23 ديسمبر، 2024 1:28 م

عندما تتعرى الشاعرة إلا من حزنها

عندما تتعرى الشاعرة إلا من حزنها

عنوان قصيدة(عارية إلا من حزني) لـ(حميدة العسكري) يدخلنا في حضرة طقس ديني وهي العقوبة الأولى التي عوقب بها الإنسان في بداية خلقه وهو العري في قصة ادم وحواء المعروفة فتبدأ الشاعرة مباشرة في رصد هذه الكينونة عبر الإيقونة الدلالية التي تعرفنا بها الشاعرة والتي تبدو إنها أيقظت روح الشاعرة لتكتب عن هذا الفعل الإنساني(العري) وفي هذا التركيب ما يمنحنا دلالة أن تكون المرأة عارية إلا من وجعها وحزنها .

الطقس الشاعري الذي تصوره العسكري هنا ملفت بدلالة العنوان بما ينطوي عليه من بعد ديني لصورته الدلالية والمعنوية والتناصية حيث ترتبط صورة المرأة بصورة(العري) بدلالته الرمزية والدلالية والشعرية.

فدلالة الخطاب النصي الذي تستخدمه الشاعرة في قصيدتها يبدو وصفيا يعبق بجماليات التعبير بمفردات تستحضرها لتدلل على الأشياء وتعبر عن روح الفكرة ودلالاتها التشويقية لتحول طقوسها الشعرية بخطاب له أكثر من معنى ودلالة، لما تحمله صورها من رموز وشفرات تولد من رحم التأويل.

بدءا بـ(العري) الذي يوحي بالمزج بين الخطيئة وطهارة الذات الإنسانية والصورة هنا في عنوان القصيدة تحمل تناصا مع القرآن الكريم في قصة(ادم وحواء) كما اشرنا سابقا (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْـجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِـمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْـخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إنِّي لَكُمَا لَـمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْـجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْـخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ * يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْـجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)(الأعراف: 19 – 27.) مما يعني ان الذات الشاعرة تعزز فكرة النص بتناص موثوق يستلزم التوحد مع النص القرآني.

ثم تنزاح الصورة إلى تجسيد شيء من البوح والخلجات النفسية التي تبثها الشاعرة إذ تقول 

على أعتاب قارعة قلب
هشيم ورماد معجون بأسى شفيف
حزنا تمطرنا
الآه

قافيتي شاحبة وحرفي متوجع
بذكرى
هوج ، لاح في سمائي برق
خاطفا محبرتي
اللَّهِجة بالأفراح المجزورة عند منحسر فرحة
وجرح مفتوح
يسوق قوافل إحباط
فتتَّكئ القافية على أثير
ألم صاخب
ألم
فافتحي ذراعيك
واخطفيني
يا سماء

النص يعمل على تجاوز الصور لتعزز ما توالد من رحم التجربة،فلغة الشعر هنا تحمل دلالة أن يكون المطر مصدر لتجديد لغز الحياة والانبعاث والتجدد بصورة تدل على قدرة الشاعرة على استخدام تقنيات جمالية رمزية تمكن المتلقي من تأويل النص حسب وعيه وتجربته.

والمطر سر القصيدة في اشتباكه مع جذوة الذات والتي تحمل دلالة الإحساس بعمق التجربة المنطوية على معاناة وبعض التشظي،وهذا الإحساس الإنساني تحول في داخل النص إلى مادة جميلة لها القدرة على الإغراء وهنا يواصل المطر هطوله وهو ما يجسد رغبة الشاعرة في إيجاد آلية للتخاطب مع الآخر الذي تسيد فضاء النص وهيمن على لغة الشاعرة. ثم الانزياح الذي ترغب به الشاعرة هو انزياح السماء أن تمطر وجعا.

ولَهاً ولَهاً ،
ولهفة تنسكب هذه الروح
يا أنينا تحرثه أنامل الوهم
يا سليل الكذبة الموشومة على كتف الجراح
أمطري وجعا تستفيق له سواقي
آه
وعودي يا اجياد الجموح بقبضة شرايين
كانت لعبة لأماني هوجاء
وابذري غرسك على سفوح اليباب
لتنزفي مزيدا من
دماء
ويعتلي النداء
رحماك يا سماء

وهنا نلاحظ الشاعرة تطمع في مزيد من الجمال والبهاء وهو ما جعل الذات الشاعرة تصور انسكاب روحها مطرا تستفيق له سواقي(ألاه) ليدل هنا على رمزية دالة ندرك من خلالها إن الأنا الشاعرة لا تخصص دلالاتها مما يعني إن الشاعرة ربما قصدت بالمطر هو( الآخر) وهي تدل أيضا على حاجة النفس الشاعرة إلى هذا المطر ليبعث في نفسها الحنان والطمأنينة النفسية لان ذاتها معتلة مجروحة بشيء لم يصرح به النص وهو متروك لوعي المتلقي.

هباء
كل ما كان يتوشحني من فرح
هباء
عنق من الروح يطل نحو لهفة
ارتواء
وضحكة حمقاء
رسمت أخاديد ردى ،
ولا ردى
يهب لاحتواء
مقفرة هذه السلال إلا من ذبول سنابل
باكية على شيء ، هو حفنة أوصال
أو خواء
تراقصت حول لهيب ساكبة زيتا على
الهشيم
لتستصرخ من لظى
كما هي الفراشات
بهوج نحو النار ترفرف
مستجدية النور
وظلام ، لاشيء سوى
ظلام
في أفق غيماتك
يا سماء

ثم تأتي حالة أخرى من الدلالة التصويرية في الطلب من(الآخر) أن يكون بلسما لجراحاتها ليكون شفاء لا يغادر في عالم الشاعرة سقما مؤكدة على أساها وولعها وحزنها ما يعكس نبرة إنسانية موجوعة ومجروحة ونازفة لترسم صورة النص الشاعرية ذات الدلالات والمغازي المتعددة حين تشعر بوحدتها وانطوائها في عالم التفرد والغربة الداخلية في صحراء الوجود.

وعلى الرغم من وجود بعض التعبيرات المباشرة والتي تحط من منزلة النص الشعري إلا إننا ما زلنا نبحر في فكر ذات الشاعرة وما فيها من أماني وآمال.

مقفرة هذه السلال إلا من ذبول سنابل
باكية على شيء ، هو حفنة أوصال
أو خواء
تراقصت حول لهيب ساكبة زيتا على
الهشيم
لتستصرخ من لظى
كما هي الفراشات

في هذا المقطع نرى تصريح مباشر لكنه يحمل دلالة رمزية في عالم المرأة(الأنثى) ترمز إلى (الآخر) وحرصها على أن تبقى تحت مظلته نقية طاهرة بكل تفاصيلها وهمومها وخلجاتها وأحلامها.فهي تستصرخ من اللظى كالفراشات ومعلوم إن الفراشة هي رمزا للحياة لتؤكد الشاعرة من خلالها إن روحها حية متجددة أصيلة في هواها وبسمتها رغم جراحاتها.

 ختاما يمكننا القول إن العسكري اختزلت في نصها جمال روحها الشاعرة لغة وتصوير وموسيقى داخلية تعزفها على أوتار أنثوية عكست خلالها الوحدة الموضوعية والعضوية بما اعتملت التجربة في روح الذات الشاعرة وعالمها الداخلي.