شجعتني مقالة داوود البصري والتعليقات الواردة عليها , والتي نشرناها على صفحتنا في الفيس يوم أمس , عن الاستاذ سعد صالح جبر بالكتابة عنه اليوم , سيما وقد دعاني عدد من الأخوة المعلقين بالاستمرار في الكتابة عن عدد من الشخصيات العراقية المعارضة السابقة لنظام صدام . وقد يظن البعض بأنني من الغافلين عن هذا الموضوع , بينما الحقيقة هي ليست كذلك , فتاريخ المعارضة العراقية موّثق عندي بالكامل في كتب متعددة , ما تزال مخطوطة .
وفيما يتعلق بالتعريف بالشخصيات , فهناك كتاب قيد التأليف في مجلدين , انجزتُ حتى هذه اللحظة المجلد الأول منه , اسمه ( مخانيث عراقية ) تضمن تاريخ حياة كل معارض سابق للنظام السابق , سواء كان مخنّثا أم شجاعا . ومن دون أدنى شك كان لسعد نصيب فيه . بيد ان هذا لا يمنعني من الإدلاء برأيي عن هذا الرجل العملاق .
سعد هو الإبن الوحيد ( من الذكور ) لوالده صالح جبر من أمه من آل العسّاف في الانبار , مثلما لسعد ابن وحيد , هو صالح من زوجته الأميريكية التي انفصل عنها . وليس خافيا على العراقيين من أن صالح جبر كان رئيس وزراء العراق في العهد الملكي , وقد مات خلاله , وليس بعد انقلاب 14 تموز 1958 م , ومثلما ظُلم أبوه – تاريخيا – حيث يصنفه العراقيون ذيلا لنوري السعيد , وهو توصيف واهم , فضحته وكشفته الأميرة بديعة في مذكراتها ( مذكرات وريثة العروش ) فكذلك ولده ظُلِم من بعده من قبل أقرانه وخلانه .
يعتبر سعد صالح جبر من أوائل المعارضين لنظام بعث العراق , مع الشهيد السيد مهدي الحكيم والشهيد الشيخ طالب السهيل , في أواخر ستينات القرن العشرين . وبسسب عداء سلطة البعث له وملاحقته اياه , ومحاولاتها المتكررة للانتقام منه , كونه ابن صالح جبر ولديه عمل تجاري كبير , بينما البعث جاء بالاشتراكية ودعاوى المساواة بين المواطنين , غادر سعد العراق أواخر ستينات القرن الماضي .
خرج من العراق ليتآمر على نظام البعث ويطيح به . وقد اتفق مع عبد الغني الراوي وعددمن الضباط للقيام بانقلاب عسكري ضد حكومة البكر , ولكنه فشل . زار شاه ايران السابق طالبا دعمهم في تحركاتهم ضد نظام الحكم . كما زار الملك حسين ابن طلال ملك الأردن لهذا الغرض في زيارة طريفة من نوعها .
ذهب الثلاثي المعارض : السيد مهدي الحكيم والشيخ طالب السهيل والاستاذ سعد جبر الى القصر الملكي في عمّان . وبعد اللقاء بالملك وطلبهم المساعدة منه , سأل الملك حسين الله ( جلّ جلاله ) أن يوّفق المتآمرين في مؤامرتهم على حكومة أحمد حسن البكر , رافعا يديه بالدعاء لهم .
خرج الثلاثة من صالة الاستقبال وهم يتمشون في الممر , فسأل الشيخ السهيل السيد الحكيم : ما رأيك بموقف جلالة الملك ؟ أجاب الحكيم : هذا ملك سارق ليس عندي ثقة فيه ! استغرب السهيل من هذا الجواب فسأله : وماذا سرق منك ؟ ردّ الحكيم : انه سرق مهنتي المتمثلة بالدعاء الى الله ( تعالى ) ورفع يديه بدلا عني .. لهذا فليس وراءه من شيء .
استمرت محاولات سعد اليائسة لاسقاط النظام طوال العقد السبعيني , تارة يتحالف مع القوميين وأخرى مع الأكراد , وهكذا لكنها كلها باءت بالفشل الذريع .. ولم ييأس , حتى تسلّط صدام حسين على السلطة بالعراق وانفرد بها عام 1979 م . وما هي الاّ سنة وشهران واذا بصدام يخوض الحرب ضد ايران , فجنّ جنون سعد واعتبر تلك الحرب مدمرة للعراق ولشعبه .
صار سعد يتحرك ضد نظام صدام , يزور الولايات المتحدة الأميركية باستمرار ويلتقي بالشخصيات السياسية والدولية المؤثرة , وكانت له علاقات وثيقة بالجمهوريين , فهو يميل اليهم أكثر من الديمقراطيين . يحرضهم على رفع اليد عن صدام وعدم تقديم الدعم له , لكن السياسة الميركية والدولية حينها كانت تقتضي تدمير البلدين ( العراق وايران ) لهذا لم يستجيبوا لنداءاته , فذهبت أدراج الرياح .
في العقد الثمانيني كان سعد تاجرا دوليا , يتوسط للدول في ابرام الصفقات , وكانت له مشاريع كثيرة في دول المنطقة , مثل المملكة العربية السعودية وايران وغيرها , فدرّت عليه الملايين . أصدر جريدة ضد نظام صدام باسم ( التيار ) وأسس حزبا ليبراليا معارضا باسم ( حزب الأمة الجديد ) وصار يقارع الطاغوت اعلاميا من لندن .
رأس تحرير الجريدة وكتب فيها معارض عملاق آخر , نساه اليوم هو الآخر رفاق الأمس الحقراء , أعني به الاستاذ سامي فرج علي , وسيأتي اليوم الذي نعرّف به أبناء العراق الشباب ممن لم يسمعوا باسمه أو يشاهدوا صورته , رغم علانية تصدرها في صفحة كل مقال كان يكتبه ضد الطغيان .
كان جو لندن في سنوات الثمانينات مقفولا للمعارضة العراقية المحسوبة على ايران , لم يخرقه الا سعد ورفاقه . فالمعارضة تتكون من مجاميع من الشباب الدارسين في بريطانيا , الذين تأثروا بالثورة الايرانية وحسبوا في أنفسهم خطأ بأنها ستسقط نظام صدام حسين , فراحوا يتعاملون مع ايران , ويتظاهرون دفاعا عنها وتأييدا لها بالحرب , مستخدمين أسماء مستعارة ووهمية , متلثمين ومتلفعين بالعباءات واليشاميغ , وكل ما يستر وجوههم وأشكالهم , خوفا من النظام على أنفسهم وعوائلهم في العراق .
الاّ سعد ( وسامي طبعا ) لم يتستر ولم يتلفع ولم يتنكر ولم .. الخ . كان يعمل مكشوفا وواضحا ضد النظام . أخبرني سعد البزّاز مالك قناة الشرقية وصحيفة الزمان , كشهادة دوّنتها للتاريخ , بأن الحكومة العراقية في الثمانينات , حيث كان يعمل ملحقا ثقافيا في سفارتنا بلندن , كلفته بمفاتحة المعارضة العراقية هناك للتخلي عن النشاطات المعارضة ضد السلطة في بغداد .
يقول البزّاز عملت اتصالاتي وباشرت باللقاء بالعراقيين المعارضين , زرتُ بعضهم في بيوتهم وزارني بعضهم في السفارة وأجتمعت بآخرين خارج السفارة واتصلت هاتفيا أيضا بعدد منهم . كلهم توزعوا على المواقف التالية : ( مع ملاحظة ان هناك أشخاصا لم يتم الاتصال بهم ) بين متعاون معنا , أو تارك للمعارضة , وبين مَنْ ظل يعمل في صفوفها على استحياء وتوّجس , الاّ سعد جبر وسامي فرج علي .
يقول البزّاز ردّ سامي علي ّ باسلوب مؤدب وراقي كونه كاتبا صحفيا , قائلا انني لا أستجيب لهذا الطلب , وسأستمر في معارضة النظام . أما سعد جبر فطلب أن يكون الاجتماع في بيته , فذهبت لزيارته وقال لي : اسمع سعد لو آني لو صدام حسين بالعراق . هذا كذا وكذا .. الخ , ثم عرض عليّ أن أشتغل عنده بالصحيفة بدلا من العمل في السفارة العراقية .
طبعا اعتذرتُ وقلتُ له متذرعا : عليّ ديون كثيرة ولا أستطيع ترك عملي . ردّ سعد : أنا الذي سيسددها لك ولا تهتم , كل ما عليك أن تترك صدام ونظامه .. وسأحميك , وسأقدم لك كل ما تطلب . يقول البزّاز غادرتُ منزل سعد وأنا أقول في داخلي كم هو عظيم هذا الرجل !
كان سعد صالح جبر يملك قصرا منيفا في بريطانيا وطائرة نفاثة خاصة يطير بها من بلد الى بلد , وكان أخرج ( 11 ) أحد عشر ضابطا بريطانيا وشرطيا من اسكوتلنديارد , ليعملوا في خدمته ويحموه مقابل رواتب يدفها لهم من عنده وليس من الحكومة البريطانية ( هذا نظام معمول به هناك ) .
لقد صرف سعد على المعارضة العراقية ملايين الدولارات , في وقت كان باستطاعته أن يستملك العقارات والأراضي في الكثير من مدن العالم , قبل أن يستملكها أوغاد المعارضة لاحقا . كان قادة اليوم في بغداد يستلمون رواتب شهرية من مكتبه , ولو أراد سعد اليوم أن يكشف الوثائق التي بحوزته لانفضح وسقط الكثير من الأدعياء والماجورين .
لقد باع سعد طائرته وقصره ومشاريعه كلها وصرفها على المعارضة , حتى ان حرمه أقامت عليه الدعاوى القانونية من أجل أن تحصل على جزء من تلك الاموال , التي كان يصرفها عبثا في نظرتها على صراع مع طاغوت لن يرحل , حتى تمّ طلاقها وحصّلت ما حصلت من تلك الأموال المتبقية .
بعد غزو الكويت وانتهاء الحرب مع الحلفاء عام 1991 م حاول سعد أن يحيي الأمل في المعارضة , فقام بجولة اقليمية ودولية , وزار السعودية والولايات المتحدة , تحشيدا للاطاحة بصدام , وأسس المجلس العراقي الحر , وأصدر جريدته ( العراق الحر ) في لندن . بيد ان مجيىء الديمقراطيين الى الحكم في الولايات المتحدة , وتولي بيل كلنتون الرئاسة أبعد سعدا عن مركز القرار الأميركي , وصار البديل أحمد الجلبي عنه , وصارت سياستهم تسريح العراقيين بالقنافذ !
أتذكر وهذه أرويها للتاريخ كنتُ دوما أداعب أبا صالح في التسعينات وأوجه له السؤال الاستفزازي , لنجلس نضحك طويلا : بصفتك عميلا مضبوطا للولايات المتحدة , ترى لماذا برأيك تخلت عنك اليوم أميركا عمي أبو صالح ؟ كان يضحك ضحكته المشهودة المدوية تلك ويجيب : يمكن لكوا واحد أضبط مني !
ينام سعد في التاسعة مساء ويستيقظ في الخامسة فجرا , ليمارس الرياضة ويفطر , ولذا حين يتصل بك مثلا في الثامنة صباحا كان يعتقد بأن أذان الظهر قد رُفِعَ ! كنتُ عنده مرة على الافطار , فدخل المرحوم سعدون عبد العزيز القصّاب حانقا شاتما غاضبا صائحا , ومخاطبا سعدا : انت طائفي وتبقه طائفي لأن الأمر مو بيدك !
سأله سعد عن ما الذي يغضبه ؟ ردّ سعدون : كل كتّابك بالجريدة شيعة طائفيين مثلك .. هاك شوف شيكتبون ! سأله سعد : مثل مَنْ تقصد ؟ أجاب سعدون : أقصد رئيس التحرير قاسم غالي والكاتب المقيم في مصر لؤي الهاشمي والكاتب المقيم في النرويج داوود البصري . اعترض سعد على سعدون بحكم ميانته وصداقة الطفولة التي جمعت بينهما قائلا : هؤلاء الثلاثة سُنّة وليسوا شيعة .. ههي كوّاد متكللي بعد المن أجيب لك يكتب ؟!
يمتاز سعد جبر بالطيبة والكرم والاخلاق والأصالة العراقية والشرف , ولا أدري وليس بوسعي أن أفهم لماذا معظم الذين عملوا معه خانوه وغدروا به وتنكروا لفضله عليهم ؟ لا أدري ما اذا كانت هذه هي أخلاقنا كعراقيين , أم ان ظروفا قاسية هي التي تتحكم بنا ؟ لقد شتمه مَنْ كان يعمل عنده ويعيش من خيراته ويتحدث باسمه , وواله لولا خشية الاطالة لكشفتُ ذلك الآن بالأسماء الصريحة والفاضحة , وان كنتُ قد ذكرتهم في مخانيث عراقية .
سأضرب هنا مثلا واحدا فقط . بعد عودتنا الى العراق وأثناء تشكيل الجمعية الوطنية التي تكونت من 100 مائة اسما من العراقيين . يقول لي الدكتور فؤاد معصوم رئيس الجمعية الوطنية : كلما سلمني الورقة فلان وفلان المحتوية على أسماء أعضاء الجمعية , أجد اسم سعد صالح جبر محذوفا منها ! حتى نهرتهم وصحتُ بهم قائلا : انكم أناس لا تخجلون تحذفون اسم قائدكم وعميدكم .. تتنكرون لأفضاله ونضاله وسابقته في المعارضة .. انني سأعتلي المنصة لأفضحكم أمام وسائل الاعلام بعد ثوان .. انكم لا تخجلون .
ثم رمى الورقة بوجه مَنْ سلمها له وقال له : ثبت اسم سعد فيها كي أقرأها على الملأ . فصار سعد عضو الجمعية العامة بدلا من رئيس وزراء العراق .. بيد ان سعدا بالعراق اليوم مريض .
( أكتفي بهذا المقدار من المقال وان كان بودي أن أسرد مثيله عن الرجل )