عمران العبيدي شاعر تتقد الكلمات بين أصابعه

عمران العبيدي شاعر تتقد الكلمات بين أصابعه

ليس كل من كتب الشعر شاعرًا، لكن عمران العبيدي حين يكتب، تهتزُّ اللغة كما لو أنها تستيقظ على صوتها الأول. في ضوء المحاويل، هناك حيث ولد في 27 أيار1964، كان لعطر وملحها الأرض أثره في تشكيل ملامح هذا الشاعر الذي عجن وجدانه بالأسئلة لا بالأجوبة، وكتب من رعشة الروح لا من صفاء اللفظ فقط. تخرّج من كلية الآداب – قسم الإعلام في جامعة بغداد عام 1986، ليبدأ رحلة طويلة بين الكلمات، والورق، والمواقف، والميكروفونات، والمهرجانات، والشاشات.

ما إن فرغ من دراسته حتى التحق بوزارة الثقافة، وهناك اكتشف أن العمل الوظيفي لا يحجب الحلم، بل قد يمنحه أجنحة أخرى. فكان الكاتب والموظف، الشاعر والناطق الرسمي، الجندي المجهول في إدارة مهرجانات العراق الكبرى، والاسم الذي ينساب بهدوء بين الصفحات ليترك أثرًا لا يزول.

ثلاث مجموعات شعرية تحكي عن عمران العبيدي، لكن كل واحدة منها تقول عنه شيئًا مختلفًا. في “حين يلتبس السؤال” بدا شاعرًا مشتبكًا مع العالم، يطارد الحقيقة وسط دخان الكلمات، أما “وشم لذكرى وجه” فهي مرآته الشخصية، كتاب الحنين الذي لا يُغلق، حيث يتداخل الحرف مع الألم، والرمز مع الطيف، والغياب مع الحضور. وفي “وأنتِ تلمعين أصابع الوقت”، يضع القارئ في مواجهة الجمال المفاجئ، فتتبدى المرأة لا ككائنٍ عاطفي، بل كزمنٍ متوهج، كلما حاولت الإمساك به، انسكب من بين أصابعك.

يكتب العبيدي شعره كما لو أنه يكتب على ماء، لكنه لا يتلاشى، بل يظل هناك… في الذاكرة. ويكتب مقالاته الصحفية كما لو أنه يفتح نافذة في الجدار، نافذته الأسبوعية التي ظلّ يطل منها عبر جريدة “الاتحاد” وغيرها، كانت مساحة للتأمل، والنقد، والمكاشفة، وملمحًا من ملامح تجربته التي جمعت ما بين الأدب والإعلام والاشتغال الثقافي اليومي.

يرى فيه بعض النقاد صوتًا شعريًّا مائزا، لا تغويه الحداثة الشكلية، بل يتوغل في وجدان الحداثة من حيث الروح والمعنى. لغته رشيقة بلا افتعال، عميقة بلا تعقيد، ويؤمن كثيرون أن توازن العبيدي بين اشتغاله الإعلامي والشعري هو ما منحه مرونة الرؤية ووضوح الأسلوب. يصفه أحد النقاد بأنه “شاعر الهمس الجارح”، في إشارة إلى هدوئه الظاهري وقدرته على تمرير الدهشة في سطر عابر.

عمران العبيدي لم يكن شاعرًا يعيش في برج، بل نزل إلى الأرض، وتنقل بين القنوات الفضائية، من “الحرية” إلى “الحرة عراق” و”العمود الثامن”، متحدثًا ومدافعًا عن الكلمة والثقافة. وخلف الكواليس، كان المشرف والمخطط والمدير، يقف وراء مهرجانات مثل المربد والكميت والمتنبي، يصوغ التفاصيل، ويمنح الآخرين الضوء، ويكتفي بالظلّ الذي يكبر على جدار المحبة.

كان المتحدث الرسمي لوزارة الثقافة بين 2015 و2019، لكنه لم يتخلَّ عن شاعريته لحظة، بل ظلّ يكتب ويصوغ حضور الثقافة بلسانٍ شعريّ. شارك في اللجنة العليا لجائزة الإبداع العراقي، وأسهم في تنظيم عشرات الفعاليات والمناسبات، جامعًا بين فكر المثقف ورشاقة الإعلامي وشفافية الشاعر.

نال جوائز عديدة، وشهادات تقدير، لكنه ظلّ وفيًّا لذاته، بعيدًا عن الأضواء الفارغة. رأس تحرير “جريدة الفرات الأوسط” التي كانت تطبع ثقافة مختلفة، تؤمن بأن الكلمة هي الرافعة الحقيقية لأي مشروع حضاري.

عمران العبيدي، في خلاصته، هو شاعر يعرف كيف يُطوِّق المعنى بصمت، وكاتب ينسج الحروف بيد خفية، وإعلامي لا يصخب، بل يقنع. هو شاعر يسير على أطراف اللغة، فلا يكسرها ولا يكسر معها القارئ، بل يأخذه إلى ضوء بعيد… يشبه الوطن حين يكون حلمًا.

أحدث المقالات

أحدث المقالات