18 ديسمبر، 2024 6:05 م

ليل الأهوار لن يؤرقهُ سوى غناء النساء الساحرات ، أنها مهنة الحلم الأكثر شيوعا في حياة الليل ، المطارق فيها دموع حنيننا والمناجل بحة الكاهنات المنشدات في ارقة الروح وهي تبحث عن ملاذ آمن تودُ فيه الاستراحة من تعب النهار وأسى أنْ تسمعَ صراخا بعد منتصف الظهيرة يقولون لك فيه : أنَ داخل بن سوادي عطب  (9 سنوات ) قد غرقَ للتو بمياه الهور وهو يطارد جاموسة نافرة ، عندها لن يكون بمقدوركَ أن ترفع من صوت شذى حناجر الكاهانات في ليل الاذاعات والراديو وتقربُ سماعة الجهاز الى اذنكَ وبصوتٍ خافتٍ تبحث عن صوت لميعة مثلما كان السياب يبحثُ بهدوءٍ وصمتْ وخلسة عن وجوه النساء ليسجلَ أساطير جمالهنَ في قصائده .

تلك الايام البعيدة جدا ، أستذكرها الآن مع صوت الهاتف البعيد للشاعرة الرائعة لميعة عباس عمارة ، فهي بين حين وحين تتذاكر معي احلامها ومشاريعها ، يقظة ممتلئة بالجمال والحيوية بالرغم من انها أجتازت الخامسة والثمانين ، وفي آخر صوت هاتفي لها من امريكا كانت قربي في صوت الحاسوب تغني كاهنة اخرى تدعى لميعة توفيق ، حيث تربكني خمائل صوتها وهي تغني ( هذا الحلو كاتلني ياعمه ) لتذكرني بتلك الليلة الحزينة التي غرق فيها التلميذ في الصف الثالث في مدرستنا ( داخل بن سوادي عطب ) وكيف كانت أمهُ تنحبُ وتولولُ وتقول :اين انت يا وليدي الحلو .

 وفي تلك الليل اكثر من اذاعة أحست بأسى الأم المعيدية وبثت اغنية لميعة توفيق ( هذا الحلو كاتلني يا عمة ) وقتها بكيت وهمسة للمذياع :

عمتي لميعة ،الحلو الذي قتلكِ غرق اليوم في مياه الاهوار وعشرة رجال من اهل قريتنا يبحثون عنه ولم يجدوه الى الآن.

صوت لميعة توفيق الغائب في ازقة الاذاعات وصوت (لمعية عباس عمارة ) القادم في اثير اسلاك الهواتف الارضية يجتمعان عند حدود الشوق للمكان البعيد ، الرقة المتناهية في المشاعر والحنين السومري للمكان البعيد عند الاديم الاخضر الذي كنا نصنع عليه ارائك الغرام والكتابة وامنيات السفر.

الآن واحدة من ( اللميعتين ) سافرت في صدى السماء البعيدة تنتظر قدرها مع جمال صوتها إنْ كان يُؤهلها لتدلف عبر بوابات الورد الى جنة دلمون ، واللميعة الرائعة الاخرى تعيش مثلي اغتراب القارات ، هي في امريكا ، وانا في اوربا.

أحسب المسافة بأميال الحنين الممتدة في الحبال الصوتية في حنجرة لميعة توفيق فأحصل على كم هائل من الذكريات وذلك الفجر المترب بالعويل يوم استطاعوا ان يجدوا الدمية الغريقة (داخل بن سوادي عطب ).

هذا الكم يتدثر الآن بشرشف الحنين ويكتب السطور الاخيرة لمديح عمتي المرحومة ( لميعة توفيق ) واتحدث عن ذاك الزمن الملوكي الذي فات أوانه فالتواريخ الحالمة لا تُستعاد لمجرد انكَ تحلم فيها ، لكننا على الاقل نضعها عند ضفاف انهر الذاكرة لنسبح معها في امنية صغيرة تهجع اليها نفوسنا بعيدا عن هذا الهدم الذي ينخر بمعاول المنافي ارواحنا واجسادنا ويبدل حتى لهجة ابناءنا .

من ( الجا واللعد ) الى ( الثانكيو) الانكليزية و( الدانكشون ) الالمانية و( المرسيه ) الفرنسية و( الكراسياس ) الاسبانية وكلها تعني شكرا …

وعليه تبقى هذه الاغنية وغيرها فيتامين يرمم كل ما يتهدم ونمتلك في سلطنتها شيئا من ذوق نحتاجه حتى في رسائل الغرام ومكالمات الموبايل ونصوص المقالات والرواية والشعر ،لأن هكذا هاجس صُنعَ من بحة لميعة توفيق كفيل بخلق لحظة الحسم لنتحول ولو لربع ساعة الى بشر غطتهم الاحلام الحقيقية ببردتها واغرقتهم امطار الشوق للمكان الاسطوري .

مكان السنونو وشجر النخيل والعصافير وبائعات القيمر وغجريات اغاني داخل حسن .