العقود التي مضت تحت حكم النظام المغلق او الشمولي لا شك أنها تركت آثارها فينا جميعا ، وتسللت لنفوسنا، رغما عنا ، سلوكيات تحيلنا على الدوام ، وازاء كل خلل يحدث في العراق الجديد ، الى عقد مقارنة غريبة بين الماضي والحاضر ، وأنه لمن دواعي السخرية هنا أن يتطرق بعضنا أحيانا الى (أيام كبل) بأعتبارها اياما زاهية ، ولست أدري ما المقصود (بأيام كبل)، فتاريخ العراق لم يشهد اياما زاهية ابدا ، وان كان المقصود منها نوعا من الاستقرار السياسي في الانظمة السابقة فهو لا يعني على الاطلاق نوعا من انواع الرفاهية الحياتية للشعب ، ناهيك عن الاضطرابات التي تحدث على جميع الاصعدة ، وغير ذلك من كوارث التسلط بكل أنواعه .
مشكلتان عصيتان عن الحل الجذري هن من سيتحكمن بالعراق ، الطائفية وتداول السلطة ، وكلا المشكلتين منتج من الآخر وبالعكس ، كما ويمكن اللعب عليها وتكييفهما في كل وقت لكسب مصالح هنا وهناك ، وأهم ما يربطهن هو قابليتهن على دخول العنصر الخارجي طرفا بصور مختلفة ، والامكانية الذاتية على توليد الازمات ، وملازمة عدم الثقة والشك بالآخر ابدا .
هاتان المشكلتان استطاعت النظم الدكتاتورية في العراق الغاءها بالقوة ، فكان النظام السابق يعد كل من يخرج عليه ، من مناطق اخرى ، طائفيا تابعا لدولة اخرى وطامعا بالسلطة ، وحين يخرج عليه أحد من طائفته يتهمه بطلب السلطة .
ولذلك فقابلية هاتين المصيبتين على تحولهما الى تهمة افادت في السابق وتفيد الآن كل من لديه اعتراض او مطمع ، وحتى لو ارتفعت لغة الوحدة والحوار فأنّ مكامن هاتين المصيبتين في النفوس تؤجج نارا حامية لا تخمد ، ويفقس رحم عدم الثقة لعنات واتهامات تاريخية لن تبرأ ، حتى وأن اوجدت الاطراف حلولا ، او استوردت نماذج لتداول السلطة ، وحتى لو خمدت نار الطائفية ، فسيظل الخطر قائما ، وامكانية اشعال النار بأيد عراقية او خارجية لن تنتهي .
وما ذكرته عن التأثيرات النفسية التي تركها النظام الشمولي يتمثل بالرغبة بوجود شخص قوي يبحث عنه العراقيون ، ويتداولونه في جلساتهم الخاصة (دكتاتور عادل) ، قادر على تعليق المجرمين على الاعواد ، واخراس كل من يريد الشر بالعراق ، وهذه الدعوة بحد ذاتها بدايات صناعة الانظمة الشمولية ، ولا يخفي العراقيون حاجتهم لرجل قوي ، ولكن ماذا يقصودون بالقوي؟
المظاهرات مثلا رمت كل اخطاء العراق على اكتاف المالكي ، شرطي اعتدى على مسجون سببه المالكي ، اعتداء هنا او هناك سببه المالكي ، نقص في الخدمات سببه المالكي ، خلل في الدستور سببه المالكي ، كل ما يحدث في العراق سببه المالكي ، أيوجد تحليل لذلك ؟
مما لا شك فيه ان الرجل يتحمل قيادة العراق في هذه المرحلة ، وأن اخطاء كبيرة تحدث في كل مدن العراق ، غير أن رمي كل ما يحدث ، صغيرا او كبيرا ، على ظهر المالكي إن هو الا شكل من اشكال ترسب صفة من صفات النظام الشمولي في النفوس ، واعني هنا سيطرته (النظام الشمولي) على كل مفاصل الحياة ومعرفته بكل دقائق الناس وهو ما كان نظام البعث الفاشي ناجحا فيه بامتياز ، ومن المفارقات ان صدام حسين حوكم لنفس السبب ، وكان يقول ان الاخطاء قد تحدث دون علمي ، وكنا نقول له انت تعلم بكل شيء . اننا نكرر الاسلوب نفسه ، ولست هنا عاقدا تشابها بين نظام صدام الدتكتاتوري ونظام المالكي الديمقراطي فليس ثمة مجال للمناورة والمقارنة ، لكن المقارنة في رد الفعل العملي والنفسي الحالي الذي يمارسه خصوم المالكي .
ولكن كيف يمكن ان نحدد ذلك ، وكل النفوس محكومة بذينك المصيبتين أشئنا ذلك أم أبينا .
اظن ان البحث عن رابط آخر غير الطائفة سيدفعنا الى حل مشاكلنا وعدم احالتها الى مبررات العداء التاريخي الديني على الدوام ، وما دامت المشكلة بين طائفتين من العرب ، فلم لا نبحث عن العروبة ، ليس بالمعنى التمييزي ، بل بمعناها العربي قبل الاسلام ، لتكون مرتكزنا البديل ؟