ان القرارات الصحيحة السليمة, تاخذ متسعا من الوقت وتناقش فى جلسات عديدة من قبل المعنيين, ويؤخذ بنظر الاعتبار مختلف الافكار والاراء التى تطرحها الجماعات التى تمثل مراكز للرأى والقوى. بعد ان يتم الاتفاق يتم تحديد الاسباب والضرورات التى فرضت هذا القرار, وليس اخيرا تحديد السقف الزمنى الذى سوف يتم فيه تنقيذ هذا القرار. ان تحديد السقف الزمنى مهم جدا للذين يشملهم هذا القرار لكى يستطيعوا تنظيم اوضاعهم بمقتضاه, ومن اجل ان لايصيبهم اضرارا بليغة نتيجة للمباغتة فى التنفيذ.
ان البشر المتحضرون, والمسؤلون الذين يتحملون تبعات سلوكياتهم يعملون بهذه الطريقة, ولذلك تجد ان ديمومة الحركة والتطور مستمرة لانها تقوم على عقلانية اقرها المجتمع من خلال مسيرته الطويلة والتى ياخذ بها عموم الشعب, خاصة , ان الذين قاموا بالتخطيط والنقاشات يتمتعون بمصداقية عالية, ويمثلون القاعدة القديمة والجديدة دائما: “الرجل المناسب فى المكان المناسب”.
كيف نصف البرلمان العراقى حينما اتخذ هذا القرار العجيب والغريب فى منع شرب ,تحضير صناعة واستيراد الكحول وفرض عقوبات مادية وبالسجن لمن يخالف احكام القرار. جاء القرار مفاجئا للشعب بشكل عام, ولم تحصل تسريبات من وسائل الاعلام حول الموضوع, هذا يعنى ان القرار لم يكن غالبية النواب الاشاوس على علم به, ولم يخضع للنقاش والتداول, وجاء , كما يمكن القول فى غفلة من الزمن, هل كان ممثلينا الاشاوس فى حالة غيبوبة, او ربما ما زالوا سكارى من عناء ليلة العشق والطرب والمزاج التى جمعت العديد منهم, او انهم لم يكونوا حاضرين منذ زمن, ورفعوا ايديهم بالموافقة دون ان يكونوا على علم بمضمون القرار الذي تم التصويت علية, واذا كانوا على علم او لم يكونوا فما هو الغريب بالموضوع, انهم جاؤا الى البرلمان فى غفلة من الزمن, يشغلون مناصب لم تكن حاضرة فى احلام اليقظة . ان ممثلينا الاشاوس يلبسون معاطف وبدلات اكبر منهم, قد افقدتهم القدرة العقلية والعملية لادراك ما يقومون به او يمتنعون عنه. حينما نتطلع الى اوضاع البلد وهو فى حالة حرب ضروس شرسة مع طغاة الارهاب والقتل والتخلف, فأن واجباتنا الوطنية فى توحيد الصفوف ومؤازة القوات المسلحة من الجيش وقوى الامن الداخلىوالقوى الاخرى لتحرير الارض واعادة الكرامة الى الوطن يجب ان تأخذ الاولوية فى مختلف النشاطات المجتمعية, واذا يتحفنا البرلمان العراقى بقرار فريد غريب يفتقد العقل والمنطق وحسن التدبير, خاصة وصدوره فى وقت عصيب وغير مناسب تماما, لقد افرز هذا القرار مواقف شديدة التباين بين صفوف مختلف قطاعات الشعب واصبح البرلمان والبرلمانيون موضع تهكم وسخرية, وليس هذا فحسب وانما بمحدودية عقل وادراك البرلمانيون, ان ازمات مستمرة كان سببها البرلمان لعدم قيامه بتشريع
قوانين مهمة جدا لازالت تنتظر العدد القانونى لحضور النواب , واذا قدر وحضروا فانهم يفتعلوا الازمات, كما كان نظام صدام يفتعل الازمات فى التحكم بالسوق والمعروض من المواد الغذائية, والانشائية وبث الاشاعات, فى محاولة فاعلة فى اشغال المواطنين والركض المستمر فى البحث عن المواد الضرورية.
فى ليبيا القذافى كان منع الخمور سارى المفعول, حيث كانت المشاكل التى ارتبطت بهذا الموضوع والتى ترتبت علية, كثيرة جدا ومتنوعة, حتى ان ابعادها اصبحت من الخطورة بمكان. ان الدولة فى قرارها غير المعقول, لم تستطيع السيطرة على مختلف وسائل واساليب التهريب, لا سيما ان ليبيا لها شاطىء طولة حوالى 2000كيلومترا على البحر الابيض المتوسط, ويمكن ان تصل العديد من البواخر والسفن , بشكل رسميا وغير رسمى الشواطىء الليبية وتسلم البضائع من مختلف انواع الكحوليات, التى تصبح فى فترة قصيرة فى متناول الايدى, الا انها بأسعار عالية جدا وليس فى متناول اصحاب الدخول الضعيفة. هؤلاء اصبحوا ينتجون الكحول فى المزارع والبيوت ويقومون بعرضها فى الاسواق بطريقة سرية. الا ان هذه المنتوجات لم تكن موافقة للمواصفات والاستخدام البشرى, وغالبا كانت تنتج بطرق بدائية حيث لم يتم السيطرة على نسبة الكحول التى فيها, وحدثت مرات عديدة, بسبب نسبة الكحول عالية جدا فقد شاربوها البصر او اصابهم جلطات قلبية ودماغية لم ينجوا منها, فقد اصاب البعض العمى واخرون الشلل, او انهم قد فارقوا الحياة. بعد “خراب طرابلس” شكلت من قبل عميد كلية العلوم الاجتماعية/ جامعة طرابلس لجنة من عدد من الاساتذة الليبين والوافدين لدراسة الموضوع ووضع اقتراحات وحلول ممكنة, وعقدت بضعة اجتماعات, الا ان تشكلية معظم الاساتذة الليبين والمغتربين لم تكن موفقة واخذت تطرح المزايدات باسم الدين والعادات والتقاليد والحفاظ على صحة المجتمع, قد استمر المنع واستمرت المعاناة. ان الملفت للنظر ان هؤلاء الاساتذة كانوا يحضرون الكحول فى بيوتهم ويتبادولون الخبرات بصورة منتظمة فى غرفة الاساتذة. ان المقترح الذى قدمه احد الاساتذة الوافدين, الذي انهى خدماته فى العمل للسنة الدراسية القادمة تم رفضة ,علما بانه كان عقلانيا ويساهم بحل بعض من المشكلات, ويقوم المقترح على ان تفتح الحكومة محلات خاصة تقوم بطرح الخمور المستوردة والتى خالية من الشوائب الخطيرة وتحدد نسبة الكحول فيها وتباع للراغبين بكميات اسبوعية مقننة. ان هذا الاجراء ينهى الى حد كبير فوضى الانتاج المحلى وخطورته بالاضافة الى السوق سيطرة السوداء والمتاجرة بالاحتياجات الروحية والنفسية للعديد من الشرائح الاجتماعية التى تجد متعة فى تناولها.
كان على نواب مجلسنا العتيد ان يدرسوا, قبل “وقفة الشموخ” التى قاموا بالتصويت على القرار التافه, دراسة حالات مماثلة فى بلدان اخرى, ونستطيع ان نستخلص من الحالة فى امريكا بعد اصدار قرار منع الخمور فوائد كثيرة. ان منع الخمور قد ادى انتشارها بشكل واسع جدا, وبنفس الوقت الى سيطرة قوى الجريمة المنظمة على السوق وانتشار الرشوة والفساد فى مرافق الدولة, خاصة فى قطاع قوى الامن الداخلى والقضاء. ان اوضاع امريكا كانت كدولة فى الثلاثنيات والاربعينيات اخذ العقل من القرن الماضى افضل مئات المرات
من اوضاع الدولة العراقية الهلامية حاليا, ومع ذلك لم تستطيع الحد من انتشار الكحول طيلة سنين المنع, الى ان العقل مكانه ومكانته ثانية وقام بدوره الفعال: اخيرا تم نسف القرار الغبى نهائيا وعادة الامور الى مسارها الطبيعى.
ان السؤال الذى يجب طرحة, بما تفكر الحكومة وما هى الاهداف التى تنشدها من هذا المنع, هل تدرك بما هى قادمة عليه, ام انها سوف تخفى رأسها فى الرمل كما تفعل , النعامة حينما تتبلور الكارثة . اننى اسئل حول الاتجاه الذى سوف يسير الالتفاف فيه على القرار , هل ستكون المخدررات الكيمياوية وحبوب الكبسلة , والترياق الايرانى, ام ستكون عمليات التهريب المنظمة, لبلد لم يتمكن لحد الان من حماية حدوده, عملية فى غاية السهولة والبساطة ومصدرا جديدا لثراء الاثرياء والمتنفذين والعصابات المسلحة؟؟, هل سوف تصبح البيوت خمارات عشوائية خاصة, تنتشر فيها الدعارة والجريمة فى قلب المناطق السكنية ؟. لماذا كل هذا التسيب وعدم الحرص على السلم والامن الداخلى واستقرار الاوضاع وتحديد المناطق لاستخدامات محددة, لماذا تسعى النخبة الجديدة على اشاعة الفوضى وتقويض اعرافنا الاجتماعية والتدخل المستمر فى اسلوب وطريقة حياة المواطنين, خاصة ونحن نشكل مجتمع متعدد القوميات والاثنيات والاديان, لماذا نمنع المسحيى بما لم يمنعه دينه عنه, ولم يمنعنا ديننا الاسلام, ولكن حذرنا منه, وجاء نصا, اجتنبوه!!!
اننى على ثقة تامة, من ان هذا المنع سوف لا يؤثر على وضع العديد من المعممين والمتنفذين والنخبة الحاكمة, وسوف لا يمسها القرار من قريب او بعيد, فهى سوف تستلم حصتها التموينية من الخمور المستوردة الفاخرة الى البيت مباشرة, وعلى عين الحاسدين مجانا وبدون تأخير!! انهم ايضا بحاجة ماسة الى ساعات من الهدؤ والراحة فى جو متسامى بالخمور والمقبلات, بعد الخطابات والطروحات التى لايصدقوها انفسهم. وكما هو معروف فان الانذال لا يشعرون بالمتعة الكبيرة واللذة الملتهبة الا حينما يكون الاخرون محرومين منها.