سابقاً .. لم يعينني وقتي بالإطلاع الكافي على مؤلفات عالم الاجتماع العراقي علي الوردي ، أي نعم في بدايات وعينا الاولى وإرهاصات السياسة ، كنا نردد شذرات من نتائج دراساته وطروحاته وأستنتاجاته حول الشخصية العراقية وازدواجيتها في المواقف العامة والحياة الخاصة ومؤثرات الصراع بين قيم البداوة والحضارة ونظرية التناشز الاجتماعي وإنعكاساتها على السلوك العام للفرد العراقي وموقفه من الحاكم والعشيرة والقبيلة والطائفة . يقول كلام به حق ووجهة نظر في الشخصية العراقية من السهولة أن تبايع الحاكم وتهتف للسلطة وأيضا من السهولة أن تتخلى عنه وترفع السلاح بوجهه في منعطفات المواقف والاحداث والوقائع والبراهين كثيرة بهذه المضامير القديمة والحديثة وليس بصدد الوقوف على تفاصيلها المملة . في قراءاتي الاخيرة عن ”علي الوردي ”سيرته الذاتية ومؤلفاته في علم الاجتماع العراقي والحركات الاجتماعية وتحليل مواقفها على ضوء دراسات سابقة وتأثره بمنهج ابن خلدون التاريخي في علم الاجتماع .
كان الوردي متأثراً بمنهج ابن خلدون في علم الاجتماع. فقد تسببت موضوعيته في البحث بمشاكل كبيرة له من بعض الاطراف السياسية الفاعلة في ساحات العراق لواقعية استنتاجاته وموقفه العلمي الصحيح المعلن بعيداً عن أتكت المجاملات والمحاباة ، لكن هذا لن ولم يثنيه عن صراحة ومنطق بحوثه في تكوينات وتحليل الشخصية العراقية ، لأنه لم يعتمد الفكر الماركسي في منجزاته ولم يتبع الأيدولوجيات (الأفكار) القومية الجاهزة مما قد آثار هذا حنق متبعي الأيدولوجيات فقد اتهمه القوميون العرب بالقطرية لأنه عنون كتابه” شخصية الفرد العراقي” وهذا حسب منطلقاتهم العقائدية إن الشخصية العربية متشابهة في كل البلدان العربية. وكذلك انتقده الشيوعيون لعدم اعتماده المنهج المادي التاريخي الماركسي في دراسته .
تشير سيرته الذاتية الى إنه …
علي حسين محسن عبد الجليل الوردي (1913- 13 تموز 1995 م)، وهو عالم اجتماع عراقي، أستاذ ومؤرخ وعُرف بتبنيه للنظريات الاجتماعية الحديثة في وقته لتحليل الواقع الاجتماعي العراقي، وكذلك استخدم تلك النظريات بغرض تحليل بعض الأحداث التاريخية، كما فعل في كتاب وعاظ السلاطين وهو من رواد العلمانية في العراق . لقبت عائلته بالوردي نسبة إلى أن جده الأكبر كان يعمل في صناعة تقطير ماء الورد ، التي أشهر بها العراقيين في فترات سابقة . في مدينة اوستن، بالولاية الامريكية تكساس الامريكية. حصل على الدكتوراه عام 1950م من نفس الجامعة التي درس بها دراسته الجامعية .
قال له رئيس الجامعة عند تقديم الشهادة له: (أيها الدكتور الوردي ستكون الأول في مستقبل علم الاجتماع ). تشير حصيلته في الدراسات والبحوث الى أكثر من 150 بحثا مودعة في مكتبة قسم علم الاجتماع في كلية الآداب جامعة بغداد. ويسرد علي الوردي في يومياته إن ولادته في عام ١٩١٣ لقد حققت له فرصة التعلم والمعرفة والتي شهدت نهايات الحكم العثماني ، والتي كانت المدارس في فترة هذا الحكم ضئيلة ومختصرة على أولاد الباشوات والاعيان ، لكن فرصة مجيء ملك فيصل الأول ملكاً على العراق فتحت أبواب العلم والمعرفة من خلال بناء المدارس والنوادي التعليمية وأعتزازاً منه بتلك المرحلة أطلق على أحد أبنائه فيصل . ويستذكر طفولته في بداية حياته الدراسية عندما كان يعمل صانع في محل للرزق، كيف كان يهمل الزبائن ويلهو بقراءة الكتب مما دعا صاحب المحل الى طرده من شغله .
علاوة على شجاعته في كتاباته ومحاضراته إنه كان يكتب بلغة متناهية في السلاسة والفهم والوضوح بلغة تحليلية نقدية تفكيكية للشخصية على منهج أبن خلدون في دراستة لعلم الاجتماع . تفرد في بحوثه وكتاباته بالموضوعية والغوص في تركيب النفسية الاجتماعية ولا يبالي وبدون تردد ولاخوف من كل الفرق والحكومات وأجهزة الشرطة والقمع وعلى مدار عقود في مواصلته من نشر بحوثه واعلانها للملأ رغم كل الضغوطات الهائلة والاغراءات الثمينة لكنه بقى متمسك بمنهجية العلم والبحث والتحليل في إداء رسالته العلمية والانسانية . وقد وجد وتوصل من خلال بحوثه خواصاً في الشخصية العراقية غير التي موجودة في تكوينات النفس البشرية مما أغاضت الحكام والحكومات على مدار الانظمة المتعاقبة ، وجد بها نموذجاً لاتشاركه فيه أبناء المجتمعات الاخرى .
حصد علي الوردي سخط البعض نتيجة أفكاره النقدية وبرز ذلك عند إصدار كتابه الأول “وعاظ السلاطين”، الذي يسخر فيه من النزاعات التي حدثت حول الأفضلية بين عمر وأبي بكر وعلي والذي كانوا برأيه يمثلون اتجاهاً واحداً. وبعد إحتلال دولة العراق من قبل القوات الامريكية وحلفائها عام ٢٠٠٣ برزت تلك النبوءة الى العلن في الاقتتال الطائفي الدموي الذي شخصها وحددها علي الوردي في ملامح الشخصية العراقية من خلال سلسلة دراسات واستنتاجات توصل لها في بحوثه .
ساهم على الوردي في إعادة قراءة الأحداث الإسلامية بنظرة واقعية موضوعية بعيدة عن المثالية وعن التحيّز للأحداث التي حصلت في التاريخ الإسلامي، كالصراع السني الشيعي وتداعياته التي ما زال المجتمع العربي يتجرع مرارتها، فدعا في منشوراته إلى نبذ الخلاف الطائفي لأن الزمان أكل وشرب على هذا التاريخ القديم ، وكان أبن بيئته أنذاك بحكم الظروف والمعطيات التي كانت سائدة .
يشكل كتابه الثاني بعد كتابه الأول ” وعاظ السلاطين ” مهزلة العقل البشري ”الصادر ١٩٥٩ علامة فارقة في طروحاته فيه تمكن من تفكيك شبكات العقل ووسائل التفكير من خلال تحليلاته حول المنعطفات التاريخية التي عصفت بسيرة الحضارة العربية الاسلامية والخلاف حول المذهب ومرجعيته بعد مقتل الخليفة الاسلامي الثالث عثمان ابن عفان وبروز فرق شيعية وسنية ومنذ ذلك الوقت ظل هذا الصراع متخفياً تحت أجندة متعصبة وحاقدة من الطرفيين ، وبعد أن أحتل الامريكان بغداد عام ٢٠٠٣ فتح الشيخ جلال الدين الصغير مسجد براثا في كرخية بغداد ليكون ناصية للبث الطائفي والتحريض على القتل للمكون الآخر ، مثلما في المقابل راح السنة بتشكيل فرق وطوائف للقتل والذبح . رآى علي الوردي في كتابه هذا للحقيقة عدة وجوه ناقداً مبدأ ارسطو في نفيه للوسطية في دراسة الظواهر الاجتماعية . الملاحظ في السنوات الأخيرة ومما أصاب العراق والمنطقة بشكل عام من أحداث وأنقلابات وأحتلالات وقتالات وتشرذم على كل المستويات السياسية والفكرية والاخلاقية والاجتماعية مما ترك ألتفات واضح بمؤلفات علي الوردي وتداولها بشكل واسع من المهتمين والدارسين وعامة الناس من حيث قراءتها مرات وأعادة طبعها من عدة دور نشر بعد أن وجدت هذا الاقبال المتواصل من عامة الناس على متابعتها وأعادة قراءتها ، وقد أقيمت برامج تلفزيونية وندوات وعبر منصات التواصل الاجتماعي حول سيرته ومؤلفاته وأستنتاجاته حول تركيب النفس البشرية في سبق أغوارها وأبداعها .