17 نوفمبر، 2024 12:52 م
Search
Close this search box.

على دلعونا

نبحث في هذه الحياة عن تلك التفاصيل الجميلة رغم بساطتها، المألوفة رغم غرابتها، الشبيهة بنا رغم أنها تنتمي لزمنٍ آخر يجري في عروقنا ويسكن في أرواحنا نغماً يراقص ذلك الحنين إلى الجذور، إلى الذات وإلى الأرض، يختصر تاريخاً وثقافةً وهويةً في كلمةٍ مميزة تسمى (بالدلعونا)……

الدلعونا التي لطالما ارتبطت في ذاكرة الشعوب بمنطقة بلاد الشام من سوريا إلى لبنان مروراً بالأردن ووصولاً إلى فلسطين، تلك الأغنية الفلكلورية التي تعانق رقصة الدبكة الشهيرة والمتعددة الطرق والأنواع، والمتشابكة كالحالات الإنسانية بين حزن وفرح أو مديح أو غزل عدا عن الأبيات الحماسية التي تعزف أنغام حب الوطن والإنغماس في الثورة ضد العدو..

ولهذه الأغنية الفلكلورية بدءاً من كلمة (الدلعونا) عدة حكايات أو تأويلات يعتقد أنها أصل هذا المصطلح فيقال أنها مشتقة من كلمة (دلع) والتي تعني الدلال، كما تقول أسطورةٌ قديمة إنّ شابًا شاميًّا افتُتِن بفتاةٍ تُدعى (عناه)، على اسم ابنة إلهة الخصب والحب والحرب لدى الكنعانيين (إيل)، ولكن هذين العاشقين افترقا مما فطر قلب حبيبها ليُصبح ويُمسي هائمًا ومنشداً لأحبائه وأهله (دِلّونّي على عناه)، وقيل أيضاً أنها جاءت من النداء لطلب العون في جني الثمار والقمح والحمضيات وبناء المنازل والتي اختصرت بمرور الزمن في القرى المختلفة في بلاد الشام حيث كانوا ينادون عاليًا لبعضهم (دلعونا)، حيث تنقسم الكلمة إلى حرف (الدال) وهو (أل) التعريف بالسريانية و(عونا) أي العون والمساعدة، ولاحقاً استقلت الكلمة (الدبكة) والأغنية عن أصل تسمية (الدلعونا) وأغانيها لتصبح تراثاً حاضراً في مختلف المناسبات سواءاً كانت للأعراس أو الأفراح أو حتى للمآتم كما للندم أو التشفي..

ويختلف شكل الدلعونا في الأداء فأحياناً تؤدى بالشكل التقليدي القديم حيث يُناغم الردّاد بآلات شعبية مثل اليرغول والشبابة (الناي) والمجوز مع المغني وفريقهما المكوّن من ١٠ راقصين للدبكة شابكين الأيدي على شكل دائرة، وفي بعض الأحيان تُغنّى الدلعونا دون دبكة كنوعٍ من الدندنة أو الإنشاد أو الغناء المصاحب لأي نشاط في الحياة اليومية، وقد تكون مزيجاً من الغناء بين الفرد والجماعة حيث يبدأ الفرد ببيتٍ من الدلعونا وتردّ جماعته بلازمةٍ معينة عبارة عن بيت شعرٍ واحد، أي نصف بيتٍ من ذلك الفن الذي يعتمد البحر (البسيط) في وزنها الشعري، وعدا عن كل ذلك فإن لحن الدلعونا متغير وليس أسيراً لنمط واحد مع ملاحظة أن بقية الأنماط المتفرعة عنه متسقة مع اللحن الكلاسيكي المتعارف عليه، وقد تتخذ أحياناً شكلاً أقرب للشجن والحزن لكنها أيضاً قد تتخذ ايقاعاً حماسياً راقصاً بشكلٍ تصاعدي يزيد من حالة الطرب والفرح الذي تحكمه حالة الراقصين (الدبيكة) وايعاز قائد الدبكة (اللويح) والذي يلوح بالمنديل والمنشد والعازف..

وتتألف (الدلعونا) من مطلع (على دلعونا على دلعونا)، ثم ينتهي شطر البيت ب (نا) مثل (على دلعونا وعلى دلعونا.. راحوا الحبايب ما ودّعونا)، وقد اتخذت أشكالاً شعرية وغنائية لا عدد لها بكل لهجة من لهجات بلاد الشام حيث قد تتشابه في اللحن والمواضيع ولكن يظل لكل بلد لمسته الخاصة التي تؤكد على التكامل بين تراث هذه المنطقة وثرائه والذي يصل أيضاً إلى منطقة شبه جزيرة سيناء في مصر حيث التقارب بين التراث السيناوي وبلاد الشام بشكلٍ عام والتراث الفلسطيني بشكلٍ خاص، كما نرى حتى اليوم أشكالاً جديدة ومستحدثة وتجديداً في التوزيع الموسيقي للدلعونا والكلمات والتي قد يلقى بعضها رواجاً إلا أن للتراث مذاقاً خاصاً لم تغيره السنوات ولا يمكن أن تتغير مكانته كونه جزءًا من الهوية التي عاشت وستعيش للأجيال المقبلة..

أحدث المقالات