23 ديسمبر، 2024 8:07 ص

على ما يبدو ايران تفكر بعد ان تدبر لتدفع لتطبيق الكورس الطالباني او التركي

على ما يبدو ايران تفكر بعد ان تدبر لتدفع لتطبيق الكورس الطالباني او التركي

تركيا دولة إسلامية وجارة للعالم العربي. إيران كذلك. وليس هناك أدنى شك في أنه يجب أن يرتبط العالم العربي مع كلتيهما بعلاقات حسن جوار متينة. ما بين العالم العربي وكل من إيران وتركيا إرث تاريخي مشترك يمتد بعيداً في التاريخ. صحيح أن في هذا التاريخ الكثير من المحطات المظلمة. لكن فيه أيضاً الكثير من المراحل المضيئة. هناك تنافس إقليمي، لكن هناك أيضاً مصالح مشتركة بين هاتين الدولتين والعالم العربي. كل من إيران وتركيا تملك من الثقل السياسي والتاريخ، والمصالح ما يمكّنها أن تمثل بسياساتها ومواقفها رصيداً للدول العربية، وعمقاً استراتيجياً لها أيضاً، والعكس صحيح. أين تكمن المشكلة إذن، خاصة بالنسبة لإيران التي أصبحت في السنوات الأخيرة مصدراً لقلق وشكوك الكثير من العرب؟ هل من مبرر لذلك؟ هل تجاوزت إيران خطوطاً عربية حمراء أطلقت أجراس القلق والشك في أكثر من عاصمة عربية؟ ولماذا إيران تحديداً وليس تركيا؟ اللافت، والمثير لأكثر من سؤال أن القلق العربي مصدره إيران التي لا تعترف بإسرائيل، العدو الأول للعرب، وليس تركيا، العضو في حلف الأطلسي، والتي ترتبط مع الدولة العبرية بعلاقات متينة. يقال دائماً إن عدو العرب هو إسرائيل، وليس إيران. وبالتالي يجب التعامل مع إيران على هذا الأساس. برز هذا الرأي في ظل المخاوف العربية من البرنامج النووي الإيراني، ومن تمدد نفوذ طهران إلى داخل العالم العربي. من هنا يرى البعض أنه لا يجب الإنجرار إلى حالة من خلط الأوراق، وقلب الأولويات من خلال افتعال خلافات وصدامات عربية مع إيران في الوقت الذي تتخذ فيه طهران موقفاً مسانداً للعرب في صراعهم مع العدو الإسرائيلي. السلاح النووي الإسرائيلي هو مصدر الخطر الأول والحقيقي على العالم العربي، وليس السلاح النووي الإيراني، على افتراض أن برنامج إيران النووي موجه بالفعل لامتلاك هذا السلاح. وهذا رأي جدير بالتوقف أمامه قليلا. فالحقيقة أن إيران بالفعل ليست عدواً للعرب، ولا يجوز التعامل معها على هذا الأساس. يجب ضبط الأولويات والمفاهيم بالتأكيد على مسألة مهمة هنا، وهي أن إيران على المستوى الإقليمي دولة منافسة للدول العربية. في المقابل إسرائيل على المستوى نفسه هي العدو الأول للعرب، وربما الأخير. لكن يجب أيضاً عدم خلط الأولويات والمفاهيم على الجانب الآخر. فإيران دولة كبيرة، ومثل غيرها من الدول لها طموحات، ومصالح سياسية، إقليمية ودولية. وبما هي كذلك من حقها أن تسعى إلى خدمة وحماية مصالحها، وتعزيز دورها الإقليمي بما يتفق مع تلك المصالح، وبما يخدم طموحاتها. الشيء نفسه ينطبق على الدول العربية. ولأن إيران ليست عدواً للعرب لا مبرر للقول بأن طموحها في أن تكون دولة نووية لن يؤثر على ميزان القوى في المنطقة، وبالتالي لن يؤثر على مصالح الدول العربية. هذا منظور أخلاقي تبسيطي للإشكالية، ويصطدم رأساً مع طبيعة الدولة بما هي كذلك، ومع الواقع السياسي للعلاقات بين الدول، كعلاقات تتأسس في أصلها وفصلها على الصراع: صراع المصالح والأدوار. وما ينطبق على إيران من هذه الناحية ينطبق أيضاً على الدول العربية، وغيرها من الدول. ولا أظن أن أحداً يريد أن يجعل من إيران أو غيرها حالة أخلاقية استثنائية. وإلا فعليه أن يواجه مجموعة من الأسئلة: لماذا سكتت إيران عن الغزو الأميركي للعراق، والإطاحة بنظامه السابق؟ هل لأن النظام السابق كان عدوها اللدود؟ هل تعاونت طهران مع واشنطن، بشكل غير مباشر، لغزو العراق؟ كيف يمكن في هذا الإطار فهم الدور المركزي لـ”المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق” في عملية الغزو، والإطاحة بالنظام السابق، وهذا المجلس تأسس وتمول من إيران، وكانت طهران مقره الأهم والأكبر؟ من الطبيعي أن تستخدم إيران منظوراً أخلاقياً لدورها ولمصالحها، وهي في ذلك لا تختلف أيضاً عن الدول الأخرى، وذلك لتبرير هذا الدور، وللتغطية على حقيقة أهدافه وطموحاته. لكن الغريب أن يتم تبني هذا المنظور الأخلاقي من قبل البعض بشكل ينم عن بساطة في الرؤية، أو ربما أسوأ من ذلك. فحقيقة أن إيران معادية لإسرائيل لا يعني بالضرورة بأن على العرب التعامل معها على أنها دولة استثنائية. ليس هناك دولة يمكنها أن تكون كذلك، ولم يكن من قبل. حتى الدول الدينية، وإيران أقرب لهذا النموذج، هي في الأخير دول مصالح وطموحات سياسية. لا يعني هذا الكلام أن الدول لا تتميز عن بعضها. هي تتميز، لكن هذا أمر يختلف عن المنظور الأخلاقي، الذي يستخدم كثيرا، ومن قبل كل الدول كغطاء أيديولوجي. ولعلنا نتذكر في هذا السياق ما عرف بـ”الهجمة الديمقراطية” لإدارة بوش السابقة، وكيف انتهت. الديمقراطية هنا كانت غطاءً أيديولوجياً مكشوفاً لسياسة الإدارة في المنطقة. بالعودة إلى الإشكالية الأساسية لعله من الواضح أن القلق العربي من الدور الإيراني أصبح من الحقائق السياسية في المنطقة. السؤال في هذه الحالة: لماذا ليس هناك قلق عربي من الدور التركي أيضاً؟ هل لأن إيران دولة شيعية، وتركيا دولة سنية؟ هل هناك ما يبرر قلق العرب من الدور الإيراني، وليس من الدور التركي في المنطقة؟ المقارنة بين طبيعة وحجم كل من الدور التركي والدور الإيراني تبرز الفروقات بين الاثنين. ليس مهماً أن إيران دولة شيعية، لكن المهم أن النظام السياسي الإيراني نظام ديني على أساس مذهبي ينص عليه دستور الدولة. في المقابل تركيا ليست في الحقيقة دولة سنية. هي دولة علمانية أغلبية شعبها مسلمة على المذهب السني. الأكثر من ذلك أن الحزب الإسلامي الحاكم في تركيا الآن يتبنى المفهوم العلماني للدولة، وبالتالي يمثل حالة فريدة في التأسيس للمصالحة بين العلمانية والإسلام.

النظام السياسي الإيراني، في المقابل، يتناقض مع ذلك تماماً، من حيث أنه يقوم على نظرية “ولاية الفقيه”،وهي ولاية دينية شاملة على أساس من المذهب الشيعي. وهنا تضع إيران نفسها في موقع من يرسخ ليس فقط فكرة الدولة الدينية، بل والانتماء المذهبي. فالدولة الإيرانية بمثل هذه التركيبة والمنطلقات الدينية التي ترتكز عليها تمثل واحداً من أقوى تجسيدات الحالة الطائفية للمنطقة. عندما نأتي إلى دور كل منهما، نجد أن الدور التركي، وتعبيراً عن طبيعة الدولة التي يمثلها لا يتجاوز كونه كذلك، دورا إقليميا من خلال التعامل مع الدول مباشرة: التفاوض، والوساطة، والتشاور. أحد أهداف الدور التركي أيضاً خدمة مصالح تركيا الاقتصادية من خلال الاستثمار، وتنفيذ المشاريع، والاتفاقات الاقتصادية. يختلف الدور الإيراني عن ذلك بشكل لافت. فهذا الدور امتداد لطبيعة الدولة الإيرانية. ومن هنا فالدور الإقليمي الإيراني لا يقوم على أساس من العلاقة مع الدول العربية، ومن خلال التعامل معها مباشرة. بدلا من ذلك يقوم هذا الدور على أساس من تواجد تنظيمي في بعض الدول التي تسمح ظروفها السياسية بذلك: مثل العراق حيث الشيعة فيه يشكلون أغلبية، والتنظيمات السياسية الشيعية هي من أبرز القوى السياسية في الدولة. ولبنان حيث الطائفة الشيعية تمثل مكوناً أساسياً وقوياً في النظام السياسي هناك. التواجد الإيراني داخل العالم العربي مثير للانتباه، ومثير لقلق الدول. فهذا تواجد تجاوز في حدوده الجانب السياسي. هناك تواجد مادي: عسكري، واستخباراتي، ومالي، وكل ذلك من خلال أحزاب أيديولوجية سياسية مرتبطة مباشرة مع إيران، وتعتبر القيادة الدينية الإيرانية مرجعيتها الأيديولوجية والسياسية. بعبارة أخرى، تحاول إيران من خلال هذا التواجد، ليس فقط لعب دور إقليمي مستحق، وإنما إيجاد قوى سياسية حليفة لها داخل المنطقة لممارسة الضغط على الدول العربية بهدف فرض خياراتها السياسية. ومن الطبيعي أن تتوجس الدول العربية من هذا الدور. لكن رغم مبررات القلق العربي من الدور الإيراني، فإن الدول العربية هي المسؤلة الأولى عن إيجاد الفراغ السياسي في المنطقة أمام تمدد هذا الدور بالطبيعة التي يمثلها. فشل الدول العربية في الصراع مع إسرائيل، وفشلها في تبني إصلاح سياسي واقتصادي، هو أهم العوامل التي أوجدت ذلك الفراغ الذي يتسلل من خلاله الدور الإيراني. الدول العربية قلقة من ذلك، وتشتكي من عواقبه المحتملة، لكنها لا تريد أن تعترف بمسؤوليتها عنه، وبالتالي لا تفعل شيئاً إزاءه.

باتت إيران في وضع يجبرها على تغيير سياستها تجاه حركة طالبان، التي سيطرت الشهر الماضي على أفغانستان، خاصة مع تسارع الأحداث وحدوث انقلابات استراتيجية لم تكن في الحسبان، بحسب ما يرى مراقبون.

وكانت حركة طالبان قد أعلنت قبل أيام أنها حسمت المعركة في وادي بانشير، آخر بقعة تسيطر عليها المعارضة في أفغانستان، وكانت إيران تعول على الوادي لكي تدخل منه إلى تفاصيل الصراعات الأفغانية.

ومعركة السيطرة على الوادي أظهرت وجود تعاون بين باكستان مع طالبان، على العكس من المشاورات السياسية الثنائية السابقة بين الدولتين، إذ اتفقتا في السابق على التنسيق فيما بينهما، وهو ما لم يحدث.

ودفع هذا الأمر بالخارجية الإيرانية إلى توجيه انتقادات مباشرة لموقف إسلام آباد، أما الحدث الثالث فتمثل بإعلان حركة طالبان لتشكيلة الحكومة الأفغانية الجديدة، التي لم تُشرك أية شخصية محسوبة على إيران، ولا سيما أقلية الهزارة.

وإزاء هذه التطورات الكبيرة في أفغانستان، باتت الجارة إيران مطالبة باتباع سياسة جديدة، وفق مراقبين أشاروا إلى أن تنظيم “فاطميون” الأفغاني الموالي لإيران، والتحالف الاستراتيجي مع روسيا، على رأس الأدوات المتوفرة.

وبحسب جون ألترمان، الباحث مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية: “لواء فاطميون (الأفغاني/الشيعي) الذي كان واحدا من نتائج التدفق السابق للمهاجرين الأفغان إلى إيران في الثمانينيات والتسعينيات، حيث أنشأت إيران هذا اللواء، الذي قاتل في أجزاء أخرى من الشرق الأوسط، نيابة عن الإيرانيين”.

وتابع: “ثمة احتمال بأن تحاول إيران إعادة بعض هؤلاء المقاتلين الأفغان الخاضعين للقيادة الإيرانية إلى أفغانستان، حيث توجد معركة للسيطرة على الدولة الأفغانية”.

لكن إيران بعد العام 2001، عقب الاحتلال الأميركي لأفغانستان، عادت لاحتواء حركة طالبان والتعامل معها بشكل غير مُعلن، وذلك لإنشاء ضغط سياسي وأمني على الوجود الأميركي هناك.

الدرس الأول يفيد بأن التشدد والثبات على المواقف مقروناً بفتح قنوات الاتصال والتفاوض، ولاحقاً الاتفاق مع أميركا، يمهد للاعتراف بك. يصبح الأمر أسهل إن كنت حاكماً بالفعل، كما هي حال نظام الثورة في إيران، ولا تنتظر من الآخرين تسليمك الحكم كما هي الحال في أفغانستان.

الدرس الثاني يفيد بأن التخفف من الآيديولوجيا والعودة إلى لغة المصالح المشتركة والتنمية الاقتصادية والاستثمارات يفتحان أبواب التطبيع مع دول الجوار، ويوفران سبل تحسين الاقتصاد، ويفتحان الأفق لا أمام الاعتراف بالحاكمية، بل أمام تعزيز فرص الاستمرارية في الحكم.

من غير المعروف حتى الآن أي مسلك ستتخذه إيران، وإن كانت بحكم التجربة أميل إلى الخيار الأول، وهو التشدد والصبر على أمل أن تغير واشنطن موقفها وتكتفي إيران بتقديم تنازلات لا تمس جوهر هوية النظام السياسي. إنها بهذا المعنى جولات متتالية من حزب «الصبر الاستراتيجي» بين الطرفين.

بيد أن ثمة فوارق مهمة بين كل من طالبان، والدولة التركية من جهة وإيران من جهة ثانية.

طالبان تبدو كأنها تعود إلى قواعد نشأتها الأولى كحركة قومية أفغانية ذات قاعدة قبلية بشتونية، بلا أي أحلام عابرة للحدود. وهي تدرك أنها استخدمت من قبل المشروع الجهادي العالمي ثم فقدت الحكم بسبب من ذلك بعد جريمة سبتمبر (أيلول) ، وأنها استعادت الحكم اليوم من دون منة أو معونة من هذا الجهاد العالمي. لا تنفي «محلية» طالبان العمق التخلفي لمشروعها السياسي والاجتماعي، ولا تقلل من خطورة الإلهام الذي ستوفره لفصائل الإسلام السياسي عالمياً، لكنها، حتى إشعار آخر تظل حركة داخلية، بلا مشروع خارجي.

وتركيا، دولة راسخة في الإقليم، وعضو في منظمة الناتو، تستضيف قاعدة إنجرليك العسكرية الأميركية، وصاحبة اقتصاد كبير بإمكانات واعدة رغم التعثر الخطير الذي تواجهه اقتصادياً ونقدياً.

الأهم أن تركيا الدولة، ليست نظاماً آيديولوجياً، وإن كانت اكتسبت الكثير من الملامح الآيديولوجية، منذ «التحور» الذي حصل في سياسات حزب العدالة والتنمية بقيادة الرئيس رجب طيب إردوغان، بيد أن من يتابع النص السياسي التركي منذ أشهر، يلاحظ حجم التخفف من اللغة الآيديولوجية والرومانسية التوسعية التي هيمنت على الخطاب النيو – عثماني في المؤسسة السياسية التركية، مقابل اللغة الراهنة التي عمادها المصالح المشتركة والاستثمارات والاقتصاد.

كأننا نشهد عودة إلى القواعد الإردوغانية الأولى، التي جعلت من تجربة رجب طيب إردوغان، في ذروة تألقها السابق، تجربة نجاح اقتصادي متميز، وضع لها شريكه السابق في الحكم، داود أوغلو، إطاراً نظرياً سماه «استراتيجية صفر مشاكل». فالاقتصاد التركي، إلى جانب السياحة، تقوده الصادرات التركية، ما يتطلب أن تكون الصلات بهذا الخارج خالية إلى أبعد الحدود من أي منغصات. ما حصل أن علاقات تركيا بدول الجوار تسممت وأن هذا الجوار انهار بشكل مريع حتى انتفت عنه صفة السوق للبضائع التركية، لا سيما في سوريا ولبنان والعراق.

ولأن تركيا ليست دولة آيديولوجية، كان من السهل عليها نسبياً أن تبدأ رحلة الخروج من «التحور الآيديولوجي» الذي أصابها، لا سيما بعد الهزائم المتتالية للإخوان المسلمين في مصر والسودان وتونس وليبيا، وأن تستجيب لحاجاتها الاقتصادية الملحة بتليين المواقف السياسية وتوسيع مساحات التفاهم مع مصر والسعودية والإمارات.

على الجانب الآخر فإن إيران نظام عقائدي في العمق. وهي الآن تجري مفاوضات عديدة وتبعث برسائل «إيجابية» ولكن بصفتها نظاماً عقائدياً ثابتاً في عقائديته.

غالباً ما يعود المتفائلون بإمكانية انتظام إيران وفق قواعد العلاقات الدولية التقليدية، إلى تجربة الرئيس الراحل هاشمي رفسنجاني، والتي أعقبت انتهاء الحرب العراقية الإيرانية بهزيمة إيرانية اختصرها الخميني بعبارة «تجرع كأس السم» حين وافق على القرار الأممي الذي أنهى الحرب. وبسبب هذه التجربة يحضون على تجاهل الطبيعة الآيديولوجية للنظام.

تميزت حقبة رفسنجاني بمرحلة من التفاهم مع دول المنطقة وبأجندة داخلية ركزت على إعادة الإعمار بعد الحرب وإعادة بناء الاقتصاد المحطم. لكنها الحقبة التي شهدت أيضاً عام تفجير الخُبر في المملكة العربية السعودية في عز مرحلة تفاوض واعدة بين الرياض وطهران، كما شهدت حقبة خلفه الرئيس محمد خاتمي، وهو أكثر صور إيران إشراقاً، اغتيال الرئيس رفيق الحريري في بيروت. وهذا ما يعيدني دوماً إلى الحمض النووي الثوري للنظام كمعيار في الحكم على أقوال وأفعال إيران.

ثم إن إيران اليوم ليست إيران رفسنجاني، لا بحجم توسعها في ساحات الاشتباك العديدة ولا بحجم الميليشيات التي تأتمر بأمرها، ويبلغ عدد الفصائل الرئيسة منها ، بموازنة مليارية تتوزع أو تنشط في معظم الدول العربية.

ما تفعله هذه الميليشيات، إلى جانب خدمة الأهداف السياسية والاستراتيجية لإيران في الخليج والمشرق العربي، هو أنها توفر للنظام الجمهورية الإسلامية القدرة على ادعاء التهدئة وكف العدوان فيما يقوم غيرها عنها بهذه المهمة. فهي موجودة في كل الساحات لكنها، في الوقت نفسه، ليست موجودة في أي ساحة من الساحات بجيشها المباشر بل عبر مرتزقة وميليشيات تديرهم وتنسق حركتهم. تعطي الأيام القليلة الماضية مثالاً فجاً على ذلك، عبر التزامن بين الأنباء عن جولة حوار جديدة سعودية إيرانية والقصف بالصواريخ والمسيرات على السعودية والتي استهدف بعضها مطار أبها!

المشكلة مع إيران، أن طبيعة النظام هي النظام. إذا ما تغيرت تفتح المجال لتغيير النظام نفسه، ما يجعل التسوية مع إيران دائماً مجرد هدنة بين اشتباكين… هل ثمة جديد هذه المرة؟

تحالف صعب يشق طريقه إلى واجهة الشرق الأوسط الجديد تقوده تركيا وإيران. الاجتماع السادس للمجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي بين البلدين، الذي انعقد عبر تقنية «الفيديو كونفرانس»، الأسبوع الفائت، كان الخطوة الأحدث في بحث الدولتين عن ترتيب جبهة تخدم مصالحهما الاستراتيجية، وتعالج أزماتهما المتشابهة، الممتدة من الأمن إلى الاقتصاد إلى العزلة السياسية.

بيد أن ما نحن بإزائه يتجاوز في الواقع تحالف متضررين إلى محاولة جادة لفرز الدول في المنطقة بين مشروعين:

المشروع الآيديولوجي للإسلام السياسي بشقيه الشيعي بقيادة إيران، والسني بقيادة تركيا، ومشروع الدول الوطنية المتخففة من أثقال الآيديولوجيات، التي تتصدرها دول كمصر والإمارات والمملكة العربية السعودية.

تفسر ليبيا، كموضوع حديث لارتجال مساحة مشتركة بين إيران وتركيا، بعضاً من مرتكزات هذا الانقسام الجديد بين دول المنطقة. فالموقف الإيراني المعلن هو دعم حكومة فايز السراج الذي تدعمه تركيا، وتعترف الأمم المتحدة بحكومته، في مقابل دعم الإمارات ومصر والسعودية وفرنسا وروسيا لبرلمان طبرق والجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر. وفي الشق العسكري للتعاون الإيراني التركي في ليبيا كان لافتاً رصد سفينة إيرانية، في أبريل (نيسان) 2019، محملة بالأسلحة ومتجهة إلى ميناء مصراتة الليبي الذي تسيطر عليه ميليشيات مدعومة من تركيا.

صحيح أن ليبيا مهمة لإيران كبوابة رئيسية على أفريقيا، ومساحة للعب بالمزيد من ملفات التناقض العربي، كملف الأمازيغ في مقابل العرب في شمال القارة، إلا أن الموقف الإيراني في ليبيا نابع في الأساس من الالتقاء مع تركيا حول الخصم المشترك، وهو المحور العربي السعودي المصري الإماراتي.

وفي هذا السياق، لفت تقرير لموقع «جادة إيران»، المتخصص في الشأن الإيراني، إلى أن طهران في طريقها لتشكيل حلف إقليمي مع تركيا لمواجهة آخر تقوده السعودية والإمارات، بدافع من التغيرات الإقليمية التي طرأت مؤخراً، في إشارة لاتفاقي السلام بين الإمارات والبحرين من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى.

وكان سبق لممثل حركة «حماس» خالد القدومي، أن لمَّح إلى أن حكومات تركيا وإيران وقطر قد تبرم اتفاقية سياسية واقتصادية، في تصريحات لصحيفة «طهران تايمز» الإيرانية. وهنا بيت القصيد.

الأدلة على محاولات بناء جبهة عريضة للمشروع الآيديولوجي للإسلام السياسي (ولاية الفقيه هي إخوان الشيعة عملياً) في مقابل الدول الوطنية مكتوبة على الجدران.

فحين انتقلت موجة «الربيع العربي» من تونس إلى مصر، سارع علي خامنئي لوصف ما يحصل بأنه «ربيع إسلامي»، مراهناً ضمناً على وصول «الإخوان» إلى الحكم. وكانت زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، إلى القاهرة، في فبراير (شباط) 2013 كأول زيارة يقوم بها رئيس إيراني للبلاد منذ نحو 34 عاماً، للقاء الرئيس المصري الإخواني محمد مرسي التعبير العلني السياسي عن هذا التلاقي لقطبي الإسلام السياسي.

يتزامن هذا التلاقي بين أركان مشروع الإسلام السياسي مع محاولات حثيثة لتجريد الدول الوطنية من مشروعياتها الإسلامية، تماماً كما كانت آيديولوجيا القومية العربية منصة للطعن في لا شرعية «الأقطار» الوطنية، أو إضعاف شرعياتها لصالح الوعاء الآيديولوجي العربي الأوسع.

من الأمثلة على ذلك التقاء إيران وتركيا على دعم تكوين «منبر الدول الإسلامية» في كولالمبور كمحاولة لإحلاله مكان «منظمة التعاون الإسلامي» التي تتمتع فيها الرياض بنفوذ جاد ومقرها في جدة.

اللافت يومذاك أن رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، الذي لعب دوراً مركزياً في الدفع لعقد هذا الاجتماع، ما لبث أن امتنع عن الحضور في اللحظة الأخيرة.

بيد أن محاولات توسعة قوس دول الإسلام السياسي في مواجهة الدول الوطنية، لا سيما العربية، لم تتوقف، وهو ما ينبئ به الغزل المتصاعد بين إردوغان وعمران خان، وآخر الإشارات عليه تصريحات للرئيس التركي رجب طيب إردوغان إيجاد حل لقضية كشمير «بما يلبي تطلعات شعب كشمير»، مشيراً إلى «الأهمية المحورية لهذه القضية من أجل الاستقرار والسلام في جنوب آسيا»، ومنتقداً «إلغاء السلطات الهندية الوضع الخاص لإقليم (جامو وكشمير) والخطوات التي أعقب ذلك» بوصفها خطوات «أدت إلى مزيد من التعقيد في هذه القضية». وكان خان هنأ إردوغان بمناسبة إعادة فتح «آيا صوفيا» للصلاة، ووصف إقامة أول صلاة منذ 86 عاماً في مسجد «آيا صوفيا» بـ«التاريخي».

ومن أمارات الاختراق التركي للوعي الباكستاني على أسس عقائدية إسلامية وإمبريالية، ما تظهره بيانات موقع «غوغل» من أن وتيرة عمليات البحث عن كلمة «عثماني» في باكستان ارتفعت بشكل حاد هذا العام، وهو ما يُعزى بجزء كبير منه إلى الشعبية الهائلة التي يحظى بها في باكستان المسلسل التلفزيوني التركي التاريخي الخيالي «أرطغل»، والد السلطان عثمان الأول، مؤسس الدول العثمانية، الذي لا يعرف الكثير عن حياته وأنشطته.

وبموازاة ذلك تجتهد إيران لتعزيز علاقاتها بإسلام آباد، مستفيدة من كل حدث، لا سيما في حقل المواقف «الإنسانية» التي لا تكلف إيران أكثر من الكلام، ومستندة إلى تاريخ مديد، ولو متقطع، من العلاقات الاستراتيجية الإيرانية الباكستانية، قبل الثورة الإيرانية، وبعدها، وقبل الحرب الباردة، وبعدها، وخلال الحرب العراقية الإيرانية، وبعدها، وحتى يومنا هذا. ويبدو لي أن المحرك الأساس لهذه العلاقات في صيغتها الراهنة هو محاولة محاصرة الرياض وعموم محور الرياض – القاهرة – أبوظبي، كأولوية تعلو على أي أولويات أخرى.

لا ينبغي التقليل بالطبع من التحديات التي تواجه هذا الطموح لتركيب محور دول الإسلام السياسي، لا سيما بين تركيا وإيران، وخلافاتهما المعلنة في الملف السوري، أو المكتومة في الملف النووي، ولا فيما يتعلق بحسابات خاصة لدول كباكستان، التي تتمتع بعلاقات تاريخية استراتيجية مع السعودية والإمارات.

بيد أن ما يطغى على كل التحديات التي تعترض تكون واستقرار هذا المحور، هو التلاقي الاستراتيجي بين أجنحة محور الإسلام السياسي في مواجهة محور الدول الوطنية، محورين و اقتراحين متناقضين لمستقبل المنطقة.

ففيما تحاول الدول الوطنية إدارة مصالحها، بالاستناد إلى محددات واقعية عملية، تعتمد دول الإسلام السياسي محددات آيديولوجية صارمة.

وفيما تبدو الدول الوطنية مشدودة نحو المستقبل، بكل تحدياته العملية، في الاقتصاد والعلم والصحة والأمن، تبدو الدول الأيديولوجية مشدودة أكثر نحو التاريخ بحثاً في خرائطه، وحقبه، ومثالاته عن أمجاد يُراد إعادة تكوينها، ولو بالحديد والنار!