لطالما كنا في حالة استقبال للموجات الوافدة إلينا منذ عقود، وكانت هذه الموجات تحمل معها تغييراً في تركيبة المجتمع وثقافته والتي غالباً ما كانت تتجه به نحو الأسوأ على اختلاف أنواعها سواءًا كانت فكرية، سياسية، فنية أو اجتماعية، مع وجود استثناءات قليلة صنعتها ظروف المنطقة وطبيعة شعوبها فخلقت مزيجاً يستحق أن تتم دراسته بتعمق على أكثر من صعيد، كونه يحمل في طياته العديد من المتناقضات التي لا يمكن فهمها بسهولة خاصةً لأصحاب الثقافات الأخرى التي تحمل في مخيلتها صورةّ معينة عن مجتمعاتنا أو تراها من زاويةٍ واحدة أياً كانت، وقد لا تفهمها إن لم تعش بين أهلها لتراقب عن كثب وتستوعب منبع سلوكياتها وردات فعلها ومزاجها العام..
ومنذ اعتدنا مطالعة الصحف ووسائل الإعلام كنا عرضةً لتلقي الكثير من الأفكار الجيدة والرديئة على حدٍ سواء وفي مختلف ميادين الفكر والفن والثقافة والأدب والحياة، وكان استقبال الناس لها عادةً ما يبدأ بالإستغراب والإستهجان والهجوم الذي لا يلبث أن يتحول إلى نوعٍ من المحاكاة لتلك الأفكار والتماهي معها إن لم نصل إلى مرحلة الذوبان فيها والترويج لها واعتناقها والدفاع عنها وإضفاء صبغة بريئة عليها بعد تجريمها ومحاكمتها سابقاً !!!
فكان المجتمع يلقي بلائمته دوماً على المثقف أو الفنان أو الإعلامي أو السياسي أو حتى رجل الدين، وبطبيعة الحال فإن كل شخص مسؤولٌ عن الدور الذي يقوم به لكن المجتمع لم يعتد أن يلتفت ولو لمرةٍ واحدة ليوجه سهام نقده نحو (نفسه) متحملاً نصيبه من المسؤولية تجاه الحالة العامة، ففي أي نقاشٍ عادي يمكننا أن نستمع إليه داخل أي منزل أو مقر عمل أو مقهى أو حتى في جلسةٍ خاصة سنعرف أن مجتمعاتنا رغم مشكلاتها العويصة ليست بالمغيبة بالشكل الذي يمكن أن نعتقده، فهي تعرف إلى حدٍ ما الفرق بين المثقف الحقيقي ومدعي الثقافة، وتعرف الفارق بين الفن الراقي والفن الهابط، وتعرف الفارق بين الإعلامي الحقيقي وبين من يظهرون اليوم على الشاشة، ولديها فكرة وإن كانت مبسطة عن السياسة، كما تعرف بشكلٍ جيد وصايا دينها كلٌ حسب معتقده، ورغم معرفتها بكل ذلك تختار طوعاً الإنسياق خلف كل موجة والتلذذ بلعب دور الضحية المغلوب على أمرها مع أنها سبب مباشر في نجاح واستمرار كل هذه الموجات على تنوعها، وهي من تتابعها بشغف وتتبادل أخبارها ومقاطعها عبر مواقع التراسل ووسائل التواصل الإجتماعي، وهي من يتداول الفن الهابط ويتابعه ويروج له ويحلم بشهرة من يقدمونه، وهم من يهاجمون كل الوجوه المعروفة ثم يركضون لإلتقاط صورة معها في حال مصادفتها في مكانٍ عام، وهم من يقومون بتصوير تفاصيل حياتهم أملاً في تحقيق عدد من المشاهدات، وهم من يصورون أنفسهم في دور العبادة وسرادق العزاء والمقابر، وهم من يصورون أنفسهم في المستشفيات ويبكون أمام الكاميرات، وهم من يصورون أنفسهم في مقر عملهم بغية الترويج له ولأنفسهم، فبتنا نرى كافة فئات المجتمع من الطبيب والمهندس ورجل الأعمال وعامل البناء والخباز وعامل النظافة يسعون إلى التواجد في بؤرة الضوء مهما كان الثمن، ومهما كان ذلك الأسلوب رخيصاً أو يقدم صورة مزيفة عن الواقع للظهور بشكل يجذب الجمهور ويثير تعاطف الناس الذين يشتركون معهم في الدوران داخل هذه الحلقة المفرغة من الأكاذيب، والتي تنتهي عادةً بمجموعة من المواعظ التي لو طبقها من يقولونها على أنفسهم لما كانوا هكذا..
لذا وتوخياً للإنصاف والعدل وبحثاً عن طرح موضوعي لأي فكرة، يجب أن يتحمل الجميع مسؤوليتهم بدلاً من إلقاء اللوم دائماً على فئات أخرى لمجرد أنها معروفة، فالمجتمع اليوم تغير عن الماضي بشكل شبه كلي ولم يعد هناك من وجود فعلي (إلا نادراً) لفئات (بسيطة) لأن الجميع باتوا بشكلٍ أو بآخر فاعلين ومسؤولين عن كل ما يتداولونه وليسوا ضحيةً له، بل إن جزءًا كبيرًا من العامة بات يمارس ديكتاتوريته على بعض الوجوه المعروفة التي باتت ترضخ لهم وتجاري ذوقهم رغبةً في التواجد لمجرد التواجد ولفت الأنظار بما أنها ارتضت أن تشاركهم في تلك المنافسة وهذا النوع من العلاقات السامة بعد أن امتازت علاقة الجمهور بالفنانين والمثقفين سابقاً بالسمو، والتي ثبت فيها أن معظم من يتصدر المشهد ليسوا بصفوة أو نخب أو موهوبين حقيقيين، كما أن الجماهير بنسبة كبيرة ليست ضحية أو مغلوب على أمرها كما تحب أن يقال عنها، فالجميع اليوم يدرك تمام الإدراك ماذا يفعل حيث لم يعد هناك من مكان للأقنعة التي فقدت معناها ورمزيتها وحتى جماليتها وباتت تخجل من أفعال الكثيرين الذين يستخدمون إسمها على سبيل المذمة..