصرف بناءً عليها، أن تكون مكتفيًا بذاتك دوناحتقار الآخرين، بينما التكبر أن تتعامل مع الآخرينوكأنك أفضل منهم دون سبب موضوعي، بل مجردأوهام بانك الافضل، تزرعها بالنفس السلطةوالاسرة والمدرسة والاعلام وجزء من الفن.
الأخلاق السائدة مثل تمجيد تواضع الفقراء ليستقيمًا مجردة، بل بنية فوقية خلقتها البرجوازيةلتبرير التفاوت الطبقي. وإن تحرير الوعي ضرورة،لكنه غير كافٍ دون مصادرة وسائل الإنتاج منالبرجوازية.
إن تغيير هذا النمط بحاجة الى نظام سياسي حاكميرعى الانسان أولا وهنا يبدأ بتغيير النمط، كماذكرنا في المقدمة (اخلاق السلطة انعكاس لاخلاقالمجتمع)، ثم الاسرة والمجتمع المدني والتعليم فيبناء الثقة الصحية والتواضع الانساني وطرد“التواضع المتذلل” “ومرض التكبر المتخلف” منبيئة حياة المجتمع والانسان ذاته، لكن هل يكفيتغيير السلطة؟ المجتمع نفسه بحاجة لثورة ضد“التواضع المزيف” الذي يكرّسه الأفراد عبر قول: “اسكت ولا تطالب بحقك“.
ولدينا تجارب في العالم العربي ناجحة مثل مبادرة“أنا أشارك” في تونس حيث تحويل المدارس إلىحاضنات للثقة بالنفس لا تنتج عُقدة التفوق، بلوعيًا بالذات وبالاخر. أما في لبنان، فحملة “شومهارتك؟” الإعلامية، التي فككت عن طريق قصصالناجحين الوهم القائل: “إظهار تميزك تكبر“. لكنهذه التجارب تطلق شرارة الوعي، لكنها لا تقوضالنظام الرأسمالي الذي ينتج الهيمنة. فتحريرالتعليم والاعلام يجب أن يقترن بتدمير علاقاتالإنتاج الاستغلالية.
وهنا يظهر أن النظام السياسي الحاكم بيده ادواتالهيمنة القادرة على صناعة تخلف المجتمع أو دفعهالى الأمام.
السؤال: متى ندركُ أن تشويه الثقة بالنفس ليستراثًا نحميه، بل سلاحًا فتاكًا صممته الأنظمةالحاكمة لتحويل طاقاتنا إلى رماد؟.
التغيير يبدأ بوعي فردي يرفض وصمة “التكبّر” حين تطالب بحقّك، وجماعيًا برفض “ثقافةالخواء“. التجارب التونسية واللبنانية أثبتت: تحرير الوعي ممكنٌ إذا حوّلنا التعليم والإعلام منأدوات هيمنة إلى جسور نحو الذات.
والحل ليس في مفاصلة بين الفرد والسلطة، بلالحل لا يكمن في الاصلاح الفردي بل في دفعالمجتمع الى حركات تغيير ثورية تُزيل هيمنةالبرجوازية ثقافيًا وماديًا، وتعيد تملك فائضالقيمة.
فهل ننتظر نظامًا سياسيًا يغيّرنا، أم نكون نحنُ منيخلق نظامًا جديدًا تُصان فيه كرامة الإنسان،وتُحترم فيه ثقته بنفسه؟.