23 ديسمبر، 2024 9:28 ص

عملية هروب السجناء الشيوعيين من سجن الحلة المركزي عام 1967 / ح4

عملية هروب السجناء الشيوعيين من سجن الحلة المركزي عام 1967 / ح4

بمناسبة مرور 51 عاما على عملية الهروب الكبيرة والشهيرة للسجناء الشيوعيين من سجن الحلة المركزي عام 1967
سننشر قصة ذلك الهروب على شكل حلقات يومية وبقلم الوالد الفقيد حسين سلطان صبي / أبو علي
الحلقة الرابعة
قضية النفق والهروب من سجن الحلة المركزي
في عام 1967
بدأنا العمل الفعلي بالنفق في نهاية آيار أو بداية حزيران من عام 1967 وبينما كنا في غمرة هذا العمل والتحضير له ، كانت هناك أحداث تشغل كل المنطقة والعالم أيضا بالتوتر الذي نتج عن الأعمال الاستفزازية الإسرائيلية وعن موقف مصر بقيادة جمال عبد الناصر بوجه تلك الاستفزازات وخلال أيام من تصاعد الأحداث نشأت فكرة تـحـريـر أنـفـسنـا من السجن بطريقة أخرى اذا وقعت الحرب بين العرب واسرائيل ، إلا ان تلك الفكرة وطريقة تحقيقها لا يمكن أن تنجز ببضعة أفراد بل هي تحتاج الى مجهود كل السجناء الشيوعيين وخاصة الكوادر منهم . والفكرة التي نضجت لدينا هي الاستيلاء على إدارة السجن وقواته الحارسة والامكانات كانت متوفرة تماما لمثل هذا العمل . ولأن جميع أعمال السجن الادارية كانت بيد رفاقنا ، مثلا استلام القادمين الى السجن وتسليم الخارجين منه واستلام الأرزاق والمحاسبة مع المقاول واستلام النداءات الداخلية والمخابرات الخارجية ، والى جانب كل هذا كان معنا عدد كبير من ضباط الجيش العراقي سجناء ومن بينهم ضابط كبير هو الزعيم ابراهيم الجبوري ( الملقب بـ الخال ) وهؤلاء في أغلب الأوقات يتواجدون مع المدير أو مع مأمور السجن ويجري تعداد السجن مرتين في اليوم الأول في الساعة التاسعة صباحا والثاني في الساعة الرابعة بعد الظهر، ويدخلون الى داخل السجن كل ضباط الصف مـــــــن رئيس العرفاء الى اصغر رتبة ولم يبق في ادارة السجن الا نفر أو نفران فقط . وكان ملخص الخطة هو : القيام بعملية الاستيلاء على ادارة السجن خلال عملية التعداد ، وقسمت الخطة الى قسمين الأول منها يبدأ بعملية الاستيلاء على القوة الداخلة للتعداد وعندما تدخل الى أبعد قاعة عن الادارة حتى لا يسمع صوت أو حركة وهم لا يزيد عددهم على عشرين شخصا وبالإمكان أن نجهز لهم ( 80 ) مناضلا في القاعة الكبيرة ويدعمون بعدد آخر عند الحاجة . وخلال تلك اللحظة يبدأ القسم الثاني من الخطة حيث يقوم الرفاق الضباط ومن معهم من الرفاق العاملين في الادارة بالاستيلاء على المدير والمأمور اذا كانوا في الادارة ومن معهم من النفرات والحاقهم بالمحجوزين في القاعة الكبيرة وحينذاك نستولي على مشجب السلاح ويرتدي بعض الرفاق الملابس العسكرية لاصطياد بعض السجانة الذين هم خارج السجن والحاقهم بجماعتهم . وأفضل وقت للحركة هو في تعداد الساعة الرابعة بعد الظهر ويمكن اذا نجحت الحركة تسريب عدد من الرفاق في تلك العصرية أما اذا كلكل الظلام يمكن في كل ســـــــــاعه اخراج ( 100 ) شخص وكان مجموعنا لا يزيد على ثلاثمائة مناضل ، عدا السجناء العاديين وهم محجوزين في قلعة على انفراد ، هذه هي أوليات الخطة . الا انـي أقول اذا وقعت الحرب علينا أن نفكر بتحرير أنفسنا عن طريق الاستيلاء على إدارة السجن وكانت الآراء غير منســجمـــة حول الفكرة لأسباب توضحت فيما بعد ، علما ان جميع أعضاء اللجنة لا يعرفون بموضوع النفق عدا حافظ رسن . وكما ذكرت سابقا ان مثل هذا العمل لا يمكن الإقدام عليه بعدد قليل من الرجال وكان التقدير الأولي هو انه نحتاج كحد أدنى الى مائة مناضل يتحلون بضبط عسكري وموحدين في الارادة والعمل . وكان بيننا ما يزيد على ( 50 ) ضابطاً وضابط صف . وكنت أفكر بالقيام بمشاورات فردية مع الكوادر لغرض انضاج الفكرة الا ان الوقت أدركنا حيث طلب جمال عبد الناصر من الأمم المتحدة ، أن تسحب قواتها الفاصلة بين مصر واسرائيل وفي ذلك اليوم وجهت دعوه الى كافة الكوادر الحزبية الموجودة في السجن وكان عددهم لا يزيد على عشرين رفيقاً بما فيهم أعضاء اللجنة الى اجتماع خاص . وكانت النية أن أطرح عليهم الفـــكرة ، ولأن مثل هذا العمل من أول مستلزماته أن يوافق عليه الكادر الموجود وعند المساء تم عقد الاجتماع ، وافتتحت الجلسة بكلمة استغرقت ما يقارب من عشرين دقيقة بادئا بموضوع الضغوط الامبريالية على مصر بهدف تغيير سياستها أو الإطاحة بجمال عبد الناصر والأداة الفعالة بالضغط هي اسرائيل وختمت الحديث ان الحرب على ما يبدو آتية . فهل هناك من امكانية لتحرير أنفسنا من السجن ، وقلت يجب أن نبحث هذا الموضوع من كل جوانبه ، وقد تعقد عدة اجتماعات لهذا الغرض من أجل أن نتوصل الى أفضل المقترحات هذا ما رغبت عرضه أيها الرفاق وبعد لحظات من الصمت طلب الكلام مظفر النواب وموجها كلامه نحوي بصيغة سؤال ، قائلاً : هل تعتقـــــد يا أبا علي أن هناك حرباً ستقع واردف قائلاً : أن العميل الأمريكي جمال عبد الناصر ، بعد أن فشلت سياسته في المحيط العربي ، وهو يعاني العزلة ولذا تحاول الإمبريالية الأمريكية أن تعيد له بعضا من بريقه السابق عن طريق هذه الألاعيب ( وفي الحقيقة أن هذا معنى الحديث وليس نصه ) . وبعده طلب الكلام الفريد سمعان وكان أكثر شدة من صاحبه في العرض حيث قال : ان اسرائيل لا تجد في المنطقة أفضل من جـمـال عـبـد الناصر وسياسته وتكلم كثيرا وختم قوله ( لا حرب ولا هم يحزنون ) . وتكلم الكثير من الرفاق ، ولكن الحديث أصبح اطاره هل تقع الحرب أم لا وهل جمال عبد الناصر وطني أم عميل . ولم يتطرق إلا القليل الى لب الموضوع . وتبين لي من خلال تلك الجلسة ان عدداً غير قليل من الحاضرين في ذلك الاجتماع يناصرون افكار عزيز الحاج . ويعتبرون ان أغلبية قيادة الحزب يمينية ودليلهم على تلك اليمينية لهذه الأغلبية ، حيث لها موقف من القضايا القومية ولذا يناصرون جمال عبد الناصر ويعلقون عليه الأمل . واستمرت أحاديث الرفاق بهذا الاتجاه أو باتجاه معتدل الى ساعة متأخرة من تلك الليلة وقبل انقضاء الاجتماع كان حافظ رسن جالسا الى جانبي همست بأذنه قائلا : ( نبقى بشغلتنا أفضل بكثير ) ، وتبادلنا الابتسامات . وأعلن عن انتهاء الاجتماع دون أن تطرح أية فكره عن تحرير أنفسنا . بل وتحول الحديث الى الانجرار الى السياسات القومية . وعن المواقف اليمينية بكلمات يسارية متطرفة خالية من أي محتوى في الحياة العملية . حقا ان المناضلين الذين يذهبون بعيداً بالتــــــــطرف اليساري يجدون كل اليسار يمينهم . ويقال ان ثوار الملايوا في الستينات عقدوا مؤتمراً وتوصلوا في تحليلاتهم عن سياسة الصين حيث اعتبروا في ذلك الوقت سياسة ماوتسي تونغ ، انها سياسة يمينية ( وعلى هذا النغم جيب ليل و خذ عتابة ) .

وهكذا وضع المشروع على الرف ، وبعد بضعة أيام بدأت الحرب ويوم استقالة جمال عبد الناصر ، جاء بعض الرفاق ممن كانوا حاضرين الاجتماع المشار اليه أعلاه يخبرني بأن مظفر النواب نائم على وجهه ويبكي ، قلت لهم ان مظفر يبكي على نفسه ولا يبكي على أحد . والمهم خلال الحرب نشطنا سياسياً في تلك الفترة في تقديم المذكرات والمطالبة باطلاق سراحنا للمساهمة في معركة الشرف ، وخاصة رفاقنا الطيارين العسكريين الموجودين في السجن ، وعلى كل حال بعد اسبوعين عاد كل شيء الى وضعه الطبيعي في داخل السجن ، وبعد فترة أخذنا نواجه مشكلة تصريف التراب الذي نخرجه من النفق وأصبحت هذه المشكلة تضايقنا يوما بعد آخر ، وخلال حزيران وتموز استخدمنا عدة طرق لتصريف التراب . كنا نجمع علب الصابون الفارغة ونملأها بالتراب ونـرمـيـها فـي بـرامـيل الزبـل ورمينا كمية قليلة من التراب في مجاري المرافق الا ان المجاري سدت ونرمي كمية من التراب مع فضلات المطبخ ولكن كل ما كنا نصرفه من التراب يوميا وفي مختلف الوسائل لا يزيد على صفيحة من التراب ، في حين كانت طاقة العمل تستخرج ما يزيد على عشرين صفيحة من التراب يوميا . لذا كان يخزن التراب في غرفة النفق بعد أن عملوا الرفاق أكياسا كبيرة من البطانيات تملأ بالتراب ويوضع بعضها فوق بعض حتى امتلأت الغرفة من الأرض والى السقف . وفي أواسط آب 1967 على ما أتذكر توقف العمل في النفق لأن لم يبق مجال في الغرفة لأي كمية من التراب ، وأصبح حتى الوصول الى فتحة النفق فيه شيء من الصعوبة . ما العمل ونحن نشعر بوجع الرأس من خلال طيلة ثلاثة أشهر من التشاور في هذا الموضوع بين الرفاق العاملين في النفق من جهة ، وبيني وبين حافظ رسن من جهة أخرى . وجاء مقترح من العاملين في النفق ، أن نفرغ جميع الأفرشة ــ الدواشك ــ من القطن ونملأها بالتراب . فرفضنا هذا المقترح كما رفضنا العديد من المقترحات غير العملية . أو التي تؤدي الى كـــشـــــف العمل برمته . وبقينا مشدودين الى تلك المعضلة نفتش عن حل حتى وان كان جزئيا وبطيئا فلم نجد حلا لمشكلة التراب المعقدة والتي نعاني منها أشد الآلام حيث لم ينجز من النفق الا ما يزيد على ثمانية أمتار وأمامنا ما يزيد على خمسة أمتار أخرى يجب انجازها ولكن أين نذهب بترابها . وبقينا ما يقارب من نصف شهر في حالة لا نحسد عليها وشعرت ان حالتي الصحية ازدادت سوءا بسبب ذلك التوتر العصبي والغذاء الرئيسي كان الشاي والسجائر فقط وقطعت التدخين استعدادا لمقتضيات الهروب . وفي أحد الأيام ــ وعلى ما أظن في مطلـع أيلول ــ جاءني حافظ رسن ، وهو يبتسم من بعيد ابتسامة ألفرح وعندما جلس بقربي قلت له : بشّر . قال: والله عثرنا عليها وأخذ يشرح لي المقترح . ومن أجل إيضاح المقترح للقارئ . أشرنا أعلاه : يوجد أمام باب غرفة النفق غرباً ممر عريض وعلى كل جانب منه ثلاثة أو أربعة غرف وفي الجانب الجنوبي من تلك الغرف وعلى جدارها الخلفي عندنا ما يشبه الغرف مبنية هياكلها من أنابيب الماء والبطانيات . واحدة منها معدة للحلاقة والثانية لكوي الملابس ، والثالثة مـخزن والرابعة مقهى .

وكان المقترح : أن نقوم هياكل هذه الغرف بأخشاب متينة للقوائم والسقف ونقدم طلباً للإدارة من اننا نريد أن ( نلبخ ) تلك الغرف بالطين حيث قادم علينا الشتاء ونطلب سيارة من التراب وكمية من التبن لهذا الغرض . وعندما نكمل الهياكل الخشبية ونستر الغرف من كل جوانبها ونخلي أحدى الغرف القريبة من غرفة النفق من سكانها ، حينذاك نبدأ بنقل التراب من غرفة النفق عبر الغرفة المجاورة ومن الشباك نرمي التراب الى أحدى الغرف المراد لبخها بالطين . ان هذا المقترح أنقذ الموقف وأخرجنا من حالة الى أخرى مفرحة ويؤسفني لم أتذكر من هو صاحب المقترح من الرفاق الثلاثة . أهو الرفيق فاضل . أم هو الرفيق جدو وقد يكون حافظ رسن هو صاحب الاقتراح . ولا بد أن يكون الجميع ساهموا بجعل المقترح أكثر كمالاً . وذات يوم قدمنا طلبا الى مقاول الأرزاق عبر الادارة عن كمية الخشب التي نحتاجها لقيام هياكل الغرف وأجلنا بقية خشب السقف الى وقت آخر ولأن مجموع الكمية تلفت النظر وبعد اسبوع قدمنــــا طلباً لخشب السقـف ولعدد من لوحات البلـــيــــت ( الجينكو) المضلع للسقف أيضا . وطلبنا سيارة كبيرة من التراب وكمية من التبن وأوضحنا الغرض منها . وبسرعة فائقة أكمل هيكل الغرف وانتقل العمل الى السقف . وأدخلنا جميع التبن وعربتين من التراب فقط وترك البقية من التراب في الشارع يلعب عليه الأطفال وعند اكمال السقف وغلق أبواب الغرف الجديدة ومنافذها بدأ نقل التراب ، بعد منتصف الليل من غرفة النفق والى الغرفة الثانية وعـبر الشباك والرفاق الثلاث هم الذين أنجزوا هذا العمل الشاق . وخلال بضعة أيام وقبل وقوع انشقاق ( رمزي ــ وليد )(*) انتهى كل شيء وتخلصنا مــن كل التراب وعاد العمل في النفق من جديد .

ـــــــــــ

(*) المعني به انشقاق القيادة المركزية في أيلول 1967 حيث رمزي هو عزيز الحاج / وليد هو المرحوم حسين الكمر . خ . ح

……………………….. يتبع