5 نوفمبر، 2024 6:49 ص
Search
Close this search box.

عمل بعد منتصف الليل

عمل بعد منتصف الليل

كان نعيم يتقلب في فراشهِ عند الساعة الحادية ِعشرة ليلاً محاولاً الحصول على غفوة بعد الجهد الكبير الذي قضاه طوال النهار في محاولةٍ يائسةٍ للحصول على عمل بسيط عند السوق الكبير في المنطقة التي كان ولايزال يسكنها منذ ان كان شاباً في المرحلة الجامعية . حينما شعرَ ان جيوش النوم قد رحلت إلى الأبد جلس في فراشهِ عازماً على الذهاب والجلوس في المطبخ كعادته حينما يشعر انه لايستطيع النوم وأن هموم الحياة قد لفت روحهِ من كافة الجهات . كان يعرف في قرارة روحه أن شريكة حياته ستلحق به حينما تجد أنه لم يعد ينام بقربها في غرفتهما الصغيرة الخالية من الاثاث الراقية كما كانت في بداية حياتهما الزوجية . كان نعيم قد باع جميع آثاثها الجميلة قبل عشرين عاما حينما كانت حالته المادية قد تدهورت إلى الابد بعد عودته من معسكرات الأسر في دولةٍ تقع على الجهة الشرقية لبلاده الجميل . أحد عشر عاما من الضياع والجوع التام كان قد عاشها هناك في أشد حالات العذاب والقسوة والألم مع عشرات الزملاء امثاله الذين كانوا قد اختفوا عن عوائلهم بسبب الحروب الطاحنة التي عصفت بحياتهم آنذاك . في اللحظة التي جلس فيها وحيداً في المطبخ زارت ذهنه أفكار وخواطر كثيرة قد تبدوا جنونية في الوهلة الاولى لكنهُ ظل يقلبها في لحظاتِ تأملٍ عميق ويدرسها بكل طاقته البشرية والانسانية وراح يتحدث مع ذاتهِ بصوتٍ مرتفع كأنه يخاطب صمت الليل بطريقةٍ ترمز إلى ذهاب العقل بشكل صريح ….( وماذا ستقول شريكة حياتي عني حينما اخبرها بهذه الفكرة ؟ هل ستسخر منها كما كانت تفعل حينما أحدثها عن فكرةٍ تدورُ في ذاكرتي لتحقيقِ عملٍ أو منجزٍ هي لاترغب فيه او تعتبره تافها في حين اعتبره في قرارة ذاتي شيء جميل يحقق لي ساعات كثيرة من سعادة لاتنتهي بَيْدَ أنني أتخلى عن الفكرة إكراما لها حتى لاتحزن لانها عاشت ويلات لايمكن وصفها وانا بعيدُ عنها أحد عشر عاما..ويلات كنت ابكي وانتحب بشدة لانها كانت تواجهها وحدها ولم أستطع أن اقدم لها اي شيء لحظة وقوعها ) . دون تفكير قفز الى اناء – الفلاسك ..او الاناء الذي نحفظ فيه الشاي ساعات طويلة ونطلق عليه في اللهجة العراقية الدارجة — ترمز الشاي — شرع بتنظيفهِ بصورة جيدة من بقايا الشاي ونظف الجزء الخارجي بطريقة دقيقة . كان من الحجم الكبير كذلك الترمز الذي يستخدمه المعذبون في الارض لبيع الشاي عند مستديرات ومنعطفات الشوارع المزدحمة في بغداد في مناطق مختلفة . كانت الفكرة قد اختمرت في ذهنه وعقد العزم على تنفيذها حتى لو اضطرر الى فقدان حِياته لاسامح الله . في غضون أقل من نصف ساعة كان قد أنجز المهمة وكان إناء حفظ الشاي جاهزا على المنضدة التي تتوسط أرض المطبخ . جلس على الاريكة المتهالكة القديمة وراح ينظر الى إناء حفظ الشاي بذهول وكأن المهمة بدأت تصعب رويدا رويدا وان تنفيذها يتطلب اعصاباً فولاذية . جال حدقتا عينيه في ارجاء المطبخ لايعرف ماذا يفعل في الخطوة التالية ! يبدو أن فكرته تلك كانت صعبة حقا وجنونية . على حين غرة ودون تفكير قفز متجها الى رف الكتب القابع في الجهة اليمنى من المطبخ وطفق يختطف عدد من الكتب الانجليزية والعربية التي كان يحتفظ بها هناك على ذلك الرف الخشبي دون ان يفتح منها كتابا واحدا منذ سنوات فقد كان قد حفظ كل واحد من تلك الكتب عن ظهر قلبه ( روايات انجليزية وعربية كان قد اقتناها منذ أن كان في الجامعة قبل أكثر من اربعين عاما وشعر انها ربما تكون تجارة رابحة في هذا الوقت المتأخر من الليل ) . راح يسخر من ذاته لكنه كان قد عقد العزم ولم يعد يهتم لكلام البشر بعد أن شاهد ماشاهد من عذابات الروح في بيت الأموات هناك خلف الحدود أحد عشر عاما .

دفعت شريكة حياته الباب مذهولة كأنها كانت تنظر الى عفريت كان قد اقتحم البيت في تلك الساعة المتأخرة من الليل . قفز قلبه من شدة التأثر عليها واستعد لشن هجوم مضاد بكل ما أوتي من بقيا قوته القابعة في جسده الواهن . كانت قد سمعت حواره مع الذات لأنها تسللت من غرفة النوم بعد لحظات من مغادرته فراشة الدافيء ..عرفت ان الكآبه قد حطت على روحه كما كان ذلك يحدث بين الحين والآخر. كانت واقفة خلف باب المطبخ تسترق السمع منذ اللحظة التي طفق يُحدث فيها ذاته عن فكرته الجهنمية تلك . كانت تريد ان تقفز اليه دافعة الباب بكل قوتها وتقطع عليه خلوته تلك لكنها كبحت جماح روحها وعزمت ان تتماسك حتى النهاية لتعلم كل شيء عن تلك الخطة التي يريد إنجازها في هذا الليل البارد الطويل . طرقت الباب بهدوء لتشعره بقدومها ودون أن تنتظر منه جوابا راحت تنظر الى الأشياء المتكدسة على المنضدة في وسط المطبخ . تبادلا نظرات مضطربة كل واحدٍ منهما يخشى البدء في حوار عاصف لا يؤدي الى نتيجة موفقة كما كان يحدث هذا مرات عديدة . دون أن يمنحها فرصة للبدء في قول اي شيء شرع يشرح لها الخطة المضحكة جدا في نظرها إلا أنها سمحت له بالحديث دون مقاطعة فقد كانت فاغرة الفاه معقودة اللسان عن قول أي شيء وكأنها فقدت حاسة النطق الى الابد ..قال بهدوء ( ..قررت ان اذهب بعد نصف ساعة للعمل عند الطريق السريع في هذا الليل..اعرف ان الشارع سيكون مقفرا بعض الشيء بعد منتصف الليل لكنني لا أشعر بالرغبة في النوم حتى الصباح..سأعمل تحت المجسر الكبير ..سابيع الشاي وهذه الكتب القديمة وقناني الماء هذه.. اعرف ان الطقس بارد .. وإن من يشاهدني هناك سيضحك ويصفني بالمجنون لكنني سئمت حديث الناس..وافوض امري الى الله ..هو الرزاق الكريم..ستقولين كما يقول الناس ..تعرف هذا لكنني لن أتراجع عن هذه الفكرة.. بحثت عن عمل في كل زاوية من زوايا السوق هذا اليوم ولم اجد اي فرصة..كان البعض لايستمع حتى الى كلامي..سأتجه الى الله وحده ..هو الوحيد الذي لا يسخر من مخلوقاته..انا مؤمن انه لن ينساني مطلقا..اذا حدث لي شيء فهو مكتوب علي..وان لم استرزق أي شيء فهو مكتوب علي ايضا ..وان حصلت على شيء فهو رزقي الذي كتبه الله لي.. من يدري لعلنا نكره شيء لكن الله يكتب لنا فيه خيرا كثيرا.. اعرف انك تتمنين الموت على ان افعل شيء كهذا ..لكن ارجوك لاتقفي في طريقي هذه المره ..ان لم اذهب الان سأنفجر..إذا لم اعد اليك فافعلي ماتشائين..لكن لا تغضبي علي من فضلك. ) . كانت ترتعش من قمة رأسها حتى اخمص قدميها ..كأنها مخلوق فقد القدرة على فعل اي شيء ..ظلت جامدة في مكانها تنظر نحوه بطريقة مخيفة كانها شارفت على لفظ انفاسها. سحبت جسدها المرتعش وجلست على حافة الاريكة وهي تهمس بصوت واهن ( ولماذا تريد ان تعمل؟ الا يكفينا راتبك التقاعدي..اعرف انه الحد الادنى ولا يوفر رغبات كثيرة نحلم بالحصول عليها لكنه يوفر لنا الطعام وجزء من الدواء وهذا يكفي ..الم اقل لك يوما انني لا اريد اي شيء سوى وجودك قربي في هذا البيت.. اخاف ان افقدك مرة اخرى ..سأموت إن حدث لك شيء في هذا الليل المخيف..الطريق السريع كالبحر وخصوصا في الليل ..لا نعرف او لاتعرف من سيمر عليه..لصوص ..قطاع طرق .. دوريات عسكرية ..قوافل سيارات امريكية.. الطريق مخيف حقا ) . سكتت وهي تمسح دموع غزيرة سقطت على جانبي خديها . كانت يداه ترتعشان وهو يجمع الاشياء ويضعها في حقيبة كبيرة وكأنه يروم السفر الى جزيرة لا يسكنها في هذا الليل الا من فقد عقله حقا . كان يهمس بصوت واهن يلتمسها ان تدعوا له بالموفقية والنجاح . اخبرها بانه سيعود عند الفجر قبل بزوغ الشمس باذن الله . حينما وجدت انه لايمكن ان يتراجع عن فكرته دعت له بالموفقية وأنها ستنتظر يقظة حتى الصباح . وضع الحقيبة على دراجته الهوائية مع كرسي صغير ينطوي بسهولة اضافة الى منضدة صغيرة تنطوي هي الاخرى وانطلق نحو الطريق السريع وقطرات المطر الخفيفه تكاد تؤثر على مدى الرؤيا على عينيه..

في اللحظة التي استقر فيها جسده على مقعد الدراجة واتخذ له سبيلا في ذلك الليل البارد يحث الخطى نحو المكان الذي كان قد رسمه في ذهنه ليتخذ منه موقعا لعمله الليلي . نظر الى السماء وتنهد تنهيدة كبيرة وضع فيها كل ما كان يرغب في قوله وهو يعرف ان الله يعرف كل شيء فهو سبحانه وتعالى يسمع ويرى ويعرف ما يخفي الانسان او يُظهر. كان المجسر يبعد عن البيت ما يقرب من كيلو متر ونصف ( ومن لايعرف معنى كلمة المجسر فهو الجسور الملتوية التي تعبر من فوق الطريق السريع الى جهات مختلفة ) ..منذ زمن طويل وهو يدرس موقع هذا المكان واهميته لعمل كهذا الذي يريد ان يفعله او يؤديه بعد ان تقطعت بالنسبة له كل السبل . كان قد اختار هذا الوقت من الليل كي لايراه شخص يعرفه بالصدفة او ربما تحت اي ظرف من الظروف. كأنه كان يريد ان يكون مجهولا لكل هذا العالم المتحرك على الطريق السريع في ذلك الليل الصامت . توقف تحت المُجَسر وشرع يرتب حاجياته بكل هدوء وكأن كل العالم لم يعد بالنسبة له يمثل أي شيء..كل تفكيره كان منصبا على فكرةٍ واحدة ( هل سينجح في هذا العمل ام يعود خاوي الوفاض كما كانت شريكة حياته تتوقع . كان قد وضع سقفا زمنيا لفترة عمله وهو شهرا واحدا إن لم يوفق فيه فأنه سيحاول في ميدان آخر وتجربة اخرى . مرات عديدة كان يخاطب شريكة حياته بأن الله هو من يوزع الأرزاق وهو بيده مفاتيح كل شيء بَيْدَ أن شريكة حياته كانت تؤكد له ان الله منح الإنسان عقلا يفكر ويخطط من خلاله فكيف سيكون الرزق إذا كان المكان مقفر لايتواجد فيه الناس ولم تكن عليه حركة تجارية . كان يؤمن في قرارة ذاته أنها كانت تنطق بالحقيقة والمنطق ولكن هناك تحت المجسر ربما يحدث شيء فالحركة على الطريق السريع لم تتوقف مئة في المئة لأن حركة العجلات المنطلقة بسرعة جنونية تبقى حتى الصباح وان كانت بسيطة وغير كثيفة كما يحدث هذا خلال النهار. كان مؤمن بصورة تامة أن الله هو من يرسل الرزق لكل مخلوقاته مهما كَبُرَ حجمها او صغر.

انهى ترتيب حاجياتهِ ( منضدة صغيرة عليها إناء الشاي الكبير واقداح ورقية كثيرة وشكر دان انيق زجاجي وضع فيه الشكر ورزمة من قناني المياه المعدنية علامة لؤلؤة وست نسخ من كتب عربية وانكليزية ومصباح شحن وكرسي صغير كذلك الذي يستخدمه كبار السن عند صلاة الجمعة وبقية الصلوات اليومية الاخرى ) . وضع الدراجة الهوائية خلف السياج الحديدي الذي يحيط بالطريق السريع وكأنه كان يريد إبعاده عن موقع العمل . كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل . ارسل نظراته الى كافة الحاجيات البسيطة وتحدث مع نفسه كأنه يريد ان يطرد عن ذاته وحشة المكان والعزلة في ذلك الجو الشتائي الرطب . لم يشأ أن يجلس على الكرسي في بداية العمل لأنه اراد ان يسير بخطوات بطيئة في الدائرة القريبة من موقع العمل او لنقل انه أراد أن يجري عملية احماء لعضلات جسدة المرهق في تلك الساعة المتأخرة من الليل . كانت حركة السيارات قليلة . مضت اكثر من ساعة دون ان ينتبه له احد وكأنه لم يكن موجودا على خارطة الزمان والمكان في ذلك الليل الموحش, كانت بعض السيارات تطلق اصواتها حينما تقترب منه الا انه لم يكن يعرف هل أن سائقيها يسخرون منه ويضحكون في سرهم على هذا التواجد الغريب في ذلك المكان وفي هذا الوقت بالذات . بلا تفكير سكب لنفسه نصف قدح من الشاي ( كان يريد ان يعرف فيما اذا كان لايزال ساخنا ام تسللت اليه برودة الشتاء كما تتسلل الى جسده وروحه في تلك العزلة القاتلة ) شعر بالارتياح حينما وجد أن الشاي لازال ساخنا ولذيذا – او هذا ماكان يشعر به , وهو على هذه الحالة شاهد من بعيد سيارة شرطة بمصابيحها المتحركة تقترب رويدا رويدا . اوجس في روحه خيفة منهم ( كان يمقت كل شيء يتعلق بالشرطة ومجموعة الواجبات الامنية بكل طوائفها ..كان قلبه قد طفق يخفق سريعا كلما اقتربت السيارة من موقع عمله..هو يعرف ان الشرطة ستوجه له استفسار ربما يطول عن سبب تواجده في هذا الوقت من الليل وربما سيشربون عدد من اقداح الشاي ولن يدفعوا ثمنها وسيظل صامتا يدعي الكرم والضيافة لكنه في قرارة ذاته يشعر بالغليان عليهم كما يحدث هذا في مناسبات كثيرة في هذا الزمن العصيب الذي يمر فيه الفقير العراقي في كل زاوية من زوايا البلد الكبير. توقفت السيارة بالقرب من حاجياته – كما توقع – ترجل منها ضابط شاب ومفوض ونائب عريف جميعهم يحملون كلاشنكوفات اضافة الى اسلحتهم الشخصية . بلا مقدمات استفسر الضابط من نعيم عن سبب وجوده في ذلك الوقت من الليل وعن المكان الذي يسكنه كما طلب منه بطاقة تعريفية عن شخصيته . اجاب عن كافة الاسئلة بكل ثقه وكأن الضابط لم يكن له وجود مطلقا . نظر الضابط الى بائع الشاي مبتسما وهو يقول ” هل تضيفنا بثلاثة أقداح من الشاي ؟ ” ابتسم نعيم مع نفسه دون أن تظهر الابتسامة على وجهه وراح يتحدث مع نفسه دون ان يسمعه احد ” الم اقل هذا ..الخسارة الاولى في هذا الليل البارد ..العوض على الله ” . وهو يقدم الاقداح الثلاثة في وقت واحد اردف قائلا ” تفضلوا ..” بعد ان ارتشف الضابط الشاب الرشفة الاولى سأل بائع الشاي ” هل تأتي كل يوم الى هذا المكان..لم اشاهدك أمس..واجبي كل يوم على هذا الطريق من بداية الليل حتى الصباح ..هذه أول مرة أجد فيها من يبيع الشاي في هذا المكان وفي هذه الساعة من الليل..لا اعرف كيف تتحمل هذا البرد في هذا المكان !!! ” . قبل ان يتكلم بائع الشاي بكلمة واحدة قفز مفوض الشرطة الى داخل السيارة ليرد على النداء القادم من مركز القيادة الليلي ..” نداء الى كافة سيطرات المراقبة ..أوقفوا العجلات النارية الثلاثة المنطلقة على الطريق السريع المتجهة الى مركز العاصمة ..اكرر….” قفز الثلاثة الى داخل سيارة الشرطة وانطلقوا كالصاروخ الى الجهة المطلوبة دون ان يدفع أحدا منهم ثمن الاقداح الثلاثة . أرسل نعيم نظراتهِ نحو السيارة المنطلقة بسرعة كبيرة حيث راحت تتلاشى في الأفق البعيد . جلس على الكرسي الصغير ينظر الى الاقداح المتناثرة على الارض واطلق زفرة عميقة وضع فيها كل عذابات روحه في سنواته التي تجاوزت الخامسة والخمسون . وضع رأسه بين يديه ينظر الى قطع الحصى الصغيرة المتناثرة بطريقة عشوائية في كافة الاتجاهات , وعلى حين غرَة راح يحدث روحه بطريقة حزينة كأنه يتمنى ان يتلاشى الى الابد في تلك اللحظات التي عصفت بروحه بانكسار مطلق ( … هل هذه هي الحياة التي كنت أحلم بها في زمن الشباب ..زمن الانطلاق الى بلاد الاحلام هناك خلف البحار..زمن الشباب حيث الضحكات والمناورات العاطفية في أوقات الدراسة الجامعية ..واين ذلك الحاكم الطاغي الذي كان يضحك علينا تحت مسميات القومية العربية وحرية البلاد وأنه سيجعلنا من الدول المتقدمة في غضون خمس سنوات ..كم كان يسخر منا نحن الشعب وكم كنا مغفلين ..سحقا لكل من يأخذ حقوق الفقراء ..سحقا لكل من يفكر بالسياسة ..هل حقا انا هنا من أجل الحصول على دراهم قليلة على هذا الطريق المخيف في هذا الليل البارد..سألملم حاجياتي الى الابد واجمع جراحاتي وأعود الى منزلي وليقتلني الجوع بلا رحمه . ضابط اصغر من ولدي المفقود ينطلق مبتعدا بحجة انه مستعجل للقبض على مجرمين في هذا السكون.. خذ نقودي فأنها لن تغنيك ولن تجعلني معدما الى الأبد ..” قبل أن يبدأ بجمع أغراضه شاهد من بعيد شاحنة عملاقة بضيائها الساطعة وهدير محركها يقطع السكون كسفينة تمخر عباب البحر . حينما توقفت على بعد أمتار قليلة من موقع عمله شاهد سائقها يفتح باب مقصورة القيادة ويقفز الى الارض بنشاط ملحوظ . كان شابا بعمر ولده المفقود قصير القامة نوعا ما لكن علامات القوة والجد والنشاط ظاهره على قسمات وجهه وجسده بشكل ملفت للنظر . القى تحية الاسلام بطريقة مؤدبه جدا تدل على اخلاق رفيعة وتربية منزلية واضحة جدا . سأل نعيم عن الطريق المؤدي الى شارع 60 لانه – على حد قوله – قد ضيع الطريق او الاتجاه بسبب كثرة الاستدارات والمنعطفات . برحابة صدر راح بائع الشاي يوضح له الاتجاه الصحيح وأخبره بأن الشارع المطلوب بعد محل حلويات – جدو – بمسافة قليلة وعليه أن يعود من الاستدارة القريبة من المكان الذي يقف فيه في تلك اللحظة ويأخذ استدارة كاملة من المجسر فوق الشارع الرئيسي الذاهب الى المحافظات الجنوبية . ضرب السائق الشاب على جبهته بتذمر وأخبر بائع الشاي بأنه شاهد حلويات جدو قبل قليل لكن ذهنه كان شاردا في ذلك الوقت ولم ينتبه الى الاستدارة المؤدية الى الشارع المطلوب . حينما شاهد نعيم حيرة وندم الشاب ضحك بهدوء وقال بحنان ابوي ” لا تثريب عليك ياولدي العزيز كلنا نصاب بحالات شرود بين الحين والآخر ومن يدري ربما كان ذلك في صالحك …خذ هذا قدح من الشاي ودفىء نفسك ..يبدو انني هذه الليلة ساعمل بتوزيع الصدقات ..هذا هو قدري ونصيبي هذه الليلة ” وراح يضحك بصوت مرتفع قليلا وهو يقدم قدح الشاي الورقي للشاب وكأنه استسلم لقدره المحتوم . أخذ السائق الشاب القدح من يد بائع الشاي وهو يحدق بوجه الرجل بحزن وجدية كاملة . بعد ان ارتشف السائق الرشفة الاولى قال بصوت منخفض ” لماذا تقول صدقة بهذه الطريقة الساخرة الحزينة وكأنك تخفي حكاية كبيرة تحت تلك العبارة …انا لا اقبل صدقة ولدي اموال كثيرة وهذا من فضل ربي ” . اعتذر نعيم من السائق الشاب وشرح له حكاية سيارة الشرطة ومعاناته هذه الليلة وكيف ترك شريكة حياته وحيدة في هذه الليلة الباردة وكيف كان مضطرا للمجيء الى هذا المكان ولماذا يشعر بالحزن والعزلة وكأن كل الناس تركوه وحيدا ليتعذب في هذا المكان وكيف ان شرطة العراق لم يكتثروا لكبر سنه وسرقوا نقوده بطريقة دبلوماسية . وحدثه عن ولده المفقود في الحرب الاخيرة وكيف ظل وحيداً مع شريكة حياته لايعرف ماذا يفعل بتلك النقود القليلة التي تطلق عليها الدولة – الراتب التقاعدي – وكيف يسرق الناس ويقصد – افراد الحكومة — كل هذه الاموال المهولة ولا تلتفت الدولة للبؤساء امثاله من المتقاعدين اصحاب الحد الادنى من التقاعد . كان الشاب يستمع لبائع الشاي بذهول وشعر الاخير ان يده التي تمسك القدح ترتعش كأنها على وشك الاصابة بشلل قريب . قال الشاب بصوت مرتعش ” وكيف عرفت ان الضابط وافراد دوريته هربوا بحجة الواجب المستعجل ربما نسوا او ظنوا انك اكرمتهم وماشابه ذلك .. كل شيء جائز في ظروف كهذه .. ومع هذا سأدفع انا ثمن اقداحهم وقدحي وسأشتري كل قناني الماء هذه لانني بصدق في حاجة شديدة اليها . امامي طريق طويل . انا من الفلوجة وبعد تفريغ حمولة الشاحنة ساعود الى البيت مباشرة ” . قبل ان ينهي قدح الشاي سحب قناني الماء كلها ووضعها جانبا واخذ اربع ورقات من فئة العشرة دنانير عراقية وسلَمها لبائع الشاي وهو يستطرد ” هذا هو رزقك ..من يدري ربما ارسلني الله اليك لأعطيك رزقك ” . حاول نعيم ان يرفض بشدة لكن الشاب اقسم واخبره بأنه سيمزق النقود امامه ان لم ياخذها . وضع بائع الشاي النقود في جيبه وراح يمسح دمعه كانت على وشك ترطيب خده في ذلك الجو البارد . حمل الشاب صندوق قناني الماء البلاستيكي الشفاف على كتفه وتقدم الى شاحنته دون ان يلتفت الى الوراء . في اللحظة التي تحركت فيها الشاحنة راح الشاب يطلق بوقها عدة مرات كأنه يقول له ” من يدري لعل ضابط الشرطة كان …..” . كانت الساعة قد تجاوزت الثانية صباحا بقليل وازداد سكون الشارع السريع عندها قرر ان يعود الى منزله بعد نفاذ كمية الماء لانه لم يجلب معه الا صندوقاً واحداً كتجربة ولم يخطر على ذهنه انه سينفذ بهذه السرعة .

جلس منهكا على الكرسي الصغير يحاول التقاط بقايا انفاسه المتسارعة بعد حديثه مع الشاب الكريم لايصدق ماكان قد الت اليه الامور في لحظة قدسية غيرت من حالته البائسة الفاقدة لكل امل في هذا الليل الطويل . ارسل نظراته الى المسافات البعيدة حيث صار الشارع السريع اكثر هدوءا من ذي قبل . تصارعت الافكار في داخله بطريقة متسارعة – هل يستمر لحين بزوغ الفجر ام ينهض ويعود ادراجه الى موطنه الصغير حيث ترقد شريكة حياته لوحدها تضرب اخماسا باسداس لاتعرف كيف تتصرف ازاء هذه الفكرة المزعجة التي نفذها شريك حياتها دون ان يهتم لعلامات الخوف التي ظهرت على وجهها قبل ان ينطلق وحيدا الى الطريق السريع . سحب نفسا عميقا ثم تنهد تنهيدة هائلة تكفي لايقاظ دب من سباته الشتوي ولكن من سيسمعه هنا تحت المجسر او حتى يشعر بوجوده . كان يخاطب ذاته بين الحين والاخر ويتامل نفسه القلقة من زوايا مختلفة ولم يبق لديه اي شك من انه صار مخلوقا بشريا يختلف عن ملايين البشر من زوايا ونواحٍ مختلفة . كلما كان يروم النهوض والعودة الى شريكة حياته كان هناك صوت في اعماق روحه يحثه على البقاء دقائق اخرى تحت ذلك المجسر الكبير . كان كل مايرغب فيه ان يتركه الجميع يحيا في ركن حياته الخاص ليس له علاقة بصراعات العالم المختلفة او يظل بعيدا عن حكايات الحزن والخوف المنتشرة على كل شبر من ارض وطنه الجريح . لم يعد لقلة وجود المال في حياته يخيفه كالسابق اذ كان يشعر في قرارة روحه بالهدوء ولم يعد هناك شيء يخشاه . قرر ان يرى الاشياء بطريقة مختلفة ويعترف لذاته وبصدق من ان حياته صار لها بُعداً اخر . أيقن ان حياة البشر وان امتدت طويلا ليس لها معنى اذا لم يخالجهم الشعور بانهم بالفعل يحيون – امسى يعي هذه الفكرة جيدا . حرَكتْ تلك الافكار في داخله رغبة شديدة لتذوق قدح اخير من الشاي قبل ان ينهض ويعود الى فراشه الدافيء ويترك هناك كل حشرجات الروح واحلام اليقظة التي كانت تعصف بروحه ساعات الليل والنهار على مدى اكثر من خمسين عاما . شعر ان كل خلية من خلايا جسده تتوثب لدراسة ومعرفة حقائق كثيرة تدور في هذا البلد بعضها واضحا للعيان من اول نظرة وبعضها الاخر يدور في حلقة مفرغة ليس لها الا معنى واحد يصب في مناهج تدمير كل شيء جميل في هذه الارض الطيبة المقدسة — حقائق تمضي امامه دون سابق انذار —- كان يشعر ان ذهنه لم يعد هنا في هذا المكان المقفر من كل حركة من حركات البشر بل في مكان اخر على بعد مئات السنوات وملايين الاميال . على حين غرة شعر انه مسجون هنا في هذا المكان في هذا الليل الطويل وربط سجنه هذا بتلك السنوات العجاف التي مزقت خلايا روحه بكل ماتعنيه هذه العبارة من معتى — سجن انفرادي في مكان خلف الحدود وفي دولة لم ير منها الا عذابات الروح وانسلاخ المعاني الانسانية بكل حرف وكل رمز يرمز الى سمات التيه وعدم احترام حقوق الانسان . كانوا يعذبونه هناك في سجن انفرادي لجريمة لم يرتكبها لا من بعيد او قريب – تعذيب العزلة والصمت الرهيب . يشعر في كل لحظة تمر عليه كانه يعيش في فراغ مطلق ومن المؤكد انه لايوجد شيء اكثر دمارا للروح البشرية من الفراغ والعزلة عن المجتمع المحيط بالانسان والصمت وتحريم اصدار اي صوت او حركة مهما كان نوعها . غرفة صغيرة مقفلة باحكام منفصلة تماما عن العالم الخارجي لايكاد يسمع اي شيء من خلالها الا صوت حركة اقدام الحارس او طقطقة الباب الحديدي المخيف عندما يستدعونه للتحقيق بين فترات طويلة مختلفة . وهويسبح في بحر من خيال وذكريات مرعبة سمع من بعيد صوت سيارة شرطة قادمة من بعيد اعادته الى الواقع المرير الذي كان يموج في امواجه المتلاطمة — شعر ان حكاية تلك السيارة العائدة للشرطة ستتكرر كما حدثت في ساعات العمل الاولى وان افراد الدورية سيفعلون ذات الشيء معه . نهض وتظاهر انه يرتب اناء الشاي او يعيد ترتيب الكتب التي لن ينظر اليها احد في ذلك المكان وفي هذا الوقت بالذات . في اللحظة التي توقفت فيها سيارة الشرطة ترجل نفس الضابط الشاب واسرع صوب نعيم وهو يقول بسرعة وتاسف ملحوظ ” المعذرة ياعم – لقد نسيت ان اعطيك ثمن اقداح الشاي وانا حقا اعتذر ” . حاول بائع الشاي ان يرفض استلام الورقة النقدية من فئة العشرة الاف دينار عراقي الا ان الضابط الشاب رفض رفضا قاطعا ووضعها على المنضدة وهو يردف قائلا ” غدا اذا وجدناك هنا سنشرب مرة اخرى على حسابك الخاص ” استدار عائدا الى السيارة وهو يقول بصوت مرتفع ” كانت هذه الليلة بالنسبة لنا مرعبة ساحدثك عنها غدا ان شاء الله ” . انطلقت السيارة وهي تطلق بوقها ممزقة سكون الليل .

لم يصدق بائع الشاي مايجري امامه وتصور ان هذا ضربا من ضروب الخيال وشعر بالحزن لانه اعتقد ان ضابط الشرطة سرق نقودة بطريقة دبلوماسية في بداية الحكاية لا بل شعر بان العرق راح يتصبب من جبينه وشعر ان جسده يلتهب حرارة رغم برودة الليل انذاك . نظر الى الورقة النقدية الكبيرة وشعر كانه عاد الى الحياة من موت محقق . لكن هذا كثير يعادل كل ماكان قد جلبه معه بأضعاف مضاعفة . قرر أن يلملم حاجياته المتبقية على عجل من امره ويعود ادراجه الى موطنه الصغير . قبل ان يحظر دراجته الهوائية سمع من بعيد صوت ثلاث باصات كبيرة قادمة من جهة الجنوب كأنهن سفن عملاقة يمخرون عباب البحر . في لحظات قليلة توقفت الباص الاولى قريبا منه ولحقت بها الباص الثانية والثالثة , شعر في قرارة روحه بالحرج والاسى بعض الشيء وراح يتحدث مع نفسه ” ليس لدي اي شيء سوى بقايا شاي وهذه الكتب التي لن ينظر اليها ..ماذا لو طلبوا أشياء اخرى …؟؟؟؟ “صمت برهة من الزمن وعاود الحديث” لايهمني شيء لقد حصلت على ما لا احلم به مطلقا…الله هو الرزاق الكريم ” وراح يرتب الكتب القليلة كأنه لا يهتم أصلا لوجود الباصات الثلاثة العملاقة . حينما فُتح باب الباص الاولى ترجل احد الاشخاص وجاء يركض باتجاه بائع الشاي وهو يقول بلغة فارسية ” خواهش كنم – اينجا كجا دستشويى بيدا كنم …اسهال شديد دارم “. ومعنى انه يبحث عن مرافق صحية لأنه يشعر باسهال شديد . فهم بائع الشاي كلامه وشعر بالحرج في بداية الأمر لكنه تذكر ان هناك خلف الأشجار القريبة من المجسر توجد أربع مبانِ بسيطة تم اتخاذها مرافق صحية لافواج الزائرين الذين يسيرون في أوقات المراسم الدينية من بغداد الى كربلاء والنجف . ركض ابا نعيم باتجاه تلك المباني الصغيرة وهو يقول للزائر الإيراني ” .. با من بيا , فكر مى كنم توالت زنانه ومردانه در آن طرف وجود دارد ” ومعنى ذلك انه يعتقد بانه توجد مرافق صحية للرجال والنساء في ذلك المكان . حينما عاد ابا نعيم الى موقع العمل وجد عدد كبير من الرجال والنساء والاطفال والشباب يحيطون المنضدة وبعضهم يتفحص الكتب والبعض الاخر يضحك وكأنه لايفهم السر بوجود هذه الكتب قرب اناء الشاي ولماذا يتواجد هذا الرجل في هذا المكان المقفر في هذا الليل البارد . صاح احدهم بلغة فارسية موجها الحديث الى بائع الشاي يساله فيما اذا كان يتحدث اللغة الفارسية ..حينما اجابه ابا نعيم بانه يتحدثها ولكن ليس بطريقة متقنة الا انه يستطيع ان يفهم الحوار. صاح بعضهم فرحين لوجود شخص يتحدث لغتهم وكأنه وسيلة للتوافق في هذا المكان . راحت الاسئلة تنهال على بائع الشاي من كل حدبٍ وصوب وهو يحاول ان يستذكر اللغة والكلمات الي كان قد تعلمها بمجهود شخصي هناك خلف الحدود قبل أكثر من ثلاثين عاماً . في اللحظة التي عاد فيها الرجل بعد انتهاء حاجته شكر بائع الشاي وقدم له بعض النقود العراقية وحينما حاول ابا نعيم ان يرفضها اصر الرجل على ضرورة قبولها لانه قدم له خدمة كبيرة على حد قوله . شرع عدد من الزائرين رجالا ونساء يتقاطرون صوب المرافق الصحية وتحول المكان فجاة الى ساحة من الحركة والحوار بشكل ليس له مثيل . شاهد بائع الشاي امرأة تتفحص الكتب العربية بشكل دقيق وكأنها تتمنى أن تحصل على واحدة من كل تلك الكتب . رفعت راسها على حين غرة وهي تساله عن السعر لكل واحد من كل تلك الكتب وفي اللحظة التي أعلمها بائع الشاي بالثمن أخرجت ورقة من فئة خمسة وعشرون ألف دينارا عراقيا وقدمتها لبائع الشاي مخبرة إياه أن يحتفظ بباقي النقود . كانت فرحة بائع الشاي لاتوصف وراح يشكر

الله على هذا الرزق الوفير . بعد فترة من الزمن عاد جميع الأشخاص الذين ذهبوا الى المرافق الصحية وشكروا بائع الشاي وبدا كل واحد منهم يقدم له بعض النقود . حينما تحركت الباصات باتجاه بغداد راح البعض يلوح بيده لبائع الشاي ويبتسم . شارفت الساعة على الرابعة والنصف فجرا لملم نعيم حاجياته المتبقية وسار على دراجته الهوائية صوب وطنه الصغير وهو يفكر بكل ما كان قد جرى له . عند الفطور الصباحي جلس يحدث شريكة حياته عن كل الأحداث وهي تنظر إليه فاغرة الفاه صامته كأن الطير على راسها . حينما فرغ من تناول فطوره أخرج كل النقود التي حصل عليها وسلمها الى شريكة حياته وهو يقول ” خذيها كلها انها لك ..سأذهب للنوم ولا اريد ان توقضينني حتى المساء مهما حدث ..لا اعرف هل سأعود الى العمل هذه الليلة ام انسى فكرة العمل بعد منتصف الليل الى الابد ” . تركها جالسة وحيدة في المطبخ لكنه لم يشاهد دموعها التي كانت تنهال على خديها وهي صامتة صمت الاموات هناك خلف الحدود كما صمتت ارواح زملائه في الحروب المتعاقبة على هذا البلد الجريح .

أحدث المقالات

أحدث المقالات