التنمية بصورة عامة هي عملية تنطوي على تغيير حاسم في كل مجالات القدرات الإنسانية والنشاط الإنساني في المجالات الروحية، الفكرية، الاجتماعية، الاقتصادية، التقنية، والتعليمية أيضا.
وهي تنطوي على توظيف جهود الكل من اجل الصالح العام للمجتمع والدولة على السواء، لاسيما لدى القطاعات أو الفئات الاجتماعية التي حرمت في السابق من فرص النمو والتقدم المشروعة، إذن هي عملية إحلالية جزئية أو كلية لأنماط فكرية ومادية تمس بشكل جوهري البني التحتية وحتى الفوقية، بما يجعلها تتخذ مسارين متوازيين في الصعود احدهما أفقي والآخر عمودي، وكلاهما يتعلق بتغيير الأنماط التقليدية التي سادت في الماضي على مستوى الفكر والتطبيق، ليصبح هذا التغيير أكثر حداثة ومتوائما مع حركة التغيير التي يشهدها العراق منذ عام (2003) وبشكل مستمر.
وانطلاقا من هذا الوصف يمكن أن نعد الدراسة الجامعية الأولية جزء لايتجزاء من البنية التحتية لأي مجتمع، لان التعليم احد ركائز التنمية البشرية، أذما سخرت كل الجهود والطاقات الحقيقية الممكنة للارتقاء بواقع التعليم في العراق، وسيؤدي بكل تأكيد نحو تنمية الطاقات الإبداعية لحاملي الشهادات الجامعية.
ماهي الصيغة الفكرية التي وضعتها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لتنفيذ عملية التنمية؟
في هذا الصدد نجد أن الوزارة وبناءا على توجيهات وزير التعليم العالي، قد اعتمدت إستراتيجية وطنية لتطوير التعليم، وعدت نقطة انطلاق نحو تأسيس بنية تعليمية حقيقية، إذ ساهمت إلى حد كبير بتجاوزنا لكل أشكال الإخفاقات التي واجهها التعليم كمنظومة فكرية وتعليمية، ومن جانب أخر شكلت البداية للارتقاء بالتعليم العالي ليواكب سائر الدول المتقدمة في الحياة العلمية والتعليمية.
وهذه الإستراتيجية تطرح ثقافة تعليمية جديدة ترتكز بالأساس على تحويل العملية التعليمية بمدخلاتها ومخرجاتها نحو خدمة المجتمع وتلبية متطلباته المختلفة، لاسيما بعد تنامي حجم المعرفة العلمية بشكل مضطرد وتصاعدي وتطور التقنيات المعلوماتية والتكنولوجية في كل الاختصاصات، مما شكل حافزا قويا لتغيير ثقافة التعليم العراقي مع مراعاة خصوصيته الإسلامية والثقافية،
هذه الفكرة هي ما أكد عليها وزير التعليم العالي علي الأديب حين أشار أن عراق اليوم لم يعد بحاجة إلى مجرد شهادات جامعية لاتصلح إلا للبحث عن وظيفة ما، بقدر ماهو بحاجة إلى تنمية طاقات إبداعية وعلمية مؤهلة تسهم بإعادة إعمار البلاد وتلبية متطلبات الدولة المدنية الحديثة القائمة على تكامل الإنسان مع مجتمعه.
وهنا يثار لدينا تساؤل إذا كانت هذه الفكرة هي الأساس الذي انطلقت منه رؤية الوزارة فيما يخص تنمية الطاقات الإبداعية ضمن إطار التعليم، فماهي الأهداف التي تسعى الوزارة إلى تحقيقها كجزء من إنجاح هذا المشروع؟
بهذا الشأن نجد أن هذه الإستراتيجية سعت إلى تحقيق العديد من الأهداف أهمها:-
1- العمل على إيجاد نظام واضح ومتكامل يحقق الترابط بين الجامعات ومؤسسات الدولة والمجتمع.
2- تحقيق نوع من التكامل بين سياسة التعليم الجامعي وخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وذلك عبر تطوير المناهج الجامعية والتي ستؤدي إلى تخريج كوادر مبدعة وليست متعلمة وحسب بحيث تكون قادرة على تلبية احتياجات المجتمع ومشاريعه التنموية.
3- إيجاد قنوات اتصال واعتماد آليات وبرامج متعددة لتحقيق التعاون المتواصل بين مؤسسات الدولة والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني في سبيل تذليل العقبات التي تواجه عملية إعادة إعمار العراق وتنميته.
4- الانفتاح على الجامعات المتقدمة في العالم، من حيث المناهج والمشاركة وإبتعاث الطلبة والزمالات البحثية، فمنذ عام (2011) بدأت الوزارة تعتمد برامج واليات مختلفة عن المراحل السابقة، تمثلت بالانفتاح والتعاون بشكل اكبر مع الجامعات العالمية، لاسيما أن نظرتها لتلك التجارب في مجال التعليم كانت أكثر ايجابية، وأدركت أهمية مواكبتها وموائمتها بشكل يتوافق مع الخصوصية الثقافية للعراق والذي من شانه أن يخدم عملية بناء العراق الجديد.
5- التركيز على الدراسات العلمية والمجتمعية، عن طريق الاهتمام بالبحث العلمي والارتقاء به، فضلا عن استحداث وتطوير المراكز البحثية، ففي المراحل السابقة كان التركيز مقتصرا على الكليات فقط، أما تركيز الوزارة الآن اتجه نحو تفعيل وتطوير عمل المراكز البحثية وربطها بمؤسسات صنع القرار.
6- التركيز على ترصين الجامعات والكليات الأهلية والتشجيع على إقامة مثل تلك الجامعات كجزء من تدعيم الاستثمار الوطني الداخلي، باعتبارها أداة فاعله لتنمية واستثمار الطاقات والموارد البشرية.
7- تعزيز روح المواطنة ومراعاة حقوق الإنسان وإشاعة مفهوم التعايش والتسامح، وذلك عبر إيجاد قاعدة تعليمية وتثقيفية للطالب الجامعي، لان مهمة الجامعة انطلاقا من الرؤية الفلسفية للوزارة لاتقتصر على التعليم في الجانب العلمي، وإنما تشمل التعليم والتنشئة القيمية والثقافية للطالب، والتي من شانها أن تؤدي إلى خلق إنسان واعي ومتعلم وقادر على الإبداع لامتلاكه أسس المعرفة العلمية والثقافية، التي تمكنه من الانفتاح على الآخر والتعامل مع مستجدات العصر بشكل أكثر ايجابية ويحترم التمايز والتنوع بشكل اكبر.
وخلاصة الأمر نجد أن انجاز هذه الأهداف طبقا للرؤية الإستراتيجية للوزارة تجعلنا نتسأل هل هي مجرد تصحيح لمسارات سابقة لها وقت محدد وتنتهي؟ أم إنها خطة متكاملة لصناعة وترسيخ سياسية تعليمية ترتقي بالواقع الأكاديمي والفكري الإبداعي؟
عبر متابعتنا لعملية تنفيذ وتطبيق إستراتيجية الوزارة نجد أن ماحققته في السنوات القليلة الماضية اختزل كل السنوات السابقة قبل وبعد التغيير في العراق، والتي شهدت إخفاقات عديدة كادت أن تؤثر سلبا على واقع التعليم العالي ، كما أن توجيهات ومتابعة وزير التعليم العالي علي الاديب المستمرة ساهمت بشكل واضح إلى زيادة جهود الوزارة بشكل كبير ومتميز على المستوى الأفقي والعمودي،وبالتالي هذه العملية هي خطة متكاملة لصنع وإدارة سياسة التعليم العالي، ونحن اليوم بدأنا بقطف ثمار هذه الرؤية الفلسفية والإستراتيجية إذ تم تحقيق العديد من الأهداف التي وضعت ولازالت مستمرة، وهذه الجهود والانجازات نعدها شمعة مضيئة أخرى تضيء جذوتها ظلمة إحدى زوايا إخفاقات العهود السابقة، وخطوة حقيقية نحو بناء مجتمع المعرفة والتطور يرتكز على المضامين القيمية والإنسانية ويؤمن بالتسامح وحوار الثقافات والديمقراطية.