رجاني صديقي خالد مروان للذهاب معه الى البار ليشرب وحده الخمر ، كانت قناعاتي الدينية تبعدني عن الخمر ، وحتى بعد التخلي عن الدين لغاية الآن لم أذق طعمه ، ذهبت معه ، خالد عالم مدهش من الخبرات والحكايات ودفق مشاعر الأخوة ، رجل إسطوري يرفض وصفه بالإنسان الذي عركته الحياة ، بل يرى هو من ضحك على الحياة وسخر منها !
إنزوينا في ركن البار بعيدا عن الآخرين .. بعد إمعانه بالشرب أخذ خالد يغني همساً ، بدأت أمواج الأحزان والوجع تتدفق ، وطفقت الروح المجروحة تسرد قصتها عبر نبراته الحزينة ، الغناء الحقيقي وجع الروح ولوعتها ، أخبرني خالد في إحدى المرات انه يعاني من ورطة الحياة التي إكتشف تفاهتها وغياب مبرر وجودها ، وتساءل : مامعنى الخلق والموت دون خيارنا وإرادتنا الحرة ، ماهذه اللعبة ، ما معنى إيجاد حياة دون زرع العدالة بها كنظام دائم مفروض على الجميع مثل الهواء والماء ، لماذا الإنسان لايكون في أصل تكوينه خيراً نبيلاً ، وقال كلاما خطيرا .. كل إنسان يحترم نفسه إذا عرف أسرار هذه التفاهة التي تسمى الحياة يجب عليه مغادرتها ولايجدر به المشاركة فيها وإلا يكون جبانا منافقا !
لم أستطع إمساك نفسي في البار .. أشعل غناء خالد الحرائق في روحي ، وإنهمرت مشاعر الحنين كانت (( ميسون )) تعيش معي تتربع على عرش القلب وتخطفني ذكراها الى سماء حلم مجنون حيث تضعني في دوامة عصف زلزال تلك الأيام ، هل كان حبا طبيعيا ؟ .. كل عاشق يعتبر نفسه حكاية متفردة ، إلا أنا أعتبر تلك القصة جنونا لن يتكرر ، رباه ..! أية إمرأة خرافية كانت ، لقد تجسد فيها كل فتنة السحر الأنثوي ، فرح عينيها ، تراقص شعرها ، ميلان رقبتها ، همهماتها بحة ضحكتها ، وإندلاع عنفوان جسدها وهو يهتز أثناء مشيتها ، إجتمع المعنى ، وإرتهن الوجود بحضورها ، أين ذهب صخب ضجيج دقات القلب وحرقة اللهفة ، لماذا غادرنا الجنون ، مؤسف زحف سطوة العقل وسجنه لجنوننا ، إختفىت ، غابت تلك المرأة ، فإنكسرتُ أنا ، وإنهارت حياتي ! ، ليلتها ضغط غناء خالد على مجسات اللوعة وهيج الجراح ، وضعت رأسي على طاولة البار وأجهشتُ بالبكاء !
كنت أسأله (( ألست سعيدا بإكتشاف الحقيقة المقنعة لك ، ماذا تريد بعد ؟)) وكان يجيبني بعذاب المطعون (( إحترامي لنفسي يمنعني من مواصلة العيش في هذه المهزلة ، الفكر يجب ان ينتج عنه سلوك منسجم معه )) لم أستطع وقتها فهم مثاليته العالية التي فرضت عليه هذه الجدية والصرامة رغم عدمية فكره وعبثية نظرته للاشياء !
ألغى من حياته سؤال : (( ماذا بعد ؟ )) لأنه لم يطلب ولاينتظر شيئا ، إنتصر على نفسه وتجاوز بشريته ، وكانت أوقاته ميدان تدريب على حزم حقائب الرحلة الأبدية ، ونفذ وعده وإحترم نفسه وأنهى حياته بالإنتحار .
لم أكن أتصور أثناء نقاشي معه حول أهمية الأديان ووجود الله في حياتنا والمعنى الذي نستمده منه ونعيش من أجله .. لم اتصور في أسوأ كوابيسي الشيطانية اني سأبكي خيبة وفجيعة صدمتي الكبرى في كوني إنساناً ولد على هذه الأرض وإكتشف غياب الغاية العاقلة من الوجود وإنعدام المعنى والمبرر لكل شيء .. مفجع جدا ان تعي ذاتك وحقيقة وجودك بأنه عبارة عن فترة إنتظار الموت منذ لحظة الولادة ، وخلال مدة الإنتظار مفروض عليك العيش في تفاهات عبث الحياة وحتمياتها ، أمر فظيع انك مجرد رقم وشيء لاقيمة له سيموت ويتلاشى ، وليس هناك حياة أخرى ، لاجنة ولانار ، ولاخلود أبدي ، أيتام في تيه الوجود حيث لا حضور للأب الرمزي الذي كنا نعبده ونرجوه ونحلم ليل نهار بكسب رضا متوهمين وجوده ومراقبته لنا .. بعد الإنتهاء من قراءة كتاب الميزان في تفسير القرآن المكون من عشرين مجلدا .. وفي ذروة فرحي بهذا الإنجاز وإيماني بالدين والله .. ومض صوت في داخلي إستهجن وسخر من كل شيء .. أرعبني ذاك الصوت ، قمعته فورا وإعتبرته من وساوس الشيطان ، وبعد حوالي عشرين عاما خرج ذلك الصوت وأنار لي الطريق وأعطاني معولا ، وشرعت في تهديم الأوهام والأصنام … وتحول الصوت الى قناعة بغياب المعنى وأوهام الأديان وعدم وجود الرب .
أشعر بالحيرة والتردد كلما أريد إرسال السلام الى روح خالد موران .. إذ سرعان ما اصطدم بقناعتي بعدم وجود الروح والحياة الأخرى ، وأدرك ان خالد كان مجرد حضور بيولوجي و إنتهى نهاية لاتليق بنا نحن البشر ان نكون ألعوبة بهذا الشكل بيد أقدار مجهولة أو قوانين عمياء أوجدتنا !